“أبي كان هنا، كان ذاهبًا يحضر لنا الطحين لكنه استشهد”، فقط في غزة تسمع هذه الكلمات بين الأحاديث اليومية للأطفال الصغار، يقول أحدهم: “أبي كان، ثم أصبح في خبر كان، كنت أحبه، أما الأن فلا يوجد أب”، ذهب معه معنى الأمان وأصبحت الحياة من دونه قاسية موحشة.
هكذا أصبح آلاف الأطفال في غزة ضمن ما بات يُصطلح عليه بـ“ط م ب أ ح”، أحرف قليلة تختصر معاناة كبيرة، “طفل مصاب بدون أُسرة حيّة”، وهي توصيف طبّي جديد للأطفال الجرحى الناجين، والذين فقدوا أهلهم في العدوان الإسرائيلي على غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
كيف هم الأطفال في غزة؟ هل تعلم حالهم؟ هل ما زالوا يحلمون بلعبة أو نزهة؟ كلا، دعوني أخبركم كيف صارت أحلامهم التي دمّرها الاحتلال الإسرائيلي، أحلام صغيرة شابت مبكرًا أمام رغبة الصغار فقط بالأمان.
في مواجهة الموت
الحرب هي الحرب والموت هو الموت، حقيقتان جليتان، لكن ما بينهما معاناة لا تتوقف، ومأساة لا تتكرر في قطاع غزة الذي يعيش سكانه على ركام بيوتهم وحياتهم وذكرياتهم وجثث أحبتهم، بسبب اعتداءات احتلال لا يعرف التمييز بين ما هو عسكري ومدني، بين كبير وصغير، بين رجل وامرأة.
نبتعد قليلًا عن الحديث بلغة الأخبار، لأنها مهما قدمت من معلومات لا تشرح للعالم ماذا يعني أن تعيش في أكثر مكان مكتظ في العالم، تحت احتلال لا يتوقف عن اختلاق ذرائع ليدمّرك، وماذا يعني أن تعيش كإنسان فاقد لأبسط حقوقك، حتى حقك في أن تحيا بسلام وتموت بسلام لا تملكه.
بعض آثار الحروب لم تقتصر على الأشخاص والمنازل بل أثّرت على قلوب الصغار الضعيفة، وبات الخوف والقلق من استمرار الحرب هاجسًا يلازمهم.
ماذا يعني أن تستيقظ لتجدَ كل تفاصيل حياتك تغيرت، لمجرد أن طيارًا ما لا يعرفك ولا تعرفه قرر في لحظة عبثية أن يلقي صاروخًا مدمِّرًا، قاده القدر فوق رؤوس عائلات بأكملها فدمّرها؟ ماذا يعني أن ترى أبناءك تحت الأنقاض وأنت معهم عاجز عن أن تواسيهم بالكلمات، فقط لأنك فارقت الحياة، وتركتهم يواجهون مصيرهم؟ ماذا يعني أن يدفن الطفل أباه وأمه وهو لا يعرف حياة بعد؟ ماذا يعني أن تنجو بأعجوبة لكنك تعيش مقتولًا حياة بأكملها؟ وآلاف من الأسئلة التي لا يعرف إجابتها سوى من عاشها واختبرها.
هذا هو حال قاطني غزة لكن الأطفال هم الضحايا دائمًا، هم مشاريع شهداء أيضًا، ويشكّلون النسبة الأكبر من عدد الشهداء الذين يموتون تحت أنقاض منازلهم، حتى مَنْ كان منهم يحاول التعافي نفسيًّا من آثار الحرب لم تعطه الحياة فرصة أخرى للبدء مجددًا، ليستشهدوا مع أسرهم تاركين هذا العالم.
المعاناة في قطاع غزة طالت الجميع أطفالًا ونساءً، إذ تشير أحدث التقارير إلى ارتفاع حصيلة الشهداء من النساء والأطفال في القطاع، فضلًا عن الأوضاع الإنسانية القاسية منذ اليوم للحرب، حتى أصبحت التكلفة الحقيقية للحرب تُقاس بحياة مَن استشهدوا جرّاء القصف الإسرائيلي أو تغيرت نفسيتهم إلى الأبد بسببه.
يلقى الأطفال حتفهم في منازلهم وهم نيام، في مشاهد جديدة تذكّر بأن حرب غزة لم تدمّر فقط المنازل وتشرد العائلات بل فرقت بعض أفرادها إلى الأبد، وسلبت الصغار على وجه الخصوص أحلامهم وطفولتهم.
وتقول منظمة “أنقذوا الأطفال” الخيرية الدولية، إن العدوان الإسرائيلي على غزة أودى بحياة 10 آلاف طفل ورضيع فلسطيني منذ بدء العدوان، وتقول منظمة الصحة العالمية إن طفلًا واحدًا يُقتل كل 10 دقائق في قطاع غزة.
قبل شهرَين، وتحديدًا في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني، كان عدد الشهداء من الأطفال 5 آلاف شهيد من إجمالي 12 ألف شهيد، وفي ذلك دليل على ما تقوله اليونيسف إن الأطفال أكثر عرضة للوفاة بسبب إصابات القصف بنحو 7 أضعاف من البالغين، لأنهم أكثر حساسية وعرضة للإصابة.
صورة نكراء للمشاعر الإنسانية حينما يكون 40% من شهداء غزة من الأطفال، بينما يتعرض الناجون منهم لأبشع صور العنف في حياتهم، سواء بتداعيات العدوان أو الحصار الإسرائيلي الذي يترك في نفوسهم جراحًا لن تداويها الأيام.
وبحسب تقرير صادم لهيئة الأمم المتحدة للمرأة عن أوضاع النساء والأطفال في غزة، فإن هؤلاء هم الضحايا الرئيسيون في الحرب الإسرائيلية على القطاع، ويتجاوز عدد الشهداء من هاتين الفئتَين حاليًّا 3 أضعاف حصيلة الضحايا الفلسطينيين في المواجهات مع الاحتلال الإسرائيلي خلال السنوات الـ 15 الماضية.
وبالمقارنة بين الحرب الحالية والسابقة، شكّلت النساء والأطفال 70% من ضحاياها (16 ألف طفل وامرأة)، وهي نسبة قد تزداد مستقبلًا بسبب الأوضاع الإنسانية المتدهورة، في تحول كبير منذ عام 2008، بعد أن كانت نسبة الضحايا من النساء والأطفال نحو 14% آنذاك.
وتقدّر الوكالة الأممية المعنية بتعزيز المساواة بين الجنسَين، أن اثنتين من الأمهات تستشهدان كل ساعة في غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وبالنسبة إلى الأحياء منهن، فإن العبء الأكبر يقع على عاتق النساء النازحات من القطاع، فمن بين سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة هناك 1.9 مليون نازح، وما يقرب من مليون امرأة وفتاة يبحثن عن ملجأ، ويفتقرن للحماية والأمان.
ونتيجة للصراع الذي تجاوز الـ 100 يوم، أصبح ما لا يقل عن 3 آلاف امرأة أرامل وربّات بيوت ومسؤولات عن إعالة الأسر، ومن المتوقع أن تستمر التكلفة الإنسانية في التفاقم بشكل كبير، من دون نهاية لهذه الحرب وعدم وصول مساعدات الإنسانية بشكل كامل.
تحتضن الأمهات ما تبقى من أطفالهن بعد أن كُتب لهم عمر جديد حتى الآن، وبعضهم ظل إلى جانبهن ليشعر بالأمان، فبعض آثار الحروب لم تقتصر على الأشخاص والمنازل بل أثّرت على قلوب الصغار الضعيفة، وبات الخوف والقلق من استمرار الحرب هاجسًا يلازمهم، فهم لا يعلمون ماذا تقصف “إسرائيل”، ولماذا يحب الأطفال الحياة ويريدون التنعُّم بطفولتهم البريئة كغيرهم من أطفال العالم.
الناجي الوحيد.. أطفال بلا أهل
عدة حروب عاشها الأطفال الفلسطينيون، لا سيما في غزة، مبكرًا جدًّا خاضوا الاختبار، مبكرًا جدًّا تعلموا الصمود، لكن حتمًا هذه الحرب الدائرة حاليًّا كانت الأشد، وجعلتهم أكثر الفئات التي تعاني في صمت، فكل يوم من أيام العدوان الإسرائيلي على القطاع يمرّ قاسيًا ومؤلمًا وصعبًا على الأطفال.
ربما اعتاد الأطفال الغزيون مشهد الحرب لكنهم لم يعتادوا ألم الفقد بالتأكيد، فأعداد الضحايا ترتفع يوميًّا، ومع غياب أفق قريب لوقف الحرب تأتي الصواريخ في نهاية المطاف، يصبح محظوظًا مَن يجد مَن يحمله، والحظ المكتمل أن يجد الأطفال آباءهم حتى ولو اجتمعوا على سريرَين متجاورَين في أحد المستشفيات.
أطفال آخرون أقل حظًّا أو هكذا كانوا يعتقدون قبل أن يأتي دورهم، ويشكّلون النسبة الأكبر من بين أكثر من 25 ألف فلسطيني اُستشهدوا في غزة حتى اليوم، وأصبحت حياتهم مجرد ذكرى، ربما لم تستوعبها بعد عقول الأطفال، وتحديدًا ممّن نجوا وحدهم.
تشير منظمة الأمم المتحدة إلى أن 10 آلاف طفل فقدوا آباءهم، أي أصبح كل واحد من هؤلاء يتيم الأبوَين، بعد استشهاد الأم والأب بسبب الغارات الإسرائيلية، وقتها لم يعلم الطفل أنه حُرم من حضن الأم وأمان الأب إلى الأبد.
هذه الخسائر البشرية غير العادية التي خلّفتها الحرب على الأطفال، استدعت ما أشرنا إليه سابقًا بالأحرف الخمسة “ط م ب أ ح”، هذا الاختصار المرعب الذي ظهر داخل مستشفيات غزة، وسلطت جنوب أفريقيا الضوء عليه لأول مرة في قضية الإبادة الجماعية ضد “إسرائيل” في محكمة العدل الدولية.
ووفقًا للجرّاح المكسيكي الذي يعمل مع منظمة “أطباء بلا حدود” ألدو رودريغيز، الذي قضى 3 أسابيع في مستشفى غزة، فإن بعض اللحظات الأكثر صعوبة بالنسبة إليه عندما كان لديه مرضى صغار جدًّا، كانوا الوحيدين الأحياء بين أفراد أسرهم، ووصلوا إلى المستشفى بمفردهم، ونظرًا إلى العدد الكبير من الأطفال الذين يصلون دون أي فرد من أفراد الأسرة، “بدأ باستخدام هذا الاختصار” كما يقول.
مشاهد الأطفال في غزة سواء كانوا أحياء أو شهداء، هي الأكثر ألمًا بين كل المشاهد، ما بين طفل يقف مرتعشًا من الرعب ولم يستوعب بعد ما حدث، وطفل آخر يقف مصدومًا بجوار جثة والده أو والدته، وطفل ثالث أصبح بين ليلة وضحاها هو الناجي الوحيد بين كل أفراد عائلته.
نظرات غاضبة وخائفة من مستقبل مجهول، نزوح وفقر وفقد للأحباء، قصص لا حصر لها تتناقلها الشاشات الصغيرة، وتُعرض على مرأى ومسمع العالم أجمع، وحين تتجول الكاميرا بين الخيام تسمع بكاء الصغار تجمعهم كلمة تتردد على الشفاه: “أريد أبي”، ويقول من يدرك مرارة الفقد: “كل ما أردته أن يصطحبني أبي إلى المدرسة وأن يلعب معي، لكن كيف سأواجه هذه الحياة من دونه؟”.
أرقام صارخة عن حالات الإجهاض والولادات القيصرية اليومية في ظروف طبية غير آمنة، قد تصل أحيانًا إلى وفاة الجنين أو الولادة من دون تخدير كأقل الخسائر.
وداخل المخيمات قد تتشابه قصص الصغار في الألم، لكنها قد تختلف قليلًا في التفاصيل ما بين طفلة بعمر العاشرة، كل ما تذكره أنها تناولت وجبة عشاء مع عائلتها وذهبت للنوم قبل أن يقتل القصف الإسرائيلي كل أفراد عائلتها وتنجو وحيدة، وطفلة أخرى فقدت عائلتها في قصف استهدف بيتها لكنها لم تدرك ذلك بعد، تبحث رفقة عمّتها بين الجرحى والمرضى لعلها تجد ناجيًا واحدًا من أفراد بيتها، وطفلة ثالثة نجت من الموت بيدٍ مثبّتة بأسياخ حديدية، وأخرى مبتورة، وتحاول عبثًا مسح دموعها.
مشاهد الفقد في غزة لا تتشابه، فلكلّ قصته، بين طفل تمتلكه الحيرة أمام جثمان أبيه، وآخر يتملكه الغضب، وهذا يمسك بساعة والده الراحل، وهذه تصرخ ملء حنجرتها بوجع اليتم الذي أصبح واقعًا يتشاطره عشرات آلاف الأطفال الغزيين في هذه الحرب.
ويتعرض العديد من الأطفال بشكل خاص للخطر بسبب انفصالهم عن عائلاتهم على طول ممرات الإخلاء إلى جنوب قطاع غزة، أو الذين يصلون غير مصحوبين بذويهم إلى المستشفيات للحصول على الرعاية الطبية، ما يصعّب تحديد هويتهم والبحث عن المفقودين ولمّ شمل الأسرة.
وحتى أطفال غزة الذين لم يبصروا النور بعد لهم من المعاناة نصيب، أرقام صارخة عن حالات الإجهاض والولادات القيصرية اليومية في ظروف طبية غير آمنة، قد تصل أحيانًا إلى وفاة الجنين أو الولادة من دون تخدير كأقل الخسائر.
يوم في حياة طفل فلسطيني
في دول العالم يحظى الطفل بالرعاية والاهتمام، ويتمتع بكامل حقوقه، لكن الأطفال في غزة مختلفون عن أطفال العالم أجمع، فهم الذين يكبرون في اليوم عامًا، وفي العام 10 أعوام، هم الأطفال الذين كُتب عليهم النزوح والانتقال داخل سجن كبير في حالة من عدم الاستقرار التي لا تنتهي.
الطفل الفلسطيني يعاني من الحرمان، ويفتقد إلى اللعب واللهو والمرح، ويكابد واقع الحياة المأساوي، على الرغم من ذلك يحاول أن يصنع مستقبلًا أفضل له بعيدًا عن كل المنغصات التي صنعها الاحتلال الإسرائيلي.
بلغ عدد الأطفال الفلسطينيين منتصف هذا العام نحو أكثر من 2 مليون طفل، وتشكّل نسبتهم حوالي 44% من إجمالي السكن، وحوالي 41% في الضفة الغربية، و47% في قطاع غزة.
منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسف” تقول إن القطاع المحاصر أصبح اليوم أخطر مكان في العالم على الأطفال، وقد تحول الوضع من “كارثي” إلى “شبه منهار” على حد وصف المديرة التنفيذية للمنظمة كاثرين راسل، التي أكدت أنه لا يوجد مكان آمن في قطاع غزة، مضيفة أن المناطق المقترحة لا تملك البنية التحتية أو تدابير الحماية اللازمة لتلبية احتياجات هذه الأعداد الكبيرة من المدنيين.
وكشفت المنظمة أن قرابة مليون طفل فلسطيني هُجّروا قسرًا من منازلهم في غزة، ويعيشون ظروفًا بيئية صعبة في مراكز الإيواء المكتظة، والتي تفتقر لأدنى مقومات الحياة في أقصى جنوب القطاع المحاصر الذي يشهد قصفًا إسرائيليًّا أعمى.
🔴 الأمم المتحدة: قطاع #غزة هو أخطر مكان في العالم يمكن لطفل أن يعيش فيه .. وقرابة مليون طفل هُجروا قسرا من منازلهم وعائلاتهم تفرقت.
– الأمم المتحدة: هناك حاجة الآن إلى وقف فوري ومستدام لإطلاق النار لأسباب إنسانية في القطاع.#مركز_الأخبار pic.twitter.com/80rbmUjNWz
— مركز الأخبار (@omantvnews) December 19, 2023
لا يجد مئات آلاف الأطفال الفلسطينيين في القطاع المحاصر الطعام بشكل كافٍ أو صحّي، ويتعرض أكثر من 335 ألف طفل دون سنّ الخامسة لسوء التغذية الحاد مع زيادة الظروف المؤدية للمجاعة، وأصبح حق الحصول على الطعام والشراب حلمًا لدى أطفال غزة.
ووفقًا لخبراء أمميين مستقلين، فإن جيلًا كاملًا من الأطفال الفلسطينيين معرَّض لمخاطر الإصابة بالتقزُّم الذي يحدث عندما يتأثر نمو الطفل بعدم كفاية التغذية، ويتسبّب التقزُّم في إعاقات جسدية وإدراكية لا يمكن علاجها، ما يقوّض القدرة التعليمية لجيل بأكمله.
ولأن “إسرائيل” تحارب كل أوجُه الحياة وتحاول قتلها، فإنها تحارب أهل غزة بحرمانهم من حقهم في الماء الذي هو في الأصل ماء وطنهم المنهوب.
قبل شهر تقريبًا، حذّرت اليونيسف من أن أطفال غزة لا يحصلون على 90% من استهلاكهم الطبيعي للمياه، مشيرة إلى أن الأطفال النازحين حديثًا في جنوب القطاع يحصلون بالكاد على قطرة للشرب، وتقدَّر الكمية اليومية من الماء بـ 1.5 إلى 2 لتر، وهو أقل بكثير من المتطلبات الموصى بها للبقاء على قيد الحياة.
ووفقًا لمعايير الإغاثة الإنسانية، يبلغ الحد الأدنى لكمية المياه اللازمة في حالات الطوارئ 15 لترًا، بما في ذلك مياه الشرب والغسيل والطهي، في حين أن الحد الأدنى المقدّر للبقاء على قيد الحياة فقط هو 3 لترات يوميًّا.
وأكدت اليونيسف أن خدمات المياه والصرف الصحي على وشك الانهيار، مشيرة إلى أن استمرار الأعمال العدائية، إلى جانب الافتقار إلى إمدادات الكهرباء، ونقص الوقود وأضرار البنية التحتية، يعني أن ما لا يقل عن 50% من مرافق المياه والصرف الصحي قد تضررت أو دُمّرت.
وفي مراكز الإيواء في جميع أنحاء القطاع، تنتظر طوابير طويلة من الأطفال والنساء لاستخدام مرحاض واحد لكل 700 شخص، في حين يضطر الأطفال وأسرهم إلى استخدام المياه من مصادر غير آمنة شديدة الملوحة أو التلوث، وهو ما يهدد بقاءهم على قيد الحياة.
وتتعالى التحذيرات من مخاطر مأساوية للجفاف والإسهال وانتشار الأمراض وسوء التغذية على الأطفال، وتشير اليونيسف إلى تسجيل 20 ضعف المتوسط الشهري لحالات الإسهال المبلغ عنها دون سن الخامسة، كما تزداد المخاوف بشأن الأمراض المنقولة عبر المياه مثل الكوليرا والإسهال المزمن.
وخلال الأيام الأخيرة، زاد هطول الأمطار من الوضع سوءًا، بعدما أدّى إلى تشكيل أنهار من النفايات، لتمثل بذلك القمامة المتكدّسة ومياه الصرف تهديدًا جديدًا لصحّة النازحين الذين يمثلون 85% من سكان القطاع المحاصر.
كل هذه الأوجه تجعل من المرض وحشًا مرعبًا يجول القطاع، موزعًا تهديدات إضافية بالقتل تُضاف إلى قائمة التهديدات التي تحاصر الأطفال الأبرياء من كل الجهات.
آثار الحرب الممتدة.. جيل من مبتوري الأطراف
الأطفال في هذه الحرب هم الجرحى والمشوهون دائمًا، حيث تترك الحرب على أجسادهم آثارًا لا يستطيع الزمن محوها، من بتر أيدٍ أو أرجل أو إعاقات كفقدان البصر أو السمع.
“أطفال غزة عالقون في كابوس يزداد سوءًا كل يوم”، حقيقة صارخة عبّرت عنها المديرة التنفيذية لليونيسف، التي تقول إن أكثر من 1000 طفل خضعوا لعمليات بتر الساقَين جرّاء الحرب على القطاع.
وتتقاطع تلك الحقيقة مع تقرير مؤلم لمنظمة “أنقذوا الأطفال” الخيرية، التي تقول إن أكثر من 10 أطفال يفقدون يوميًّا إحدى الساقَين أو كليهما منذ بداية الحرب.
يعيش هؤلاء الصغار تاريخ بلدهم لحظة بلحظة، جميع أنواع العدوان عليهم وعلى طبيعة الحياة التي يعيشونها، لكنهم لا يستطيعون العيش كأطفال طبيعيين يجرون ويلعبون بعد أن أصبحت حياتهم مقيدة بالكراسي المتحركة، حتى مسكّنات الألم التي تساعد مبتوري الأطراف الذين يعانون من آلام مزمنة تكاد تكون معدومة.
الاحتلال أراد عن عمد أن ييتم هؤلاء الصغار الذين طالهم المرض والعجز، ويحول طفولتهم إلى مأساة لن تدوايها الأيام، ويتركهم يواجهون مصيرًا عاجزًا بأقدام مبتورة.
العديد من عمليات البتر تتم بلا تخدير، فنرى في عيون بعض هؤلاء الأطفال الأبرياء الكثير من الصمود لتحمُّل ألمهم الجسدي، لكن آخرين لا يقوون على تحمل كل تلك الآلام، ولا يمكنهم الحصول على ما يسكّنها ويداوي الجراح والحروق، فتتعالى الأوجاع وتنادي: “هل من مجيب يرحم ألمنا أمام انهيار واضح لنظام عالمي لا يعترف بالقانون الوضعي ولم يخشَ القانون الإلهي؟”.
أصبح كل أمل هؤلاء الصغار ألا تُبتر سيقانهم، بينما يمنّي الكثير منهم النفس بالحصول على طرف صناعي بدلًا من سيقانهم التي بُترت، وكأن الاحتلال أراد عن عمد أن ييتم هؤلاء الصغار الذين طالهم المرض والعجز، ويحوّل طفولتهم إلى مأساة لن تدوايها الأيام، ويتركهم يواجهون مصيرًا عاجزًا بأقدام مبتورة.
مواقف وإن تعددت يجمعها العنوان الأبرز، وهو جرائم الاحتلال الذي لا يسمح بدخول الأدوية إلى المراكز الطبية، تاركًا المستشفيات تعاني لتوفير العلاج اللازم للصغار، خاصة أن غالبيتهم أصبح من دون عائلة، ويتولاهم من يتواجد في المستشفيات من أسر تتلقى العلاج أو ترعى الصغار، أو يُتركون داخل المستشفى وكأنهم في نوع من طيّ النسيان.
ويقول الأطباء وعمّال الإغاثة إن الوضع الطبّي المنهار في غزة، ليس في وضع يسمح له بمنح هؤلاء الأطفال الرعاية التي يحتاجون إليها لإنقاذ أطرافهم المبتورة التي لا تزال في طور النمو وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، بل إن العديد من الأطراف التي تمّ إنقاذها على ما يبدو ستتطلب بترًا، كما يقول طبيب بريطاني في طب الطوارئ يعمل لدى منظمة “أطباء بلا حدود”.
ولا تتوقف آثار العدوان الأخير على أطفال غزة عند التأثير المباشر، فمَنْ لم يطله الألم الجسدي طالته الآثار النفسية التي يخلفها العدوان لسنوات أكثر صعوبة وإيلامًا.
وبحسب منظمة “أنقذوا الأطفال” في عام 2021، كان نصف أطفال غزة حينها بحاجة إلى إعادة تأهيل نفسي بعد 11 يومًا فقط من العدوان.
في غزة، 4 من كل 5 أطفال يعانون حالة من الاكتئاب أو الحزن أو الخوف، وهو تدهور حادّ مقارنة بدراسات سابقة، وأكثر من 80% منهم يمرّون بأزمات نفسية وفقًا للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، وتقول وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا” إن جيلًا كاملًا من الأطفال يعاني من الصدمة في غزة.
وتشير تقارير طبية إلى أن أطفال غزة لا يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، لأن الصدمة لا تتوقف في الأساس، بل يعانون من نوبات متكررة تمتدّ لعشرات السنين، هذا عدا ما تخطه الحرب في نفوسهم، والتي ينتج عنها أمراض نفسية كالخوف وانعدام الأمن والسلوك العنيف والاضطرابات الانفعالية والسلوكية التي تشوّه طفولتهم وتهدد مستقبلهم.
للأسف، أصبح القلق رفيقًا دائمًا للأطفال تحت القصف، وتبدو بيوتهم ساحة حرب بدل أن تكون ساحة لعب، يحاولون جمع ما يستطيعون من ألعابهم التائهة بين ركام بيوتهم، ويبكون بحرقة، لكن أصعب ما في الأمر أن تراهم يلاحقون الحياة في كل شارع وزقاق على أمل السعادة، لكن ما يلاقونه قتل وإرهاب وتدمير وجنون لا ينتهي، ثم صمت وصاروخ وركام وعيون أطفال مرتعدة، لم تفهم بعد أن الحياة في القطاع أقسى من الموت كما يقول آباؤهم الذين يعزّون أنفسهم مكلومين بفقدانهم، ويقولون: “كلنا مشاريع شهداء، كلنا في سبيل الله”.
في ظل هذه الظروف، صارت أكبر أحلام أطفال غزة اليوم هو انتهاء الحرب، فعدم سماع صوت الانفجارات والصواريخ هو أكثر شيء يدخل الفرحة على الأطفال الذين لا تحتمل قلوبهم صوت الصواريخ وما تخلفه من دمار، ورغم كل هذه المآسي والمحن يتمسّك أطفال غزة بالأمل والإيمان.