عادة ما تكون الأزمات الإنسانية أول ما يتبادر إلى الأذهان في كل حرب تُخاض في المناطق الحضرية، لاكتظاظها بالمدنيين الذين لا يحصدون من أي قتال غير الجوع والأوبئة والتشرد وفقدان الممتلكات، فضلًا عن الموت، وهذا ما حصده السودانيون من صراع شراس مستمر في بلادهم منذ أكثر من 9 أشهر.
دفعت الحرب المشتعلة في السودان منذ 15 أبريل/نيسان 2022، أكثر من 7.6 مليون شخص للفرار من منازلهم، منهم 1.6 مليون شخص عبروا الحدود إلى البلدان المجاورة بحثًا عن الأمان، فيما نزح البقية إلى المناطق الآمنة واستقروا في المدارس وبعض المؤسسات الحكومية حيث يعيشون في ظل أوضاع إنسانية حرجة.
وارتفع أعداد الجوعى في البلاد، نتيجة التدمير الواسع لمصادر العيش سواء في الصناعة أم الزراعة أم المهن الحرفية، حيث يُعاني 17.7 مليون سوداني – نحو 37% من السكان – من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد، في وقت تعجز المنظمات الإغاثية عن الوصول لمن بحاجة ماسة للمساعدات بسبب انعدام الأمن.
وتقول الأمم المتحدة إن شخصًا من كل سودانيين اثنين – أي 24.8 مليون سوداني – بحاجة إلى المساعدات الإنسانية هذا العام، كما يفتقر الملايين إلى إمكانية الحصول على السلع والخدمات الأساسية مثل الغذاء والماء والمأوى والكهرباء والتعليم والرعاية الصحية والتغذية.
وبينما يُعاني 3 ملايين ونصف مليون طفل سوداني من سوء التغذية، هناك 19 مليون طفل خارج المدارس، ما يجعلهم عُرضة للتجنيد من الجماعات المسلحة، وهذا بدوره يجعل مستقبل السودان قائمًا على العنف.
مجاعة وشيكة
ولا تنحصر عواقب حرب السودان المتطاولة على الأوضاع الإنسانية فقط، وإنما تمتد لتشمل كوراث اقتصادية في ظل تدمير قطاعات الإنتاج وانخفاض قيمة العملة الوطنية وارتفاع أسعار السلع الغذائية والمحاصيل الزراعية.
وأصبح الدولار الواحد يُعادل 1200 جنيه، بزيادة أكثر من 100% قبل اندلاع الحرب، ما أضعف القوة الشرائية لملايين السودانيين الذين أصبح معظمهم عاطلين عن العمل نتيجة تدمير قطاعات الإنتاج الزراعي والصناعي، حيث باتوا يعتمدون على تحويلات المغتربين بنحو شبه كلي.
حققت المقاومة الشعبية المسلحة توازنًا في موازين القوة، ويتوقع أن تنخرط في القتال إلى جانب الجيش حال تقدم قوات الدعم السريع إلى مناطق وسط وشمال وشرق السودان
ويتوقع أن يظل معدل التضخم مرتفعًا بنسبة أكثر من 300% وفقًا لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، فيما لم ينشر جهاز الإحصاء المركزي أي بيانات عن التضخم منذ فبراير/شباط 2023 وكان آنذاك يبلغ 63%، وكل ذلك يعني أن السودانيين مقبلين على مجاعة إذا استمرت أسعار السلع والخدمات في الارتفاع في ظل تنامي البطالة.
وبات حلم معظم السودانيين، خاصة الفئات الشبابية غير المنخرطة في النزاع، مغادرة البلاد وهذا يظهر بوضوح في طوابير استخراج وثائق السفر في المدن الخاضعة لسيطرة الجيش، ما يؤكد انعدام أملهم في استعادة الاستقرار في وقت قريب.
تحليل في إستراتيجية طرفي القتال
في ظل تعثر الجهود الإقليمية والدولية لإنهاء الحرب سلميًا، يتوسع نطاق هجمات قوات الدعم السريع على مناطق جديدة بوتيرة متصاعدة، وسط مخاوف من اجتياحها مدن في وسط وشمال وشرق السودان، وهي مخاوف زدات من الاستقطاب الأهلي وانتشار السلاح.
يعتمد الجيش على عامل الزمن في هزيمة قوات الدعم السريع أكثر من تنفيذ هجمات واسعة النطاق، فانشغال قادة الأخيرة بالحرب يبعدهم مؤقتًا عن صراعاتهم الداخلية، وهي صراعات حتمًا في طريقها إلى الظهور
وتتسارع وتيرة انتشار السلاح في مناطق وسط وشمال وشرق السودان الخاضعة لسيطرة القوات المسلحة، تحت تنظيمات عديدة من بينها المقاومة الشعبية التي تعهد قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بتسليحها.
وحققت المقاومة الشعبية المسلحة توازنًا في موازين القوة، ويتوقع أن تنخرط في القتال إلى جانب الجيش حال تقدم قوات الدعم السريع إلى مناطق وسط وشمال وشرق السودان، ما جعل الأخيرة تتباطأ في تنفيذ تهديدات قادتها باجتياح مدن حيوية مثل شندي بولاية نهر النيل.
ورهن الجيش استئناف التفاوض بخروج قوات الدعم السريع من منازل المدنيين والمنشآت المدنية وإبعاد أفرادها خارج المدن، ولا يبدو أنه على استعداد للتنازل عنها حاليًا في ظل توازن القوة الذي خلقته المقاومة الشعبية وتزايد السخط الشعبي على الدعم السريع نتيجة الانتهاكات الفظيعة التي ترتكبها عناصرها.
والمتابع لوضع السودان يُدرك بوضوح أن رغبة قوات الدعم السريع التي تؤكدها مرارًا والخاصة بإنهاء الحرب عبر الوسائل السلمية غير صادقة، لكنها تعلن ذلك لمعرفة قائدها محمد حمدان دقلو “حميدتي” أن قادة قواته باتوا قادة حرب يمكن أن يشقوا عليه عصا الطاعة حال لم ترضٍ نتيجة التفاوض مطامعهم.
ويظهر أن الجيش يعتمد على عامل الزمن في هزيمة قوات الدعم السريع أكثر من تنفيذ هجمات واسعة النطاق، فانشغال قادة الدعم السريع بالحرب يبعدهم مؤقتًا عن صراعاتهم الداخلية، وهي صراعات حتمًا في طريقها إلى الظهور بعد أن بسطت سيطرتها على أجزاء واسعة من البلاد.
وفشلت الدعم السريع، وهي قوات يغلب عليها طابع الارتزاق، في إدارة المناطق الواقعة تحت سيطرتها وتشمل بعض أجزاء العاصمة الخرطوم وولاية الجزيرة وأربع من أصل 5 ولايات في إقليم دارفور وأجزاء من منطقة كردفان الكبرى، سواء من ناحية تنظيم التجارة أم تشغيل المستشفيات.
تلاشي آمال نهاية الحرب
يشتكي السودانيون من التجاهل الدولي لأوضاعهم الإنسانية وعدم ممارسة ضغوط قوية على طرفي النزاع لإنهائه بالتفاوض، لكن مستشار رئيس الوزراء في حكومة الانتقال والصحفي الشهير فيصل محمد صالح فنّد هذا الأمر في مقال نشره بصحيفة الشرق الأوسط.
ويقول صالح إن الحروب سواء في الجنوب قبل انفصاله في 2011 وإقليم دارفور وشرق السودان والأزمات السياسية بما في الأزمة التي خلفها الانقلاب العسكري الذي نفذه قائدا الجيش والدعم السريع في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، لم ينجح السودانيون في حلها دون تدخل خارجي.
إن ممانعة طرفي القتال في إنهائه سلميًا واستمرار تجييش المدنيين وارتفاع نسب البطالة وانكماش الاقتصاد، يعني أن السودانيين مقبلون على فترة قد لا يجدون فيها موردًا يعملون فيه من أجل إطعام عائلاتهم إلا عبر السلاح
وكان قائدا الجيش والدعم السريع على وشك تسليم السُّلطة للمدنيين، بعد توصلهما لاتفاق يسرته الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية المعنية بالتنمية “منظمة الإيقاد”، لكن خلافات القوتين حيال مسائل عسكرية عجلت بوقوع الحرب.
ونصح فيصل محمد صالح القادة السودانيين بتقديم تنازلات لصالح الوطن والشعب، بعد النظر إلى حال البلاد والاعتراف بالحالة المزرية التي أوصلوها إليها، مستبعدًا قبولهم بنصحه، مشيرًا إلى أن الحل الأمثل للحفاظ على سلامة ما تبقى من السودان هو القبول بالوساطات الإقليمية والدولية والانخراط فيها بجدية واحترام هذه الجهود.
يملك المجتمع الدولي وسائل فعالة لإنهاء حرب السودان مثل فرض حظر الطيران والتدخل العسكري لحماية المدنيين، لكنه يكتفي بالدعوات إلى وقف النزاع كما لم يمارس ضغوطًا كافية تدفع طرفيه إلى تقديم تنازلات في المفاوضات التي توسطت فيها السعودية وأمريكا بشكل مشترك قبل أن تُعلق.
ولا يتوقع أن تنتهي حرب السودان الحالية عبر الطرق السلمية في الوقت الراهن، وبالتالي سينصب جهد كل طرف على إلحاق هزيمة قاسية بالآخر تدفعه إلى الإذعان بشروطه، وهذا أمر مستبعد أن يحدث خلال فترة وجيزة، وبذلك سيصبح السودان كله مناطق صراع.
إن ممانعة طرفي القتال في إنهائه سلميًا واستمرار تجيش المدنيين وارتفاع نسب البطالة وانكماش الاقتصاد، يعني أن السودانيين مقبلون على فترة قد لا يجدون فيها موردًا يعملون فيه من أجل إطعام عائلاتهم إلا عبر السلاح، سواء بالانضمام للجيش أم الدعم السريع أم تأسيس جماعات مسلحة جديدة.