يعد عامي 1919 و2011 لحظة اكتشاف ونقطة فاصلة في تاريخ مصر الحديث، فقد وقعت فيهما ثورتان كبيرتان ولم تعد البلاد كما كانت عليه قبلهما، فقد مثّلت الثورة الأولى أول مواجهة شعبية ضد الاحتلال الإنجليزى، بينما الثانية أول مواجهة واسعة ضد الدولة الوظيفية التي أرسى هياكلها المحتل، ورغم أن الثورتين يفصل بينهما 92 عامًا، فإن هناك تفاصيل مشتركة بينهما والعديد من الدروس المستفادة.
التشابه بين الثورتين “1919” – “2011”
في كلتا الثورتين، كان الشباب وطلاب الجامعات هم من أطلقوا شرارة البدء وقادوا جموع الثائرين، كما كانت القاهرة مركز الاشتعال وشهد ميدان التحرير العديد من أحداث الثورتين، وحوصر فيه الثوار وصوبت نحوهم الأعيرة النارية.
في الأيام الأولى لثورة 1919، قابل البوليس المصري وسلطات الاحتلال الإنجليزي المظاهرات السلمية بقسوة، فاعتقل العديد من الطلبة وأطلق الرصاص على المتظاهرين، وسقط في اليوم التالي للثورة أول القتلى والجرحى، وكانت قطرات الدماء النازفة هي البداية الحقيقية لثورة 1919.
أما في الثورة الثانية، فقد كلفت قوات الشرطة المصرية بالتصدى للمظاهرات التي قابلتها بعنف غير مسبوق، وشهدت الثورة في أولى أيامها سقوط عدد من الشهداء والجرحى رميًا برصاص الداخلية.
استدعى القمع الوحشي الذي واجهته كلتا الثورتين، عنفًا منظمًا من الثوار، ففي الثورة الأولى، قطع الثوار أسلاك التلغراف ودمروا خطوط السكك الحديدية وعطلوا الطرق وحركة المواصلات وهاجموا أقسام الشرطة وحفروا عددًا من الخنادق في عدد من القرى والمدن.
أما في الثورة الثانية، فقد اشتبك الثوار مع الداخلية وخاضوا حرب شوارع شرسة، وأحرقوا سيارات وأقسام الشرطة، ودافعوا عن أنفسهم. ثم بعد أيام قليلة، كانت الثورتان قد اندلعتا في جميع أنحاء قرى ومدن مصر، وشهدت البلاد حالة فوران واضطرابات واسعة النطاق، وتزايدت اشتعالًا مع الدماء النازفة.
ويلاحظ أن الاتجاه الإسلامي كان حاضرًا في كلتا الثورتين، فقد انطلقت مظاهرات 1919 من جامع الأزهر والحسين، وكانت مساجد مصر في تلك الفترة بمثابة ملتقى سياسي، وكذلك في الثورة الثانية انطلقت المسيرات إلى ميدان التحرير من عدد من جوامع القاهرة، ولعبت أيام الجمعة دورًا رئيسيًا في كلتا الثورتين.
أيضًا شاركت المرأة في الثورتين، وكان حضورها قويًا، فعلى سبيل المثال يروي عبد الوهاب النجار في شهادته على ثورة 1919 أن نساء الطبقتين: الفقيرة والمتوسطة شاركن في الصف الأمامي للثورة وإن لم يؤرخ لهن أحد، والعديدات منهن كن يلقين الخطب المؤثرة، ويمشين في جنازات الثوار، ويجتمعن أيضًا في الجوامع مثل الرجال لحضور الملتقيات الثورية.
أما المرأة في الثورة الثانية فقد كانت أكثر جرأة وحضورًا من الثورة الأولى، لكنها لم تسع إلى تحقيق مكاسب فئوية في أثناء الثورة.
وكما ألهمت ثورة 1919 الكثيرين في جميع أنحاء العالم، أيضًا انتقلت ثورة 2011 إلى أقطار عربية أخرى، ربما لتشابه الشعوب العربية في ظروفهم الثقافية والسياسية والاجتماعية.
الثورة المضادة في 1919 و2011
في كلتا الثورتين عجزت الآلة العسكرية عن إيقاف مد الثورة والسيطرة على حركة الثائرين، واللافت حقيقة أنه في كلتا المواجهتين، واجه المصريون نفس الأساليب لوأد ثورتهم والالتفاف حولها، وإن كان حجم تحديات ثورة 1919 أكبر من ثورة 2011.
وفي يومياته يروي عبد الوهاب النجار الذي نشط في حراك ثورة 1919 وكان حاضرًا في اجتماعات الأزهر ومحتكًا بالضباط الإنجليز وكبار الشخصيات السياسية في البلد، أن الإنجليز في ثورة 1919 كانوا يقلبون الحقائق، فبعد اقترافهم الفظائع كانوا ينشرون على الملأ أن البوليس المصري والبلطجية هم الذين يرتكبون الجنايات ويقترفون المظالم.
كذلك في ثورة 2011 قالت أجهزة الأمن المصرية إن الإخوان والبلطجية وحماس وحزب الله هم من قتلوا المتظاهرين. وفي الواقع، تعرض شباب ثورة 1919 للتشويه كما تعرض شباب يناير، وطالت اتهامات التخوين قادة الثورتين والمشاركين فيها، واللافت أن كلتا الثورتين وصمتا بنفس المصطلحات: “المؤامرة – التخريب – الفوضى – الخروج على النظام – هدم الدولة – الغوغاء”.
أيضًا في كلتا الثورتين، فرضت قوى الثورة المضادة حظر التجوال وحالة الطوارئ، ففي الثورة الأولى، فرض الإنجليز حظر التجوال من الساعة السابعة مساءً إلى الخامسة صباحًا، وعندما فشل، أصدروا منشورًا آخر يحظر الاجتماعات في الشوارع والمقاهي والدكاكين والمحال العمومية، ومنع الاحتفال برؤية هلال رمضان.
كذلك في الثورة الثانية فرض حظر التجوال من الساعة السابعة مساءً حتى السادسة صباحًا، وحين فشلت هذه الورقة، استخدمت كلتا الثورتين المتضادتين ورقة الفوضى والتشجيع على أعمال التخريب والنهب من أجل النيل من سمعة الثورة وإظهارها في لون غير لونها ورمي المتظاهرين بالبلطجة وإلباسهم مظهر الإجرام، لكن اللافت أن هذه الورقة فشلت تمامًا في ثورة 1919، بينما في ثورة 2011 انساق العديد إلى خطابات “الفوضى” واستثمار مشاعر الخوف من غياب الأمن ونقص ضروريات الحياة الأساسية.
ويذكر النجار في شهادته على ثورة 1919 أن بعض اليهود بمساعدة من الاحتلال اندسوا في المظاهرات وهم يرتدون ملابس الأزهر، وحطموا بعض المحال التجارية بالموسكى وسرقوا البضائع، ولم يكتفوا بذلك، بل حطموا زجاج مصابيح الشوارع فى كثير من جهات القاهرة، وحطموا أيضًا عربات الترام.
وفي الواقع فإن نفس المبدأ الذي يرويه النجار قد حدث مرات عدة في ثورة 2011، وقد شاهد كاتب هذه السطور العديد من رجال الشرطة والبلطجية الذين كانوا مندسين وسط الجموع في المسيرات المتجهة إلى التحرير، ثم فجأة خرجوا من صفوف الثوار وحطموا عددًا من المحلات وسرقوا أجهزة كهربائية.
ويوضح النجار أن قضية الجواسيس والمندسين أرهقت متظاهري 1919، لدرجة أنهم شكلوا “شرطة وطنية” لحماية المظاهرات من المندسين، وقد ترأسها الشيخ مصطفى القاياتي، أحد أبرز خطباء الثورة، وكان مقرها في جامع “المؤيد شيخ”، واستطاعوا بالفعل الحصول على أسماء هؤلاء الجواسيس وأماكن سكنهم. لكن الثوار في 2011 لم يشكلوا أي حركة للتعامل مع هذا الأمر، وكانت في الغالب محاولات فردية لم تتكلل بالنجاح.
ثم حين فشلت المساعي السابقة لإجهاض الثورتين، ألصقت بهما تهمة تنفيذ أجندات خارجية، فقد اتهمت الثورة الأولى بأن الألمان والأتراك هم أصحاب اليد فيها، بل يذكر النجار أن الإنجليز ظلوا يتهمون الثوار بتلقي نقودًا ألمانية وتركية، بينما اتهمت الثورة الثانية بوقوف “حماس – إسرائيل – إيران – أمريكا – حزب الله – قطر” خلفها، واتهم الثوار كذلك بتلقي مئات الدولارات.
أيضًا في كلتا الثورتين، استخدمت ورقة “الفتنة الطائفية” من أجل الإيقاع بين الأقباط والمسلمين، وحين فشلت في الثورة الأولى، استعان الاحتلال بالأرمن القاطنين بمصر، ولعبوا دورًا مهمًا في مساندة الاحتلال الإنجليزي للقضاء على ثورة 1919، لكن فشلت أيضًا ورقة الأرمن، بل وانعدمت الحوادث الطائفية خلال أيام الثورة رغم محاولات إشعالها. وفي الحقيقة، شهدت الثورتان الكثير من قصص التلاحم الفريد بين المسيحيين والمسلمين.
في نهاية المطاف حاولت قوى الثورة المضادة تسكين هياج الشارع من خلال استمالة وجهاء الناس الذين لهم كلمة مسموعة بين الثوار، ففي الثورة الأولى فشل الإنجليز في استمالة وجهاء المجتمع ورفض العديد منهم القيام بذلك، بينما في الثورة الثانية، نجحت قوى الثورة المضادة في استمالة الكثيرين وكان على رأسهم الفنانون والإعلاميون.
وفي حين تحاشت الثورة المضادة لـ1919 الإساءة مباشرة للنساء، وخشي جنود الاحتلال من إطلاق النار على المظاهرات النسائية في 1919 مثلما أوضح النجار في شهادته، فإن الثورة المضادة لـ2011 أذلت وأهانت المرأة بشكل لم يسبق له مثيل، وذلك من خلال السحل والتعرية والتحرش اللفظى وكشوفات العذرية، ولا يزال العشرات يقبعن في سجون الثورة المضادة.
أما الموقف الدولى من الثورتين، فقد اتسم بالنفاق، ففي الأولى، وقفت إيطاليا وأمريكا وفرنسا في البداية مع الثورة، ثم سرعان ما اعترفت بحماية إنجلترا على مصر، وكذلك وقف الجيش المصري موقفًا سلبيًا، وكان يؤثر المهادنة مع الإنجليز، حيث يذكر النجار أن الفريق إبراهيم فتحي، أكبر ضابط مصري، اجتمع مع القيادات الثورية وأمرهم بوضع حد للثورة وتهدئة الشارع.
أما في الثورة الثانية، فقد أيدتها العديد من القوى الدولية والإقليمية، ثم سرعان ما دعمت الثورة المضادة في أقرب فرصة، خصوصًا الدول الخليجية التي رأت في ثورة 2011 تهديدًا لنفوذهم واستقرارهم، لذا ضخوا مليارات الدولارات لتمويل وتعزيز الثورة المضادة.
الاختلافات الجوهرية بين الثورتين
رغم فشل ثورة 1919 في تحقيق كل أهدافها وحصولها على استقلال ناقص، فإنها استطاعت تحقيق بعض الإنجازات، إذ أثمرت نتائجها في بناء حياة نيابية ومناخ ثقافي وسياسي جديد، أُقر على أثره حرية الصحافة والتظاهر، ثم تصريح 28 فبراير/شباط 1922 الذي أعلنت فيه بريطانيا إنهاء الحماية على مصر، وتبعه صدور أول دستور مصري عام 1923، كما تحسنت أحوال المصريين.
في الواقع، كانت ثورة 1919 بمثابة ميلاد جديد للمجتمع المصري، إذ نجحت في خلق واقع سياسي جديد وأنتجت كوادر قيادية في المجالات كافة، وهذا الواقع الجديد دفع المجتمع عدة خطوات إلى الأمام لتحقيق الاستقلال الكامل.
نشيد اسلمي يا مصر.. من تأليف “مصطفى صادق الرافعي”، وهو نشيد احتفى به المجتمع المصري كثيرًا.
وبالتالي من الممكن القول إن المصريين جنوا بعضًا من ثمار ثورة 1919 على العكس تمامًا من ثورة 2011، ففي الأخيرة، تغيَرت حياة المصريين للأسوأ وسرعان من انسد أفق التعبير ودب الخلاف بين شركاء الثورة وتناحرت الأحزاب السياسية، وذهبت للجلوس مع رأس الثورة المضادة الذي تلاعب بهم ضد بعضهم البعض.
وفي الواقع، فإن الاختلافات الجوهرية عديدة بين الثورتين، بدءًا من نوع الزعماء، ففي ثورة 1919 كان معظم القادة من دارسي القانون والسياسة والشريعة والآداب، في حين كان معظم قياديي 2011 مهندسين وأطباء، ورغم أن معظم زعماء الثورتين تمتد جذورهم إلى الريف، لكن الطابع الحضري كان غالبًا على زعماء ثورة يناير الذين كانوا أكثر حداثة من زعماء 1919.
كذلك اتسمت ثورة 1919 بوجود الكثير من القادة الكاريزميين والخطباء الثوريين القادرين على التأثير وتحريك الجماهير وبلورة أهداف الثورة في أحسن صورة، رغم محدودية وسائل الاتصال الجماهيري في ذلك الوقت، ربما ذلك عائد إلى أن رجال الأزهر المفوّهين كانوا ركنًا أساسيًا في ثورة 1919.
بينما في ثورة 2011، غابت القيادة الثورية المؤثرة ولم يفكر الثوار في بناء تحالف أو جسم موحد للتعبئة والحشد والتنسيق، فضلًا عن إنشاء جهاز لمتابعة “الثورة المضادة” كالذي أنشأه ثوار 1919، وعلى سبيل المثال، في كتابه “سجين ثورة 1919” يذكر محمد مظهر سعيد أحد قادة حراك ثورة 1919 في أسوان، أنهم كانوا ينظمون ثورتهم بالتنسيق مع باقي المحافظات.
وفي الواقع، افتقدت ثورة يناير بشكل فج إلى وحدة القيادة أو على الأقل بناء قواعد تنظيمية على مستوى المحافظات، وبدلًا من وجود قائمة ثورية واحدة في ذلك الوقت الحرج، تفرقت الثورة بين عشرات القبائل التي نافست بعضها البعض وكان لكل منها مشروعه وأهدافه الخاصة، وهذا عكس حالة الوحدة في ثورة 1919، إذ لم يجرؤ أحد على شق الصف في شهور الثورة الأولى، ووضع الجميع خلافاتهم السياسية والأيديولوجية جانبًا، ثم شاركوا في انتخابات ثورة 1919 بائتلاف موحد.
في حقيقة الأمر، كان السياسيون المصريون في عامي 1919 و2011 مختلفين جذريًا، ففي الثورة الأولى كانوا على قدر من الوعي وسعة الأفق، وعولوا على الجماهير، والأهم أن نخبة ثورة 1919 كانت مصرة على مدنية الدولة وإبعاد الجيش عن السياسية.
فعلى سبيل المثال، يذكر الضابط محمد نجيب في مذكراته أنه ذهب إلى مصطفى النحاس حين قام الملك فاروق بحل البرلمان، وأخبره بأن الجيش على استعداد للقيام بانقلاب، لكن رد النحاس على نجيب: “أنا أفضل أن يكون الجيش بعيدًا عن السياسة”.
بينما سياسيو الثورة الثانية لم يفشلوا فقط في تكرار تجربة ثورة 1919 وعدم الصبر على تطور المجال السياسي، بل عوّل الكثير منهم على العسكر للقضاء على الخصوم وللحصول على الغنائم السياسية، وبالتالي استغل العسكر ببراعة الاختلافات السياسية والأيديولوجية بين شركاء الثورة.
الأمر الذي فتّت جبهة القوى السياسية والثورية أكثر، وعدنا إلى كابوس جديد من الحكم العسكري، وفي نهاية المطاف خسر السياسيون والأحزاب كل شيء، وفي حين عاشت الأحزاب السياسية التي أنتجتها ثورة 1919 لمدة 33 عامًا حتى انقلاب الضباط 1952، لم تعش أحزاب يناير أكثر من سنتين.
وأيضًا حين ننظر لجيل مارس 1919 وجيل يناير 2011، نجد أن هناك فرقًا شاسعًا في كل النواحي، في الحقيقة كانت الغالبية من قيادات ثورة 2011 أقل وعيًا بكثير من زعماء 1919، فضلًا عن أن العديد منهم “غير ثوريين”، وبالتالي انعكس ذلك على وعي الجماهير، ولا بد كذلك من ملاحظة أن مستوى الثقافة والتعليم في مصر عام 1919 – رغم اعتماد أغلبه على التعليم التقليدي “الكتاتيب” – كان أعلى بكثير مما صار عليه فيما بعد.
ولا شك أن اختلاف الوعي لعب دورًا مهمًا في الثورتين، ونذكر على وجه الخصوص أن الحركة الثورية في 1919 نجحت في تسييس الفلاح والعامل ومهمشي المدن وأرباب الحرف والورش حتى سائقي السيارات، وكان هؤلاء في الحقيقة وقود الثورة، ولعبت الإضرابات التي قاموا بها دورًا أساسيًا في النجاح النسبي الذي حققته ثورة 1919، ولم يكن هناك انفصال بين الحراك السياسي وعمل هؤلاء الطوائف.
بينما كان الوضع معكوسًا تمامًا في يناير 2011، وظل حراك العمال والموظفين محصورًا في “الدائرة الاقتصادية” ولم يتفاعل نحو الساحة السياسية، وهدف بعض الثوار إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية – “لقمة عيش كويسة وعلاج مجاني وحياة أسهل” – بغض النظر عن التحرر الحقيقي من قبضة النظام.
ومن المهم الإشارة إلى أن ثوار 1919 شكلوا جمعية من أجل جمع التبرعات للمتضررين من الثورة، والعجيب أن النجار يورد في مذكراته بيان “إدوارد بلفن” الذي يأمر فيه بالقبض على مؤسسي الجمعية ومحاكمتهم، لكن هذا الأمر كان غائبًا في ثورة 2011، الأمر الذي أفقد الثورة الاحتكاك بالجماهير الذين تضررت أعمالهم من الثورة. صحيح أن البعض في ثورة 2011 حاول دعم الفئات المتضررة، لكنها كانت حالات فردية محدودة جدًا.
كذلك خلقت خطابات “الفوضى” ظهيرًا جماهيريًا قويًا للثورة المضادة في عام 2011، ونجد أن هذا الأمر تكرر بالحرف في ثورة 1919، لكن اللافت أن قادة ثورة 1919 تمكنوا من دحض خطابات الفوضى ببراعة وخاضوا معركة شرسة وصلت حد الذهاب إلى الحواري والقرى والتحدث مع عامة الناس لدحض ادعاءات الثورة المضادة. ويروى عبد الوهاب النجار في مذكراته أنه كان يطوف بنفسه مع الأزهريين على الأزقة والبيوت من أجل توعية الناس، لذا استطاعت ثورة 1919 أن تستمر لـ3 سنوات.
وهذا حقيقة عكس ثورة 2011 التي لم تخض المعركة الفكرية ضد قوى الثورة المضادة، ولم تبلور مفهوم الحرية كقيمة مستقلة تستحق القتال من أجلها، ما أضعف الظهير الشعبي للثورة بعد ذلك، وسرعان ما اخترقت الثورة المضادة قلوب وعقول الكثيرين تحت ذريعة الفوضى الزائفة. وبالتالي في حين كان خطاب ثورة 1919 “تربويًا ودينيًا وسياسيًا” كان خطاب ثورة 2011 هشًا في الطرح ومفككًا ثم حزبيًا أيديولوجيًا بعد ذلك.
من الممكن القول إنه رغم قوة الحراك الشعبي في الثورتين، كانت “ضحالة الوعي السياسي” سمة بارزة في ثورة 2011، وتقديرات النخبة الثورية في غير محلها، كما تصور غالبية الثوار أن النظام هو حسني مبارك وبعض الأفراد المحيطين به، ولم يتخيلوا حجم وأعداء الثورة الكثر، خصوصًا دور بعض الدول الخليجية في تمويل الثورة المضادة. وعلى سبيل المثال حين حذر أستاذ الاقتصاد الراحل سامر سليمان من دور الدول الخليجية في إفشال الثورة وإحياء الديكتاتورية مجددًا، نُظر له باستخفاف.
في كلتا الثورتين، كان المجتمع المصري ضعيفًا منزوع الأنياب يعيش بين تقلبات المراحل، لكن في ثورة 1919 كانت هناك حالة وعي عامة. وتجدر الإشارة إلى أن الثورتين لم تخلقا مجتمعًا مثاليًا، بل إن أزمات هذا المجتمع الذي خضع للقمع والاستبداد لعقود طويلة خرجت حقيقة في الثورتين وأصبحت أمرًا واقعًا، لكن ما اختلف في الثورة الأولى عن الثانية هي قدرة الثوار على التطور والتواصل مع المجتمع.
وفي الواقع، كانت نقطة ضعف الثورة الثانية “عفويتها الفائقة”، لذا يلاحظ أن هناك فرقًا كبيرًا بين الثورة الشعبية غير المنظمة في حالة يناير 2011، وتحرك النخبة المنظمة في 1919. بجانب أن شباب يناير لم ينشئوا مشروعًا سياسيًا حقيقيًا، وتُرك مسار الثورة تنفرد به قلة من النخب العجوزة التي عجزت عن وضع خريطة طريق واضحة.
أيضًا يلاحظ أن الأزهر خسر جزءًا كبيرًا من وجوده وتفاعله السياسي، ففي حين كان وجوده قويًا في الثورة الأولى، بل إن البوليس المصري وسلطات الاحتلال كانا يغلقان الشوارع والميادين المؤدية للأزهر، وظل الأخير محاصرًا لفترة طويلة والمدافع مصوبة نحوه، حيث كان الجامع الأزهر معقلًا أساسيًا لثورة 1919 وغاصًّا بالثوار والخطباء.
بينما في الثورة الثانية كان “الأزهر الرسمي” بعيدًا عن الأحداث، والأسوأ أنه وقف بجانب الكنيسة ضد الثورة، ووصف شيخ الأزهر الحاليّ أحمد الطيب المتظاهرين بميدان التحرير بأنهم “خانوا الدين وليس في قلوبهم ذرة من إيمان”، في تناقض حاد مع موقف شيخ الأزهر ومساعديه أيام ثورة 1919، فحتى بعض المشايخ الذين لم يؤيدوا ثورة 1919، لم يقفوا ضدها.
لكن في الحقيقة هذا لم يمنع العديد من طلاب الأزهر وبعض مشايخه من دعم مطالب الثوار والوجود وسط الثائرين، وبعضهم أعلن استقالته من مشيخة الأزهر كرد على موقف شيخ الأزهر تجاه ثورة 2011.
كذلك شارك في ثورة 1919 كل الطبقات والفئات والعديد من أبناء الطبقة العليا في أوسع وأهم تحرك شعبي في تاريخ مصر، بينما في ثورة 2011 قلت مشاركة الطبقة العليا بشكل ملحوظ، وفي أحسن الأحوال حين أراد أبناء هذه الطبقة التعبير عن تعاطفهم مع الثورة، لم يذهبوا إلى ميدان التحرير وأخوته، بل شاركوا في حدائق الكمبوندات السكنية الخاصة بهم وكأن الثورة أقرب إلى حفلة شاي أو فسحة علي الكورنيش، لذا أسماها أستاذ العلوم السياسية سيف عبد الفتاح بـ”الثورة البلاستيك”.
على كل حال، لسنا بصدد أن نحمل جيل يناير أكثر من طاقته، في الحقيقة، بني هذا الجيل كل شيء بنفسه، بعكس جيل 1919 الذي كان متصل الإسناد بما قبله واستطاع أن يبني على ثورة عرابي التي سبقت ثورة 1919 بنحو 40 سنة، وكانت كتابات وخطب ثورة عرابي مصدر دعم كبير لثورة 1919، بل إن هناك أشخاصًا شاركوا في الثورتين. وهذا عكس ثورة يناير 2011 التي سبقها هزائم ونكسات، لذا رأينا فجوة كبيرة وسندًا مقطوعًا بين جيل ما قبل يناير وجيل يناير.
في النهاية فإن ثورة 1919 ورغم عدم تحقيقها كل مطالبها، فقد تحققت فيها العديد من حلقات نجاح الثورة، من البعد الدعوي والأيديولوجي إلى المخابرات والعنف المنظم، وسواء اتفقنا أم اختلفنا على ما وصلت إليه، لكنها بالفعل غيرت شيئًا من واقع المجتمع، وقدمت إسهامات في التاريخ المصري والأهم أنها كانت انطلاقة حقيقية لحياة سياسية جديدة.
بينما تعثرت ثورة 2011 سريعًا ولم تستطع أن تبني واقعًا جديدًا، وضيع الثوار اللحظة الفارقة – كانوا أبطال الوقت الضائع -، واكتسبت الثورة المضادة الشرعية التي احتاجتها طوال الوقت السابق، لتنتهي الثورة بمذابح السيسي واعتقال رموز يناير وعشرات آلاف الشباب، فضلًا عن بناء نظام أشد قمعًا لإرهاب المجتمع وردعه عن مجرد التفكير في الثورة مرة أخرى، وكل هذا القهر تم تحت اسم الوطن وحماية مصر.
ومن اللافت أن السيسي لم يعتبر أن الثورة كانت انعكاسًا لمشكلات عميقة يجب إيجاد حلول لها، بل تعامل مع الثورة على أنها هي أساس كل المشكلات، بجانب أن مشروعه الوحيد هو الاستدامة في السلطة، لذا استمر في العمل على إنهاك وإضعاف قدرة المجتمع على الاحتجاج والتعبئة أو التحرك بشكل ذاتي، في مقابل ازدياد توحش الأجهزة الأمنية.
كما أن حجم الإحباط بعد ثورة 2011 أعلى بكثير من ثورة 1919 رغم أن الأولى قامت ضد احتلال أجنبي وقوة عظمى، ربما لأن الثورة الأولى زودت المجتمع بآمال جديدة، بينما حين نجحت قوى الثورة المضادة في الثانية، وعدت المجتمع بالمشانق والمعتقلات والإقصاء السياسي والمدني، وأصبح الناس لا يملكون رفاهية التفكير أو النظر في المستقبل، على تعبير عامة الناس “البلد خربانة ومش بتاعتنا”، وبالتالي انخفض سقف الطموح والأمل في التغيير بعكس ثورة 1919.
ورغم أن الجدل لا يزال مستمرًا بشأن تفسير ما جرى وأسبابه ودوافعه في ثورة 2011، فإن الأمر نفسه حدث بالحرف في ثورة 1919، لكن حين انتهت برسم ملامح جديدة وجنى المجتمع شيئًا من ثمارها، لم يتذكر أحد سيناريوهات التشكيك والمؤامرة وانشغلوا بواقعهم الجديد، وربما كان ذلك سيحدث لو نجحت ثورة يناير 2011.
وفي الحقيقة، ورغم الفارق بين سياق الماضي والحاضر، لم يختلف حالنا اليوم عن حال أجدادنا قبل 1919، لقد عدنا اليوم بالفعل إلى نفس الدائرة والهدف الذي ناضل أجدادنا من أجله ولم نستطع تحقيقه حتى اليوم: “الاستقلال والحرية”.