في البداية، كانت الحكومات الغربية تكيل المديح لمتظاهري الميدان في كييف وتنعتهم بالثوار. أما اليوم، فالغربيون في حيرة من أمرهم تجاه من الذي سيدفع فاتورة هذه الدولة المفلسة التي آلت أمورها إليهم. تارة تسمعهم ينذرون روسيا “بعدم التدخل” في أوكرانيا وتارة تسمع المعلقين يعبرون عن القلق خشية أن تتوقف موسكو عن تزويد أوكرانيا بالغاز المدعوم، وإذا حصل ذلك فعلاً، فمن الذي سيحل محلها.
كان يانوكوفيتش صعلوكاً فاسداً من النوع الذي يحب بوتين رؤيته يتزعم في كافة أرجاء ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي، لكن علينا ألا ننسى أيضاً أن الثورة البرتقالية انهارت لأنها عجزت تماماً عن إنتاج قيادات من النوع الذي تحتاجه الأنظمة الديمقراطية التي يسود فيها القانون. بل كان من شأن تلك الثورة أن مزقت نفسها، وحتى يوليا تيموشينكو لم تكن من صنف أونغ سان سوو كيي. فهل ستتمكن ثورة الميدان هذه المرة من إفراز زعامات أفضل؟ هذا ما ستبديه لنا الأيام.
ما من شك في أن أوكرانيا الجديدة هي أسوأ كوابيس بوتين على الإطلاق لأن ما حدث في كييف يمكن أن يتكرر في أي مقاطعة من مقاطعات روسيا. كل ما هو مطلوب حتى تتفجر الأوضاع هي أن يعطي قائد وحدة من وحدات قوات التدخل الروسية الأمر لجنوده بفتح النار على مظاهرة تخرج عن نطاق التحكم. نظام الإدارة العمودي التابع للكريملين، والذي يعتمد تعيين الحكام الإداريين بشكل مباشر من قبل قيادة الكريملين، لا يملك القدرة على الثبات في وجه العصيان المدني، وهذا ما يفسر ظهور بوتين شخصياً كلما نزلت بروسيا كارثة طبيعية كأن يشب حريق أو يحصل طوفان. ففي كل مرة تجده يأخذ بزمام الأمور ويتصدر لعمليات الإنقاذ بنفسه فيما يسميه هو “التحكم اليدوي”، إلا أن الوصف الآخر لمثل هذا التصرف هو “الحكم الرديء”، وإذا ما أردت أن تعرف متى كانت البلاد تدار بهذا السوء وهذه الفوضوية فما عليك إلا أن تعود بالذاكرة إلى أيام روسيا القيصرية. وفيما عدا الدائرة المقدسة للمشاريع الرئاسية المحببة، من مثل الألعاب الأولمبية في سوتشي، تكاد البنية التحتية من عهد بريجينيف تتهاوى، فعلى مسافة أميال قليلة من المدينة الأولمبية هناك قرى بأكملها لا توجد بها شبكات لتوريد المياه.
ومع ذلك فثمة بون شاسع بين ما آلت إليه أوضاع أوكرانيا مقارنة بجارتها بولندا، ولا يبدو عملياً أن ثمة ما يفعل بشأن ذلك. ولا يجدر بمحب لأوروبا، أن ينسى أن الحدود ماتزال معسكرة بكثافة ما بين بولندا التي باتت الآن عضواً في الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، وتتمثل هذه العسكرة الكثيفة في السياج المكهرب من الجهتين والذي أقامه السوفيات لإبقاء الاتحاد السوفياتي مفصولاً عن حلف وارسو. والآن، يعاد تفعيل هذا السياج بحماسة غير مسبوقة ويتم ترميمه من قبل بروكسيل للحيلولة دون تسرب المهاجرين غير المرغوب فيهم إلى داخل قلعة أوروبا. وهذا المنع يشمل مواطني غرب أوكرانيا، والذين كانوا في يوم من الأيام سكان أقصى المناطق الشرقية للامبراطورية النمساوية الهنغارية. ولم يلبثوا منذ أن استولى البلشفيون على بلادهم يناهضون الروس ولا يبطنون تجاههم سوى الكراهية، ولإثبات ذلك عمدوا هذا الأسبوع إلى الإطاحة بتمثال ميخائيل كوتوزوف، القائد العسكري الذي هزم نابليون.
بغض النظر عن أركان السلطة الفاسدة، الذين اختفوا داخل البلاد أو خارجها، كانت أوكرانيا باستمرار منقسمة بشأن الجهة التي ستوليها وجهها. بحسب نتائج استفتاء أجرى في تشرين الأول/ نوفمبر من العام الماضي قال 39% من المستطلعة آراؤهم إنهم يفضلون الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بينما قال 37% منهم إنهم يرغبون في الانضمام إلى الاتحاد الجمركي الذي عرضته عليهم روسيا. قد تكون هذه الأرقام مختلفة الآن، إلا أن ثمة براغماتية أوكرانية صلبة وراء الرغبة في إبقاء جميع الجيران سعداء. يمكن للمرء أن يفترض بارتياح أن روسيا لن ترغب بعد اليوم في استيراد اللحم الأوكراني. من سيستورده إذن؟ أشك أن الألمان أو الفرنسيين سيرغبون في ذلك، لأن عليهم أن يحموا مصالح مزارعيهم.
ثمة نفاق عميق ماوراء رد الفعل الغربي تجاه ضحايا الميدان في كييف، إذ جرى مقارنة القتلى الاثنين والثمانين بضحايا تيانانمين في بيجينغ أو بضحايا ميدان ألتاميرا في كاراكاس. لا يملك المرء إلا أن يلاحظ أن هذه القائمة من الفظائع سقطت منها فظائع أشد وأكبر وأقرب زمناً: تلك المذبحة التي راح ضحيتها ما لا يقل عن 900 متظاهر -ويقول الإخوان المسلمون إن العدد وصل إلى 2600 قتيل – في رابعة العدوية في القاهرة العام الماضي.
قبل أن تتفاقم الأحداث في أوكرانيا وتصل إلى ذروتها في الأسبوع الماضي كانت الولايات المتحدة قد أصدرت قراراً بحرمان عشرين مسؤولاً في حكومة يانوكوفيتش من الحصول على تأشيرات دخول إليها، وأشارت إلى احتمال فرض عقوبات، وهذا ما فعلته دول الاتحاد الأوروبي أيضاً وبشكل خاص فرنسا وألمانيا. ووصف الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند العنف الذي مورس ضد المتظاهرين في كييف بالنعوت التالية: “فوق الوصف، غير مقبول، وأعمال لا يمكن التسامح معها”.
بعد يوم واحد من مجزرة رابعة العدوية في القاهرة، قطع الرئيس باراك أوباما إجازته في كرم مارثا ليقول بأنه مستاء بسبب العنف الممارس ضد المدنيين وبأنه ألغى المناورات العسكرية المشتركة مع مصر. أخذت المجزرة سبع دقائق من وقت الرئيس، ما لبث بعدها أن عاد ليستأنف لعب الغولف.
أما وزير خارجيته جون كيري فلم يصدر عنه ما يهدد به حكام مصر العسكريين أكثر من القول إنهم بحاجة لأن “يخطوا خطوة إلى الخلف” علقت واشنطن ما مقداره 1.3 مليار دولار من المساعدات العسكرية، إلا أن الفريق عبد الفتاح السيسي ما لبث أن وجد وسيلة لتعويض ذلك من خلال البحث مع الروس في عقد لاستيراد السلاح من روسيا بقيمة ملياري دولار. والحقيقة أنه حينما يتعلق الأمر بفتح النار على المتظاهرين وقتلهم بدم بارد فإن السيسي وبوتين يتوافقان تماماً. يظل بوتين في نظر الأمريكان شخصاً منبوذاً، أما السيسي فيرونه متسلحاً بالشرعية الشعبية، ولذلك لم يتوان جون كيري، وبعد أيام قليلة من الانقلاب، في إعلان تأييده للسيسي لأنه في نظره “يعيد بناء الديمقراطية”.
الولايات المتحدة الأمريكية، وكاثي آشتون من الاتحاد الأوروبي، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، كلهم كان لهم نفس رد الفعل على سفك الدماء الذي جرى في مصر، ولم يتجاوز ذلك في أحسن أحواله تعبيراً عابراً عن القلق لا يسمن ولا يغني من جوع. سوف يتذكر المصريون السرعة التي تفاعل بها الغرب حنقاً وغضباً على دكتاتور رديء في أوكرانيا بينما كان مستعداً، وبيسر بالغ، أن يأوي إلى فراش واحد مع الدكتاتورية العسكرية المتوحشة في العالم العربي.