ترجمة وتحرير نون بوست
كتب هذا الموضوع: عريب الله ومحمد عايش
غادر إسماعيل محمود منزله في مدينة المنيا بمصر متجها نحو أحد مقاهي الحي لكتابة وصيته. والجدير بالذكر أن الرجل تم تشخيص إصابته بمرض خطير منذ سنتين، ومن الممكن أنه لن يعيش لوقت طويل. ومع ذلك، كانت لمحمود رغبة نهائية وحيدة ألا وهي أداء مناسك الحج في المملكة العربية السعودية، غير أن الحصول على التأشيرة للقيام بذلك كان يتطلب مبلغا ضخما.
في تعليقه على ذلك، قال محمود، معلم الابتدائية البالغ من العمر 59 سنة، إن “لم يكن أبنائي راضين عن بيعي لهذه الحقول، ولكن لم أمتلك خيارا آخر. إن الظروف الاقتصادية في مصر أصبحت صعبة للغاية، كما أن السلطات رفضت منحي التأشيرة على الرغم من تقديمي الملاحظة التي كتبها طبيبي بشأن حالتي الصحية. ونتيجة لذلك، لم يكن أمامي سوى ذلك الحل لدفع المال وتحقيق حلمي بالذهاب إلى الحج”.
تبرر الرياض طريقة تحديدها للحصص باعتبارها وسيلة لضمان سلامة جميع الحجاج
في الحقيقة، رفض محمود انتظار ما إذا كان سيقع الاختيار على اسمه في القرعة الذي تنظمها الدولة والذي سيخول له الذهاب. وبدلا من ذلك، قام المعلّم باتخاذ خطوة إلى الأمام. وقد أفاد محمود أن “الجميع وصفوا الظفر باختيار الحكومة بالأمر المستحيل ما لم يتم دفع الأموال للمسؤولين رفيعي المستوى، ولكني لم أمتلك ما يكفي من المال. ومن هذا المنطلق، قدمت للحصول على تأشيرة للعمل خلال موسم الحج كعامل نظافة بغية تحقيق هدف واحد وهو التمكن من الدخول إلى البلاد. لقد كانت تلك الطريقة الوحيدة للقيام بذلك”.
معضلة حصص الحج
تماما مثلما هو الحال بالنسبة لآلاف المصريين، كان على محمود الانتظار لسنوات عديدة قبل الذهاب إلى الحج. في الواقع، يعتبر وضعه أمرا شائعا ذلك أن الملايين من المسلمين في جميع أنحاء العالم يتجهون إلى وكلاء الأسفار الخاصين أو يتخذون سبلا أخرى من خلال السوق السوداء.
عموما، يمثّل الحج إحدى ركائز الإسلام الخمس، التي يلزم جميع المسلمين بأداء مناسكها لمرة واحدة على الأقل، ما يعني أن التأشيرات تمثل محل نزاع شديد. وباعتبار أن جميع الخطايا السابقة تُغفر لأولئك الذين يؤدون مناسك الحج لمدة خمسة أيام، فهو أمر يدفع بالكثيرين لأدائها خلال سن الشيخوخة.
كيف تقرر السلطات السعودية من بإمكانه الذهاب إلى الحج كل سنة؟
تجدر الإشارة إلى أن المملكة العربية السعودية تحدد حصص الحج استنادا إلى عدد السكان المسلمين في كل دولة، وبالتالي، ستحدد عدد الأماكن المخصصة لمواطنيها، ويتم ذلك من خلال حكومات البلدان أو شركات السفر الخاصة. أما فترات الانتظار الطويلة، التي قد تصل إلى 10 سنوات أو أكثر في بعض البلدان، فقد تم تمديدها بعد أن خفضت الرياض الحصة الإجمالية للتأشيرات بنسبة 20 بالمائة سنة 2009 بهدف استيعاب أعمال التوسع في المساجد الكبرى في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة.
مؤخرا، قامت السعودية بعكس قرارها وبات باستطاعة مليون حاج إضافي أداء مناسك الحج، الذي سينطلق هذه السنة في 30 آب/ أغسطس. ويأتي هذا الارتفاع في الأرقام بعد أن عانت المملكة الخليجية من انخفاض أسعار النفط، فضلا عن بلوغ عدد الحجاج إلى أدنى مستوياته سنة 2016 خلال عقد من الزمن. وبناء على ذلك، يهدف قرار الرياض الأخير إلى الدفع بالاقتصاد في مكة المكرمة والمدينة المنورة أيضا.
قرعة الحصول على تأشيرة
توزع الحكومات في معظم البلدان ذات الأغلبية المسلمة الجزء الأكبر من أماكن حجاجها عن طريق القيام قرعة عشوائية، ومن ثم يُعطى الجزء المتبقي إلى وكلاء السفر الخاصين. فعلى سبيل المثال، يتم بيع التذاكر في المملكة المتحدة وأماكن أخرى، عن طريق وكلاء السفر الخاصين وفقا لأولوية الوصول، أي من يأتي أولا يُخدم أولا، واعتمادا أيضا على الاستحقاق. في المقابل، تعيش بلدان أخرى، على غرار إندونيسيا التي تُمنح عادة أكبر عدد من التأشيرات، أكبر المشاكل المتعلقة بالحج نظرا لأن عدد سكانها المسلمين يبلغ 260 مليون نسمة.
تُمنح إندونيسيا أعلى الحصص من تأشيرات الحج من قبل السعودية
كما هو الحال بالنسبة للعديد من البلدان التي تطيل أوقات الانتظار، احتفلت إندونيسيا بإضافة 10 آلاف مكان إلى 220 ألفا تم تخصيصها بالفعل، من خلال الإشادة بالسلطات السعودية. في الواقع، تستخدم إندونيسيا نظام اليانصيب لتخصيص أغلب الأماكن التي حُددت لها. ويقوم كل متقدم بدفع مبلغ قيمته ألفي دولار ليتم أخذه بعين الاعتبار، في الوقت الذي يبلغ فيه متوسط الأجر الشهري حوالي 1200 دولارا، ليتم وضعه آنذاك على لائحة الانتظار. ومع ذلك، لا يزال السكان المحليون يواجهون انتظارا تصل مدته إلى 39 سنة، ما يعني أن بعض الحجاج يموتون قبل الفوز بمكان في الحج.
خلافا لذلك، تتخذ بلدان أخرى تدابير صارمة كي تكون عادلة وتقلل من أوقات الانتظار. فعلى سبيل المثال، يمتلك الأردن سبعة آلاف مكان فقط هذه السنة. وتشمل قواعده القبول التلقائي للحجاج المحتملين الذي ولدوا سنة 1945 أو قبلها. فضلا عن ذلك، تطلب السلطات من هؤلاء القسم على القرآن الكريم بأنهم لم يسبق لهم الذهاب إلى الحج على الإطلاق.
علاوة على ذلك، يتم تعديل قاعدة سنة الميلاد بصفة سنوية لإعطاء المتقدمين المسنين فرصة أفضل للفوز بمكان في الحج، ما يعني أن الأشخاص الذين وُلدوا سنة 1946 أو قبلها سيكونون مؤهلين للذهاب خلال السنة المقبلة. وفي الأثناء، تُمنح الاستثناءات لأولياء الأمور الذكور، من قبيل الابن أو الزوج، الذين يرافقون الحجاج من النساء.
أكثر الدول التي تحصل على تأشيرات حج من قبل السعودية
من جانبها، حاولت بثينة ناصر، ربة منزل من شمال الأردن وتبلغ من العمر 40 سنة، الحصول على تأشيرة الحج لمرات عديدة ولكن دون جدوى. وقد بدأت بثينة التفكير في أداء مناسك الحج بعد أن تم تشخيص إصابتها بمرض السرطان قبل خمس سنوات، ومنذ ذلك الحين، كانت تتقدم بطلب لنيل التأشيرة. وبعد تعرضها للإحباط جراء القيود التي تضعها السلطات الأردنية، اضطرت بثينة إلى التوجه إلى السوق السوداء لتحقيق “حلمها بالذهاب إلى الحج”.
في حديثها عن تجربتها لموقع “ميدل إيست آي”، قالت بثينة “حاولت شراء تأشيرات الحج من السوق السوداء لثلاث مرات، ومن خلال أشخاص على معرفة بشخص يبيعها من السفارة السعودية. ينبغي أن تسمح السلطات الأردنية للناس بالذهاب إلى الحج إذا كانت لديهم القدرة المالية للقيام بذلك وتقيّم الحالات كل واحدة على حدى”.
إدعاءات مرتبطة بالفساد
يتّهم النقاد السلطات السعودية بتسييس الحج والمساعدة على خلق اقتصاد عالمي أسود فيما يتعلق بالتأشيرات، وذلك بسبب عملية التخصيص في بعض البلدان، التي تُوصف بتفشي الفساد فيها وبأنها غير عادلة تجاه الحجاج الفقراء. مؤخرا، اهتزت باكستان، التي تحصل على ثالث أعلى حصة من الأماكن في الحج، على وقع فضيحة فساد بعد أن اتهم الحجاج المحتملون المسؤولين بإعطاء حصة للشركات الخاصة مقابل رشاوى.
عائلة بنغلاديشية في الفجر على سهل جبل عرفات خارج مكة المكرمة سنة 2000.
في بنغلاديش، طالبت المحكمة العليا بإجراء تحقيق حول كيفية إدارة الحكومة للأماكن المخصصة للحج خلال هذه السنة، في أعقاب تأخر بعض وكلاء السفر في تقديم طلبات الحصول على تأشيرة على أمل الحصول على أسعار أرخص للإقامة في مكة المكرمة والمدينة المنورة. ونتيجة لذلك، ظل البنغلاديشيون، الذين فازوا باليانصيب غير متأكدين حول ذهابهم إلى الحج من عدمه.
في شأن ذي صلة، أفادت الأكاديمية السعودية من كلية لندن للاقتصاد، مضاوي الرشيد، لموقع “ميدل إيست آي”، أن زمرة آل سعود أنشأت “اقتصادا أسودا في جميع أنحاء العالم يتمحور حول الحج. إن الافتقار إلى الشفافية داخل المملكة العربية السعودية، خاصة فيما يتعلق بنظام الحصص، قد ساعد على خلق السوق السوداء وتجارة التأشيرات”.
في سياق متصل، أضافت الرشيد أن “هناك سوقا سوداء للتأشيرات حيث يقوم موظفو السفارة السعودية من جميع أنحاء العالم ببيع التأشيرات بشكل غير قانوني من خلال إعطائها لأصدقائهم. في الواقع، يمتلك هؤلاء مصلحة معينة من تمكين بعض الأشخاص من الذهاب إلى الحج واستبعاد الآخرين أو وضعهم على لائحة الانتظار لبقية حياتهم”.
الحج: ساحة للاقتتال السياسي
تبرر الرياض طريقة تحديدها للحصص باعتبارها وسيلة لضمان سلامة جميع الحجاج، ذلك أن مواسم الحج على مر السنين قد شهدت وقوع العديد من الحوادث، ما أدى إلى وفاة الحجاج، وهو ما ينتج عادة عن الاكتظاظ. وتجدر الإشارة إلى أن حادثة التدافع الأخيرة التي وقعت سنة 2015 قد أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن ألفي شخص، وذلك على الرغم من النزاع القائم حول العدد النهائي للقتلى.
من جانب آخر، وصف بعض المراقبين نظام الحصص كوسيلة تستخدمها الرياض للتأثير على المسلمين في جميع أنحاء العالم. في هذا السياق، قالت الرشيد إن السعوديين استغلوا الحج على مر التاريخ “كأداة سياسية” بعد أن أصبحت تسيطر على المكانين المقدسين خلال أوائل عشرينيات القرن الماضي.
أدى التدافع في مِنى سنة 2015 إلى مقتل أكثر من ألفي حاج.
على صعيد آخر، أوضحت مضاوي الرشيد أن “الذهاب إلى الحج وأداء شعائره يتوقف على إرادة النظام السعودي. ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى القدرة على السيطرة على البلدان الاسلامية باعتبار الحج أحد أركان الإسلام ومن واجب كل مسلم أداء هذه الفريضة إذا استطاع إليها سبيلا. أما إذا كان أحد المسلمين يكنّ العداء للسعوديين أو يجاهر بانتقاده للسعودية فحينها يتم حظره من الذهاب إلى الحج”.
في السياق ذاته، أوردت الرشيد دليلا على ذلك، حيث قالت “لقد رأينا ذلك يحدث لراشد الغنوشي، زعيم حزب حركة النهضة (الحزب السياسي) في تونس عندما حاول أداء العمرة (الذهاب إلى مكة المكرمة خارج موسم الحج) انطلاقا من لندن. وقد واجه الإيرانيون هذا المصير السنة المنصرمة فيما يواجهه القطريون هذه السنة”.
أما فيما يتعلق بالحجاج الإيرانيين، فقد تم إبلاغهم من قبل حكومتهم بعدم الذهاب إلى الحج سنة 2016، وهي المرة الأولى التي تقوم فيها بذلك على إثر تفاقم التوترات القائمة بالفعل بين طهران والرياض. وكانت العلاقات الدبلوماسية قد بلغت أدنى مستوى لها بعد أن لقي أكثر من 450 حاجا إيرانيا مصرعهم خلال كارثة سنة 2015.
يمكن للدول المختلفة أن تقدم نفسها كحماة لمجتمعاتها، وتشكك في قدرات وشرعية الآخرين، وتستخدم الحج كعلامة للنزاعات السياسية الأوسع نطاقا
في حديثه لموقع “ميدل إيست آي”، أفاد محمد بياد، طالب الدكتوراه في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية في لندن الذي يُعنى بالشأن الجيوسياسي في إيران، بأن طهران قد سيّست هذه الحادثة، فضلا عن أنها استغلت الحج على مر التاريخ “كعلامة للصراعات السياسية الأوسع. وتماما، مثلما لا تستطيع السعودية فصل السياسة عن نهجها المُتبع تجاه الحج، ينطبق الأمر ذاته على إيران، ويُعدّ الحادث الذي وقع سنة 1987 خير مثال على ذلك، حيث قتل الحجاج الشيعة في اشتباكات مع قوات الأمن السعودية”.
وحيال هذا الشأن، قتل 400 شخص على الأقل على يد شرطة مكافحة الشغب السعودية بعد أن هتف الحجاج الإيرانيون “الموت لأمريكا! الموت للاتحاد السوفيتي !الموت لإسرائيل! “بجوار المسجد الكبير في مكة المكرمة. وبّين بياد أن “هذه الحادثة يُنظر إليها على أنها صرخة تجمّع للإيرانيين والشيعة على نطاق واسع، بالإضافة إلى أن الروايات المتنافسة حولها، توضح الطريقة الأوسع التي أصبح بها الحج ساحة تتقاتل فيها الدول من أجل الشرعية وتحاول ربط هويتها بها”.
فضلا عن ذلك، “بالنظر إلى أبعد من المخاوف الأمنية المذكورة، ومن خلال إبداء موقف معارض للحج، يمكن للدول المختلفة أن تقدم نفسها كحماة لمجتمعاتها، وتشكك في قدرات وشرعية الآخرين، وتستخدم الحج كعلامة للنزاعات السياسية الأوسع نطاقا”.
بالعودة إلى معلم الابتدائية، إسماعيل محمود، لم تصبه السياسة الكامنة وراء منح التأشيرة سوى بمشاعر الاحباط والاستياء، حيث قال إن “تكلفة الذهاب إلى الحج ترتفع سنة بعد أخرى ولا أعلم كم من الوقت تبقّى لي. إن هذه القيود تجعل الأشخاص الذين يعملون بجد مثلي يكذبون من أجل نيل الحق الذي منحه الله لي لزيارة المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم فماذا سيقول الله عن ذلك؟”
المصدر: ميدل إيست آي