في كتابه “القوة الناعمة: السبيل إلى النجاح في السياسة الدولية”، يُعرّف جوزيف ناي، أستاذ العلاقات الدولية والعميد السابق لمدرسة جون كينيدي الحكومية في جامعة هارفارد الأمريكية، مصطلح “القوة الناعمة” بأنه قدرة بلد معيّن على فرض أجندته في مجال السياسة العالمية، واجتذاب الدول الأخرى نحوها من دون إرغام أو تهديد أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع.
نشر ناي كتابه عام 2004، وسرعان ما أصبح مفهوم “القوة الناعمة” الذي ابتكره جزءًا لا يتجزّأ من قاموس السياسيين ومنظّري علم السياسة والكتّاب والإعلاميين، والمثقفين عمومًا.
تميزت دولة قطر بانتهاجها واستثمارها في القوة الناعمة إقليميًّا ودوليًّا خلال السنوات الماضية، خلافًا لدول أخرى في المنطقة عُرفت بالتدخلات الخارجية العنيفة سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، ما أكسب الدوحة احترامًا كبيرًا وسمعة طيبة بعكس الدول الأخرى التي نالت سخطًا واسعًا وتلطخت سمعتها بين الشعوب.
أشكال متعددة للقوة الناعمة القطرية
القوة الناعمة لقطر تتخذ صورًا وأشكالًا عديدة لا تقتصر على مجال واحد، فالدوحة تستضيف المؤتمرات والبطولات الرياضية مثل كأس آسيا الذي تجري منافساته حاليًّا على ملاعب قطر، التي احتضنت أواخر العام قبل الماضي أكبر تظاهرة رياضية دولية، كأس العالم 2022.
وإلى جانب استضافة الفعاليات الرياضية الكبرى والمؤتمرات، عُرفت قطر عبر دبلوماسيتها النشطة بالوساطة في الأزمات الدولية التي زادت من ثقلها السياسي عالميًّا، حتى باتت وسيطًا لا غنى عنه في الأزمات المختلفة، مثل نجاحها في الوساطة بين الولايات المتحدة الأمريكية وطالبان، وبين الأولى وإيران أفضت إلى إطلاق سراح عدد من المواطنين الأمريكيين المحتجزين في السجون الإيرانية.
كما توسطت قطر بين حركة المقاومة الإسلامية “حماس” و”إسرائيل”، ونجحت في إبرام هدنة إنسانية مؤقتة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي لأول مرة منذ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
كانت الدوحة تهدف إلى التوصّل إلى اتفاق يوقف إطلاق النار بشكل كلي، لولا أنها اصطدمت بالتعنُّت الإسرائيلي والتصعيد العسكري للاحتلال، مثل حادثة اغتيال القيادي البارز في حماس صالح العاروري.
ومن أهم صور وأوجُه القوة الناعمة القطرية الاستثمارات الخارجية التي تنفذها المؤسسات المالية المملوكة للدولة، وعلى رأسها صندوق الثروة السيادي المعروف رسميًّا باسم “جهاز قطر للاستثمار”، والذي يعدّ واحدًا من بين أكبر 10 صناديق سيادية في العالم، إذ تبلغ أصوله نحو 475 مليار دولار وفقًا لمعهد الصناديق السيادية لنهاية النصف الأول من العام الماضي.
القدر الأكبر من استثمارات صندوق الثروة السيادي القطري يتركز في أوروبا والولايات المتحدة، حيث يمتلك -على سبيل المثال- حصة كبيرة في مصرف باركليز وبرج شارد في لندن الذي هو أعلى ناطحة سحاب في أوروبا، فضلًا عن امتلاكه 20% من الشركة المالكة لمطار هيثرو لندن.
- استثمارات قطر خارج أفريقيا حتى عام 2017
وفي الولايات المتحدة يتجاوز حجم الاستثمارات القطرية حاجز الـ 200 مليار دولار، 35 مليارًا منها استثمارات خاصة بالصندوق السيادي، وفقًا للشيخ منصور بن جاسم آل ثاني، رجل الأعمال والدبلوماسي السابق بوزارة الخارجية.
أفريقيا الوجهة القادمة للاستثمارات القطرية
بالتوازي مع استثمارات قطر في أوروبا والولايات المتحدة، يشير كبار المسؤولين في المؤسسات الاقتصادية القطرية إلى توجّه جديد للاستثمار نحو القارة السمراء، إذ قال النائب الأول لرئيس غرفة تجارة وصناعة قطر محمد الكواري، إنّ الوقت بات مناسبًا الآن لتكون أفريقيا هي الوجهة القادمة لاستثمارات قطر الخارجية.
تصريح الكواري جاء خلال مشاركته في منتدى ومعرض الاستثمار والتجارة في شرق أفريقيا، والذي انطلقت أعماله في 14 يناير/ كانون الثاني الحالي، على هامش القمة الـ 19 لحركة عدم الانحياز، وقمة مجموعة 77 والصين، وذلك في العاصمة الأوغندية كمبالا.
وكشف النائب الأول لرئيس غرفة قطر، أن بلاده تربطها علاقات تعاون وثيقة مع جمهورية أوغندا ومنطقة شرق أفريقيا عمومًا، والتي تتضح من خلال الزيارات المتبادلة على مستوى القيادة، ووجود العديد من الاتفاقيات الثنائية الموقعة لتعزيز العلاقات.
وأشار إلى أن قطر مهتمة بالاستثمار في شرق أفريقيا، وباستكشاف الفرص المتوفرة هناك، فالقطاع الخاص القطري لديه رغبة قوية في الاستثمار بها، وذكر أن الناتج المحلي للدولة قد وصل الـ 190 مليار دولار عام 2022، لافتًا إلى أن هذه العوامل تساهم في تعزيز التعاون بين قطر ودول شرق أفريقيا خاصة أوغندا، والتي توفر فرصًا استثمارية وتعتبَر مصدرًا للسلع الأساسية والأغذية والمواد الخام، كما تعتبَر وجهة سياحية رائدة.
جدير بالذكر أن الرئيس الأوغندي، يوري موسيفيني، استقبل وفد غرفة قطر، مؤكدًا حرص بلاده على جذب الاستثمارات القطرية، وتقديم التسهيلات للمستثمرين القطريين.
الرئيس الأوغندي يؤكد حرص بلاده على جذب الاستثمارات القطرية#قنا #قطر #أوغنداhttps://t.co/PxroWgvLMO pic.twitter.com/3iRORgNfyg
— وكالة الأنباء القطرية (@QatarNewsAgency) January 20, 2024
جولة أفريقية للصندوق السيادي القطري تشمل 6 دول
يبدو جليًّا أن صندوق الثروة السيادي القطري يسعى أيضًا إلى توسيع استثماراته في القارة السمراء، إذ قام ممثلوه بجولة منتصف العام الماضي عبر القارة، بهدف فتح آفاق جديدة وتعزيز الصفقات القائمة في القارة التي تضم 54 دولة.
الأهمية التي يوليها الصندوق القطري العملاق للمنطقة، أكدتها الجولة الأفريقية التي قام بها كبار المسؤولين التنفيذيين في جهاز قطر للاستثمار، والتي شملت كل من جيبوتي وغانا وزامبيا ورواندا وأنغولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، إذ اجتمعوا في كل دولة برئيسها ووزراء حكومتها.
ووفقًا لموقع “أفريكا إنتلجنس” الاستخباراتي، فإنّ الجولة الأفريقية لمسؤولي الصندوق القطري التي استمرت أسبوعًا، كانت برئاسة الشيخ فيصل بن ثاني آل ثاني، رئيس استثمارات آسيا وأفريقيا في جهاز قطر للاستثمار، وكان إلى جانبه مساعده سلطان علي عبد الله.
كما ضمّ الوفد كلًّا من محمد بن بدر السادة الرئيس التنفيذي لشركة حصاد الغذائية، وهي الهيئة المسؤولة عن ضمان الأمن الغذائي في قطر، وخالد بن أحمد العبيدلي الرئيس التنفيذي لقطر للتعدين، وأوليفيير غرانيت الشريك الإداري في كاسادا كابيتال، وهي مشروع مشترك بين شركة قطر للتعدين ومجموعة فنادق أكور الفرنسية، وغلين جونستون المدير الأول للاستثمار في بنك لِشا (بنك قطر الأول سابقًا).
وبحسب تقرير “أفريكا إنتلجنس“، كانت جيبوتي هي الدولة الأولى التي زارها المسؤولون التنفيذيون في جهاز قطر للاستثمار في 24 يوليو/ تموز، واجتمعوا مع رئيس هيئة الموانئ والمناطق الحرة في جيبوتي أبو بكر عمر هادي، كما تحدثوا مع بعض وزراء الحكومة حول تطوير مناطق الموانئ الجديدة والاستثمارات في صناعة الفنادق والطاقات المتجددة، وانتهت الزيارة بلقاء الرئيس إسماعيل عمر جيله.
بعد ذلك، توقف الوفد القطري في غانا، حيث التقى بالوزراء المسؤولين عن تعدين الذهب والزراعة والسياحة، ثم اجتمع مع الرئيس نانا أكوفو أدو، ومنها اتجه وفد الصندوق السيادي القطري إلى رواندا التي يتمتع رئيسها بول كاغامي بعلاقات ممتازة مع الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر، حيث تستثمر الدوحة عبر مطار حمد الدولي التابع للخطوط الجوية القطرية، أكثر من مليار دولار في بناء مطار للعاصمة الرواندية كيغالي، وقام وفد جهاز قطر للاستثمار بزيارة موقع البناء لمعرفة مدى تقدم المشروع.
كما زار وفد الصندوق السيادي القطري زامبيا، التي يستثمر فيها في محطة للطاقة الشمسية بقدرة 34 ميغاواطًا عبر شركة إينيل غرين باور الإيطالية، التي أقام معها الصندوق القطري شراكة، وهيمنت قضايا التعدين والزراعة والنقل والبنية التحتية على المناقشات في العاصمة لوساكا.
وفي أنغولا، عقد الشيخ فيصل بن ثاني والوفد المرافق له اجتماعًا مع الرئيس جواو لورينسو، ووزير الاقتصاد المعيّن حديثًا خوسيه دي ليما ماسانو، كما عُقد اجتماع آخر منفصل مع وزير البترول والمناجم ديامانتينو أزيفيدو، ووزير الزراعة أنطونيو فرانسيسكو دي أسيس.
وأخيرًا، أتاحت زيارة الوفد إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية فرصة للاطّلاع على المشاريع القطرية الجارية، لا سيما ميناء ماتادي، الذي استثمر فيه الصندوق القطري عبر حصته في شركة مها كابيتال بارتنرز.
تقليل الاعتماد على الغاز والنفط
استراتيجية قطر الهادفة إلى توسعة استثماراتها في أفريقيا، تأتي ضمن توجهاتها لتقليل الاعتماد على النفط والغاز، حيث تقوم رؤية الدولة 2030 على تنويع مصادر الداخل والاستثمار في الطاقة المستدامة والمتجددة، وفي هذا الصدد أنشأت قطر واحدة من أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم، والتي تبلغ سعتها 800 ميغاواط.
والقارة السمراء غنية بالموارد الطبيعية، مثل الأراضي الصالحة للزراعة والمياه والمعادن والغابات والحياة البرية، إذ تملك 65% من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم، أي 10% من مصادر المياه العذبة المتجددة الداخلية، وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة.
أزمة الحصار أثبتت استثمار قطر المبكّر في القوة الناعمة
تشكّل استراتيجية قطر الجديدة للاستثمار في أفريقيا أيضًا فرصة لتعزيز قوتها الناعمة في القارة السمراء، إذ كشفت أزمة الحصار الذي تعرض له البلد الخليجي من قبل جيرانه (2017-2021) كيف أنّ الدوحة أحسنت الاستثمار مبكّرًا في القوة الناعمة، فمن بين 54 دولة أفريقية أعلنت 5 دول فقط (موريتانيا والنيجر والغابون وتشاد والسنغال) تأييدها لرباعي الحصار، ولم يمضِ العام الثاني حتى تراجعت اثنتان من تلك الدول (تشاد والسنغال).
كما أنّ أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أكثر القادة في المنطقة انفتاحًا تجاه أفريقيا، حيث أجرى 3 جولات إليها، أولها تركزت على شرق القارة وجنوبها شملت إثيوبيا وكينيا وجنوب أفريقيا.
وفي الجولة الثانية التي خصّصها لغرب القارة السمراء، زار السنغال وغينيا كوناكري وساحل العاج وغانا ومالي وبوركينا فاسو، فيما كانت الثالثة إلى كل من نيجيريا ورواندا والأخيرة كرّر زيارتها في العام 2022.
وبشكل عام، تشكّل الاستثمارات القطرية واحدة من صور القوة الناعمة للدوحة، جنبًا إلى جنب مع الوساطة التي تقوم بها لحلّ الأزمات الدولية، والمساعدات الإنسانية السخية التي تقدمها خلال الكوارث والأزمات، علاوة على استثمارها في استضافة المؤتمرات الدولية والمنافسات الرياضية الكبرى، مثل بطولة كأس آسيا التي تجري فعالياتها حاليًّا.