عالجنا في تدوينة سابقة الجزء الأول من رواية مدن الملح، والذي اختار له الكاتب عنوان “التيه”، وأدركنا حجم التغير الذي شهده المجتمع الخليجي باكتشاف النفط والبدء في إنتاجه، والتيه الحقيقي الذي عاشه هذا المجتمع بين قيمه البدوية الأصيلة وقيم التوحش المدني التي جعلته في صورة غاية في الارتباك، وقد اقتصرت رؤيتنا في هذا الجزء على واحة صغيرة محيت وقرية صغيرة تحولت لشبه مدينة.
أما في الجزء الثاني من الرواية والذي اختار له الكاتب اسم “الأخدود” فإن الكاتب يصعد بنا للنظر للمشهد من أعلى مكان ممكن، أنت هنا تشاهد الدولة من قصر السلطان الذي يقع في العاصمة “موران”، وبعد أن كانت الأحداث تدور في الجزء الأول تحت خيمة بسيطة أو بيت من طين أو مأوى عمال تنقصه أساسيات الحياة، تدور أحداث الجزء الثاني داخل أروقة القصور المنيفة والمكاتب الفخمة والسيارات الفارهة، وبعد أن كان الأبطال الذين تدور الأحداث من حولهم بدوي بسيط أو عامل مطحون يعمل ليكسب قوت يومه، أصبحت تدور حول السلطان وحاشيته من الأمراء والمساعدين.
بدأ الكاتب الجزء بوصف طبيعة أهل موران، الذين اعتادوا العيش في الفقر والجدب، ويتسمون بالتحفظ حيال الغرباء، كذلك وصف شكل بيوتهم البسيطة المبنية بالطين، ليعرفك التغير الرهيب الذي حل بهذه المدينة المنسية، والتي أصبحت فجأة من أغنى مدن العالم، أو إذا أردنا الدقة، فإن من يملكها يصبح من أغنياء العالم.
استقبلت هذه المدينة الحكيم الذي عرفناه في الجزء الأول كطبيب بشري، هبط على حران عندما ذاع صيت الغنى الذي توفره لمن يعمل بها، والذي استطاع في سنوات معدودات أن يكون من أكابرها الذين يشار إليهم بالبنان، دخل الحكيم موران العاصمة كصديق للسلطان، ثم استوطنها كمستشار لذلك السلطان الساذج الفاغر فاه باستمرار انبهارًا بالاختراعات التي تتوالى على بلده ليل نهار، بعدما تدفق المال في خزائنه كما يتدفق النفط في الأنابيب التي تغذي سفن العالم العطشى لهذه السلعة النفيسة، وقد استغل الحكيم الفارق الشاسع في التعليم والثقافة بينه وبين السلطان، ليجعل هذا الأخير طوع بنانه، وليحاصره بأقاربه ومعارفه، ويحاول الإثراء من خلال إدخال السلع الحديثة إلى هذه السوق البكر.
أبرز الكاتب الأثر الشنيع الذي قد ينعكس على الأسر نتيجة للاغتراب والانشغال بجمع المال، واللهاث خلف السلطة، عن تربية الأبناء ورعاية الزوجات
ومن خلال شخصية الحكيم استطاع الكاتب أن يبين التحولات الخطيرة التي قد تحدثها السلطة والمال في شخصيات الرجال، فهذا الرجل تصور مع الوقت أنه أرسل إلى هذه المنطقة ليخرجها من ظلمات التخلف إلى نور المدنية والتقدم، متناسيًا مدى جشعه وحقارة استغلاله لمكانته من السلطان للإثراء والاغتراف من خيرات هذه المنطقة، وتطورت حالة هذا الرجل ليتصور أنه فيلسوف ملهم صاحب نظرية فلسفية لم يسبقه إليها أحد من العالمين، مع العلم أن نظريته هذه محض هراء.
وعن طريق التعمق في حياة الحكيم الأسرية، أبرز الكاتب الأثر الشنيع الذي قد ينعكس على الأسر نتيجة للاغتراب والانشغال بجمع المال، واللهاث خلف السلطة، عن تربية الأبناء ورعاية الزوجات، وقد ظهرت أثار الاغتراب الجانبية على أسرة الحكيم الذي انغمس في البحث عن السلطة والمال وترك بيته يحترق بالفتن والآثام، كذلك صور الكاتب أسرة أخرى كانت تتكون من شقيقين متلازمين، الفرق بينهما اختلاف المشارب والأهواء في الغربة، على الرغم من صمود علاقتهم لعواصف ضارية وقتما كانوا في أوطانهم.
أما عن التغيير الذي لحق الشعب، فقد أراد الكاتب أن يبرزه عندما عاد في خضم الأحداث إلى “حران”، تلك المدينة التي غادرناها معه منذ بداية الجزء الثاني، لينقل لنا مشهد يوضح إلى أي مصير وصل حال شعب المدينة التي ثارت عندما قتل مجهول من كان يطلق عليه الحكيم لقب “متشرد”، وهذا المشهد يتلخص في قيام السلطات بقطع رأس شيخ عجوز وابنه الشاب لمجرد – اشتباههم – بتخريب خط أنابيب بترول.
والغريب في الأمر أن هذا المشهد تم تحت سمع وبصر وتأييد من الناس، على الرغم من عدم إقامة أي محاكمة عادلة وعدم وجود أي أدلة تؤكد هذا الزعم الذي زعمته السلطة قاطعة الرؤوس، ليقفز سؤال إلى ذهن القارئ: هل هؤلاء الناس نفس الأشخاص الذين رموا بأنفسهم أمام الرصاص لينقذوا أصدقاءهم من ظلم العسكر، كما رأينا في الجزء الأول؟
الجزء الأول انتهى بثورة شعبية أظهرت مروءة الشعب،و انتهى الجزء الثاني بانقلاب عزل فيه السلطان، وكانت الدبابات سيدة الموقف في هذا الانقلاب
ووضح الكاتب في هذ الجزء أيضًا كيفية تكوين الجهاز الإعلامي للدولة، وكيف أنه قام على أهل النفاق والباحثين عن المال، الذين عرضوا أقلامهم في سوق النخاسة، وسخروا علمهم الإعلامي لمن يدفع أكثر، وأظهر لنا حجم الأموال التي أنفقت على الصحف والمجلات لغسل أدمغة الشعب.
لكن السلطة لم تكتف بمحاولة غسيل دماغ المواطن، بل تريد أن تتحكم في كل شيء بحياة المواطن، وترى في كل هامش حرية في حياته البسيطة تهديدًا لوجودها وبقائها، لذلك عمدت إلى تأسيس جهاز أمني لا هم له إلا أن يحصي أنفاس الناس، ورصد سكناتهم وحركاتهم، والتسرب في كل مكان في المجتمع بكل طبقاته، وقد سارع الأمريكان بتلقف الغر الذي وضع على رأس هذا الجهاز، وجعلوه ربيبهم وبهروه بعلمهم وخبرتهم في مجال التخابر، ليصبح هذا الجهاز تحت إدارتهم ورقابتهم.
أما عن الناس في موران فقد عمد السلطان إلى إغراقهم بالمال وإنهاكهم بالتسابق في الاستهلاك، وذلك دون التفكير في إقامة تنمية حقيقية عن طريق التعليم والاهتمام بالبنية التحتية للدولة، فعلى عظم أموال هذه الدولة، إلا أنك لا تجد فيها جامعة محترمة أو مستشفى متقدم، ليظهر لك مدى هشاشة أساس هذه الدولة الناشئة، وبالفعل ركض معظم الناس في المضمار الذي رسمته السلطة لهم، ومن صرخ وقال بخطأ هذا المسار، أصبح من المغضوب عليهم.
وإذا كان الجزء الأول قد انتهى بثورة شعبية أظهرت مروءة الشعب، فقد انتهى الجزء الثاني بانقلاب عزل فيه السلطان، وكانت الدبابات سيدة الموقف في هذا الانقلاب، أما الشعب فقد منع حتى من الفرجة على ما يحدث في الشوارع بفرض حظر التجول، مع موجة من الاعتقالات لكل من تشعر السلطة أنه صاحب فكر حر أو قلب شجاع، وسنرى في الجزء القادم ما آلت إليه مدن الملح.