ترجمة وتحرير: نون بوست
الحافز التاريخي للتطهير
في القرن السادس عشر، ادعت الكنيسة الكاثوليكية أنها المذهب الحقيقي الوحيد للمسيحية. تمركزت في روما وجعلت أوروبا موحدةً أيديولوجيًا إلى حد كبير – وذلك وفقًا للاعتقاد القائل إنه حتى تكون الدولة مستقرة، يجب على المواطنين اعتناق نفس الدين (أو الأيديولوجية). وبالفعل، كانت الكنيسة الكاثوليكية منظمةً مثل دولة، وكانت تمتلك حوالي ثلث أراضي أوروبا الوسطى والغربية، وكانت تجمع الضرائب في جميع أنحاء هذه المنطقة، فأصبحت غنية للغاية. وزعمت بيروقراطية الكنيسة، ذات الجاه والثراء، أنها تمثل إرادة الله على الأرض وكان لديهم عادةً السلطة الكافية لفرض هذا الادعاء.
كما هو شائع في التاريخ، أدّت الثروة والسلطة إلى الفساد. وكان الزعماء الفقراء من الباباوات والأساقفة المحليين في كثير من الأحيان الزعماء المناسبين، وهكذا تسلّل الضعف إلى شؤون الدولة. وهذا بدوره أثار الشكوك حول الطبيعة الإلهية لعقيدة الكنيسة. وفي السنوات التي تلت سنة 1520 ميلادي، بدأ التمرّد في شكل الإصلاح البروتستانتي الذي أدى إلى تفكيك العالم المسيحي وخلق طوائف مسيحية متباينة، معظمها متحالفة مع السلطات النبيلة العلمانية. وقد سعت كل طائفة إلى الادعاء بأنها تمثّل الإيمان المسيحي الحقيقي.
خلال الفوضى التي تلت ذلك، شنّت الكنيسة الكاثوليكية والطائفة البروتستانتية حربًا تلو الأخرى. أصبحت المسيحية، بأشكالها المتعددة حاليًا، عقيدة تبرر مذابح الإخوة. وبعد مرور مائة سنة، وتحديدا في سنة 1618، كانوا لا يزالون على حالهم وحينها وقعت أسوأ هذه الحروب، التي تعرف بحرب الثلاثين سنة (لأنها استمرت حتى سنة 1648). اجتاحت هذه الحرب أوروبا الوسطى وأسفرت عن مقتل حوالي 4 ملايين شخص. والدرس الوحيد الذي يمكن استخلاصه من حمام الدم الطويل هذا، ولا يزال، هو أن ارتباط الدين بسلطة الدولة يمكن أن يولد دافعًا أيديولوجيًا قاتلًا.
في سنة 2015، نشر نيكولاس تيربسترا من جامعة “تورنتو” كتابًا بعنوان “اللاجئون الدينيون في أوائل العالم الحديث” (مطبعة جامعة كامبريدج). وهذا العمل، الذي يتنزل في الخلفية التاريخية المذكورة أعلاه، تطرق لعدة مواضيع:
- الطرد الجماعي غير الطوعي ممارسة قديمة.
- بحلول نهاية القرن الخامس عشر، اتخذت هذه الممارسة “نطاقًا وطنيًا” مع مرسوم الملك فرديناند والملكة إيزابيلا سنة 1492 الذي أمر بطرد اليهود من مملكتهم الإسبانية.
- وبحلول القرن السابع عشر، “أصبحت الهجرة القسرية للأقليات الدينية سمة طبيعية للسياسة العامة الشعبية – وهي سياسة تهدف إلى بناء مجتمعات متجانسة وأقوى.
- ولا يتعلم ضحايا الطرد واللاجئون و”المنفيون المنقولون” غالبًا أهمية التسامح من تجربتهم. والواقع أن هؤلاء المنفيين من الممكن أن يصبحوا “أكثر المدافعين عن التعصب الديني والتطهير الديني تشددا” أينما يستقرون.
- وبحلول القرن العشرين، أصبحت “القومية الراديكالية” هي الدين السياسي السائد. “الدافع لتطهير مختلف المجموعات النجسة” من المجتمع القبلي الحقيقي لا يزال “قويًا كما كان دائمًا”.
الرد الصهيوني
لا يعرف المواطن العادي في الغرب شيئًا من هذا التاريخ، وبالتالي لا يمكن أن نتوقع منه استخلاص الدروس من المآسي المتعددة التي تلت ذلك. من ناحية أخرى، يعرف بعض الأمريكيين الأسباب التاريخية التي دفعت مؤسسي الأمة إلى الفصل دستوريًا بين الكنيسة والدولة. ولكن حتى الآن، ونظرا للطبيعة الانتقائية والشكوك في تدريس تاريخ الولايات المتحدة، فقد تكون أعدادهم قليلة.
مع ذلك، هناك مجموعة من الأشخاص الذين يزعمون أن لديهم ذاكرة طويلة وذات صلة بعواقب هذا الترتيب بين الكنيسة والدولة. وتعود ذكرى الطرد السائدة إلى النفوذ العالمي للكاثوليكية. هؤلاء هم اليهود. وفي الواقع، إن حقيقة كوننا ضحايا الدافع التاريخي لخلق مجتمعات متجانسة مبنية على المعتقد الديني (أو أي نوع آخر من الأيديولوجية)، أو العرق أو الإثنية، هو الموضوع الرئيسي للتاريخ اليهودي الأوروبي.
خذ بعين الاعتبار النقطة الرابعة التي طرحها نيكولاس تيربسترا. إنها واحدة من أكثر الأحداث حزنًا في التاريخ الحديث، حيث يبدو أن اليهود القوميين، أي الصهاينة، قد استنتجوا أن أفضل دفاع لهم ضد المعاناة المستقبلية هو تقليد مضطهديهم التاريخيين من حيث التعصب واستراتيجية التطهير.
ينبغي أن نفهم أن الصهاينة ليسوا سوى مجموعة فرعية من يهود العالم، على الرغم من أنهم كانوا يتمتعون بنفوذ كبير في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية. ومع مرور الوقت، أدى ميلهم إلى التعصب ونقاء المجموعة إلى حدوث انقسام في العالم اليهودي بين أولئك الذين يؤيدون الإستراتيجية والتكتيكات الصهيونية والذين يعارضونها.
هناك قصص تاريخية متعددة لهذه المأساة:
- التاريخ الطويل لمعاداة السامية الأوروبية التي تضمنت مذابح عنيفة بالإضافة إلى عمليات طرد.
- القرار الذي اتخذته المجموعة الفرعية الصهيونية من اليهود الغربيين بإنهاء هذا التاريخ باتباع المسار الاستعماري (المدعوم من القوى الإمبراطورية الغربية) من أجل إنشاء دولة قومية يهودية (إسرائيل) في فلسطين.
- المقاومة الحتمية، سواء العنيفة أو السلمية للسكان الأصليين في فلسطين.
- المحاولات الإسرائيلية لإخضاع المقاومة الفلسطينية، التي حوّلت في الوقت نفسه الفلسطينيين إلى جماعة قومية واعية وإسرائيل إلى دولة فصل عنصري.
- الجهود الحالية التي تبذلها إسرائيل لطرد الفلسطينيين بالعنف من الأراضي المحتلة، وهذا يشمل الإبادة الجماعية التدميرية في غزة.
يمكن ربط كل هذه القصص التاريخية معًا في دراما كارثية واحدة تنتهي بالوضع المأساوي الحالي.
بالنسبة للفلسطينيين، كانت هذه قصة طويلة من القمع، والنفي القسري، والآن مذابح الإبادة الجماعية. وبالنسبة لليهود، كان ذلك درسًا موضوعيًا في الحقيقة المذكورة أعلاه، وهي أن ارتباط الدين بسلطة الدولة يمكن أن يولّد دافعًا أيديولوجيًا قاتلًا. ويعمل هذا الدافع على تمزيق المجتمعات اليهودية، وقد حوّل الصهاينة إلى صورة كاريكاتورية مُروّعة لمضطهديهم التاريخيين.
يمكن التعرّف على الجزء اليهودي من هذه المأساة من خلال مقال نشرته مؤخرًا أماندا جيلندر، الكاتبة والمدافعة عن الصحة العقلية، في موقع ميدل إيست آي، التي أعربت فيه عن أسفها لحقيقة مفادها أن “استخدام إسرائيل للرموز الدينية” في مذابحها المستمرة في غزة “قد حرم اليهود من ممارسة دينية منفصلة عن الهمجية القومية… وبعد الفلسطينيين، فإن ضحية الصهيونية التالية هي العقيدة اليهودية”.
والحقيقة أن الحجة الصهيونية القائلة إن اليهودية والصهيونية هما نفس الشيء يربط الدين بالسلطة السياسية، تمامًا كما كانت الكاثوليكية مرتبطة بالدولة البابوية في القرن السادس عشر، وكما كانت الطوائف البروتستانتية المختلفة مرتبطة بدول علمانية في القرن السابع عشر. كما أنه يعيد إحياء الجوانب الأكثر وحشية في العهد القديم كسياسة حالية، حيث يأمر الله بني إسرائيل أن “يهاجموا عماليق ويدمروا كل ما لديهم تدميراً كاملاً”. وللتأكد من عدم إساءة فهم الأمر الإلهي، يفصل الله الأهداف: “اقتلوا الرجال والنساء والرضع والبقر والغنم والجمال والحمير”. وقد أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إلى الفلسطينيين على أنهم عماليق، وهكذا في غزة، يبدو أن حكومته تعيد تمثيل الغزو التوراتي لكنعان. واليوم، كما تشير جيلندر “لقد قتلت إسرائيل أكثر من 20 ألف فلسطيني وما زال العدد في ازدياد، وقد أدى ذلك إلى نزوح ما يقارب مليوني شخص وتدمير المنازل والنظام البيئي والبنية التحتية عمدا لجعل غزة غير صالحة للسكن بالنسبة لأولئك الذين تمكنوا من البقاء على قيد الحياة من المجاعة والجفاف والقصف الشامل”.
كل هذا أدى إلى معارضة أماندا جيلندر للصلة بين اليهودية والدولة الإسرائيلية. وهي تشير بدقة إلى أنه “طالما أن القومية الصهيونية موجودة، فإن اليهود المناهضين للصهيونية موجودون أيضًا”. وتخلص إلى أن مهمة هؤلاء اليهود الآن هي “فصل الصهيونية عن اليهودية”. وهذا في الواقع صراع حياة أو موت بالنسبة ليهود العالم.
الخاتمة
هناك اليوم عدد متزايد من الأمريكيين، حوالي الثلث من اليهود وغير اليهود، يرفضون العدوان الإسرائيلي في غزة وكذلك الدعم العسكري والسياسي الذي يقدمه الرئيس بايدن له. ومع أن هذا غير كافي لإنقاذ اليهود أو الفلسطينيين من أهوال ارتباط الدين بسلطة الدولة، وهي الدولة التي تطالب بالأرض الفلسطينية على أساس الأساطير التوراتية والعقوبات الاستعمارية بدلاً من الاعتراف بالاحتلال الدائم. لكن الثلث هو البداية، فقبل بضعة عقود فقط، كان عدد الأميركيين الذين ينتقدون إسرائيل أقل بشكل ملحوظ، وبفضل النظرة الإسرائيلية قصيرة النظر للعالم، يمكننا الاعتماد على تلك الدولة لمواصلة أساليبها الهمجية حتى لو تمكنت من التخلص من المجموعة الحالية من قادتها الفاشيين.
لذا فإن أعداد أولئك الذين يتبرأون من الصهيونية سوف تزداد، وهذا يحدث في جميع أنحاء الغرب. وفي مرحلة ما سيأتي يوم الحساب، والسؤال الحقيقي هو كم فلسطينيًا سيموت ويُشوّه حتى الوصول إلى ذلك اليوم، وكم يهوديًا سيفقد روحه الأخلاقية في هذه العملية.
المصدر: كاونتر بانش