كشف تحقيق استقصائي أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عن ضلوع دولة الإمارات في عمليات اغتيالات ممنهجة ضد شخصيات سياسية وإعلامية في اليمن من خلال تمويل مرتزقة أمريكيين ومن جنسيات أخرى لأداء تلك المهمة.
التحقيق الذي استغرق قرابة 42 دقيقة تضمن ولأول مرة لقاءات حية بعدد من المرتزقة من (مجموعة عمليات سبير – Spear Operations Group) وهي مجموعة أمنية أمريكية خاصة، ممن ارتكبوا عمليات اغتيالات خلال عام 2016، لقوائم ضمت عشرات الأسماء قدمتها أبو ظبي للمرتزقة، ومولتها بشكل كامل.
وتوصل الاستقصائي إلى وقوع 160 عملية اغتيال نُفذت في اليمن بين عامي 2015- 2018، أغلبيتها وقعت عام 2016، حين بدأ مرتزقة “سبير” مهامهم هناك، وبنفس الأسلوب المعروف عن تلك المجموعة وهو تفجير عبوة ناسفة بهدف صرف الانتباه، يتبعه قتل الهدف بإطلاق النار.
واستطاعت أبو ظبي تحت شعار “مكافحة الإرهاب” التخلص من عشرات الخصوم السياسيين في اليمن، خدمة لأجندتها الخاصة، من خلال استئجار مرتزقة من هنا وهناك، فضلًا عن شرائها ذمم الكثير من العسكريين والسياسيين في جنوب اليمن وتدريبهم لأداء المهام ذاتها، لتوسع دائرة الاشتعال في البلد المأزوم وتزيد وضعيته الإنسانية الصعبة وتثبط كل المحاولات لإعادة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا.
لأول مرة، يتحدث مرتزقة من مجموعة عمليات "سبير" أمام الكاميرا عن عمليات الاغتيال التي نفذوها في اليمن تحت رعاية الإمارات.
لمشاهدة الفيلم كاملاً من خلال الرابط التالي على قناة بي بي سي على يوتيوب:https://t.co/xxPiV85P1X pic.twitter.com/1SLZS9xEoa
— BBC News عربي (@BBCArabic) January 23, 2024
قوائم الاغتيالات.. إماراتية
تضمن الوثائقي مقابلات مع المرتزق “إسحق Isaac جيلمور”، العنصر السابق في وحدة غطّاسي البحرية (الأمريكية)، والرجل الثاني في “مجموعة سبير” التي نفذت عمليات اغتيالات في اليمن، ومرتزق آخر يدعى دايل كومستك، وآخرين رفضوا ذكر أسمائهم.
جميعهم أكدوا أن قوائم الاغتيالات المسلمة للمجموعة لتنفيذ عمليات الاستهداف بحقها جاءت إليهم من الإمارات، وأن كل المعلومات الواردة بها كانت عن طريق الاستخبارات الإماراتية التي ادعت أن تلك الأسماء مصنفة كإرهابيين حتى إن لم تُدرج على قوائم الإرهاب في الولايات المتحدة البلد الأم لـ”سبير”.
وعن تفنيد ما جاء في تلك القوائم وبحث ما إذا كانوا فعلًا مدانين في عمليات إرهابية أم لا، أشار المرتزقة إلى أن مهمتهم تقتصر على ما جاء على لسان الاستخبارات الإماراتية، وطالما أنهم قالوا إنهم إرهابيين فالأمر بالنسبة لهم مسلم به، وعليه هم يرون أن عملياتهم جاءت وفق الطرق المشروعة استنادًا إلى المعلومات الاستخباراتية الإماراتية.
وعلق غيلمور على مسألة أن تكون طبيعة النزاعات الحديثة مُبهمة وألا يكون هناك معايير واضحة وثابتة للعمليات القتالية هناك، فضلًا عن عدم وجود توصيف دقيق لمفهوم “الإرهابي”، قائلًا: “نرى ذلك في اليمن – حيث من يُعتبر قياديًّا مدنيًّا أو رجل دين عند البعض، يكون قياديًّا إرهابيًّا عند البعض الآخر” في إشارة إلى الإمارات.
التمويل كذلك إماراتي
كان تمويل كل تلك العمليات إماراتيًا من الألف إلى الياء، وكان يعتبرها مؤسس “مجموعة سبير” الإسرائيلي أبراهام جولان فرصة لا يمكن تفويتها، في ضوء الإغداقات المالية الكبيرة التي منحتها الدولة النفطية للمجموعة والمرتزقة نظير القيام بأعمال الاغتيالات الموكولة إليهم.
ويقول غليمور إنه حين عُرض عليه الأمر من صديقه “جولان” لم يفكر كثيرًا، فالعرض كان مغريًا، وعلى الفور وقبل انتهاء مدة اليوم التي منحها إليه مؤسس المجموعة للموافقة أو الرفض، كانت طائرة خاصة تقله إلى أبو ظبي للاتفاق على التفاصيل، لافتًا إلى أنه طلب مليون إلى مليون ونصف الدولار شهريًا للقيام بتلك المهام.
وكشف التحقيق عن تسلم منظمة Reprieve (لحقوق الإنسان) بيان مالي من وزارة الخارجية الإماراتية يبين أن المجموعة ظلت تتلقى دفعات مالية من أبو ظبي في عام 2020، قدرت بنحو 17 مليون دولار، لكن من دون تحديد الصفة التي بموجبها تلقت تلك الأموال ولا كيف تتلقاها حتى اليوم رغم مرور 4 سنوات على المهام التي نفذها المرتزقة في 2016، وهي المسألة التي تطرح تساؤلات عدة عن استمرار نشاط تلك المجموعة كما سيأتي لاحقًا.
الصفقة بين الشركة المنفذة للاغتيالات والإمارات، تم ترتيبها على وجبة غداء بأبوظبي في مطعم إيطالي بنادي الضباط في قاعدة عسكرية إماراتية، بحضور مؤسس شركة سبير أبراهم جولان، والجندي السابق في البحرية الأمريكية – إسحاق غيلمور، والقيادي السابق في حركة فتح الفلسطينية محمد دحلان.… pic.twitter.com/z2AjGBUrMq
— عادل الحسني (@Adelalhasanii) January 23, 2024
دحلان.. منفذ المرتزقة لحكومة الإمارات
كشفت المقابلات التي أجريت مع المرتزقة عن دور محوري للقيادي المفصول من حركة “فتح” الفلسطينية في تسهيل التنسيق بين “مجموعة سبير” والمسؤولين الإماراتيين، فقد ذكر غليمور أن مؤسس المجموعة أبراهام وثق علاقته الشخصية مع دحلان بصورة كبيرة، والذي كان بدوره حلقة الوصل بينه وبين الإماراتيين.
وقال: “دحلان كان منفذنا إلى حكومة الإمارات”، فساعدهم على لقاء مسؤولين كبار في الحكومة في نادي الضباط بقاعدة الجيش الإماراتي في أبو ظبي، وتمحور هذا اللقاء حول مناقشة أهداف المهمة الموكلة للمجموعة والتي كان ظاهرها زيادة الضغط على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وتنظيم القاعدة في اليمن والتأكد من ألا يصبح مركزًا فوضويًا آخر للأنشطة الإرهابية، على حد قوله.
ويعد دحلان، المستشار السابق لرئيس الإمارات، محمد بن زايد، أحد الأدوات التي يستخدمها أبناء زايد لتحقيق أهدافهم وأجندتهم الخارجية لا سيما غير الشرعية، لما يمتلكه من مقومات وعلاقات تساعده على أداء تلك المهمة، فقد كان حلقة الوصل بين صناع القرار في أبو ظبي والعديد من الأطراف النافذة خارج الأراضي الإماراتية.
خصوم الإمارات أبرز المستهدفين
كشف التحقيق أن من بين 160 عملية اغتيال وقعت في اليمن خلال الفترة بين 2015 – 2018 نحو 23 منهم فقط لهم صلات بالإرهاب، والباقي شخصيات سياسية ودينية وإعلامية وحقوقية ونشطاء لا علاقة لهم بالإرهاب، لكن معظمهم كان على خلاف مع أبو ظبي في توجهاتها وسياستها في الداخل اليمني، وعليه كان الاستهداف، استهدافًا لخصوم الإمارات وليس الإرهابيين كما تدعي.
ومن أبرز المستهدفين على قوائم الاغتيالات الإماراتية، زعيم حركة الإصلاح في عدن الجنوبية، أنصاف مايو، الذي حاول المرتزقة اغتياله لكنهم فشلوا في ذلك، وما كان يدري أنه كان ضمن سلسلة المستهدفين إلا لاحقًا، متسائلًا عن دوافع تلك الجرائم ومساعي الإمارات استهدافها لكل من يختلف معها سياسيًا في عقر داره.
ويرى النظام الحاكم في الإمارات أن جماعة الإخوان المسلمين التي تنبثق منها حركة الإصلاح اليمني، أكبر تهديد له ولاستمراريته، كما أن لنشاطها الإقليمي دوره في تقويض حكم أبناء زايد، وعليه كرست أبو ظبي كل إمكاناتها لمحاربة هذا الكيان في معظم دول العالم وليس في اليمن فقط.
يبذلون الأموال الطائلة لمرتزقة أجانب سفاحين، من أجل قتل الأشقاء اليمنيين الآمنين في بيوتهم، ظلما وعدوانا وبطراً!!#جرائم_الامارات_في_اليمن#اليمن_مقبرة_الغزاة pic.twitter.com/rkQetvL9wG
— محمد المختار الشنقيطي (@mshinqiti) January 24, 2024
كذلك هناك المحامية الحقوقية هدى الصراري التي كانت تحقق في الانتهاكات الإماراتية باليمن سواء عبر قواتها النظامية أو مجلس الانتقال الجنوبي المدعوم منها، ونتيجة لنشاطها الحقوقي هذا تلقت العديد من التهديدات بالقتل، لكنها أصرت على مواصلة رسالتها في الداخل والخارج، وهو ما أثار حفيظة الإماراتيين بشكل كبير.
وانتقامًا منها لما تبذله من جهود في فضح الانتهاكات الإماراتية بحق المدنيين، تم استهداف ولدها “محسن” البالغ من العمر 18 عامًا وقتله بإطلاق نار على صدره في شهر مارس/آذار 2019، ليفارق الحياة بعدها بشهر واحد، ورغم ذلك عاودت هدى مزاولة العمل مرة أخرى، لكنها تلقت رسائل تهديد أخرى، من بينها رسالة تقول “ألم يكن موتُ ولدٍ واحد كافيًا؟ هل تريديننا أن نقتل الثاني؟”.
ومن الأسماء التي تضمنها الوثائقي ضمن قائمة الاغتيالات الإماراتية، أحمد الإدريسي، القائد لإحدى القوى اليمنية التي ساعدت في إخراج الحوثيين من الجنوب، وكان يسيطر وقواته على الميناء في عدن، لكنه رفض تسليم قواته للقوات التي تمولها الإمارات، وأصر على استقلالها والقيام بدورها الوطني دون وصاية خارجية، وهو الأمر الذي كان سببا في استهدافه في 31 ديسمبر/كانون الأول 2015.
ونتاجًا للترهيب الذي مورس على هؤلاء الساسة والنشطاء أن اضطروا للفرار ومغادرة الوطن، هربًا بحياتهم وسلامتهم الخاصة بعدما باتت حياتهم على المحك، حيث ذهب أنصاف إلى السعودية وهدى إلى سويسرا، حيث المنفى الجديد حتى تهدأ الأمور في بلدهم.
خلق جيل من المرتزقة اليمنيين
تواتر عمليات الاغتيالات الممنهجة بحق شخصيات عامة في اليمن، معظمها ينضوي تحت لواء “الخصومة السياسية مع الإمارات” فضح بشكل أو بآخر أدوار المرتزقة وباتت مهامهم مكشوفة وأكثر وضوحًا في عدن، وعليه أصبحت حياتهم في خطر، الأمر الذي دفع نحو إعادة النظر في تلك المهام.
وبالفعل أُدخلت تعديلات على المهمة، وبدلًا من الاغتيالات المباشرة عن طريق مرتزقة أجانب، تم تدريب شباب يمني على أيدي ضباط إماراتيين، وتهيئتهم للقيام بعمليات اغتيالات ممنهجة نظير مكاسب مادية كبيرة، وذلك بحسب ما نقل التحقيق عن ضابط عسكري يمني سابق رفض ذكر اسمه.
وتضمن الوثائقي شهادة شخصين قالا إنهما نفذا اغتيالات ضد أسماء ليست لها علاقة بالإرهاب، وذلك بعد تلقيهما تدريبات على أيدي جنود إماراتيين، فيما كشف رجل آخر مسجون داخل إحدى سجون الإمارات عن صفقة حاول الإماراتيون إبرامها معه تتضمن الإفراج عنه مقابل اغتياله شخصية سياسية يمنية رفيعة المستوى، وهي مهمة لم يقبل بتنفيذها.
فيلم استقصائي مهم لـ: bbc يفضح جرائم مولتها الإمارات ونفذها مرتزقة أمريكيون وإسرائيلون في اليمن
ياسين التميمي:
المرتزقة الأمريكيون لدى الإمارات في اليمن، هو عنوان فيلم استقصائي مهم للغاية انتجته وبثته قناة بي بي سي العربية، يدور الفيلم حول قصة الاغتيالات في عدن والتي تورط فيها…
— ياسين التميمي YASEEN AL-TAMIMI (@yaseentamimi68) January 23, 2024
تجنيد عناصر القاعدة
في الوقت الذي تزعم فيه الإمارات وحليفها الأمريكي بمحاربة تنظيمي داعش والقاعدة في الجنوب اليمني، كشف تحقيق الـ”بي بي سي” عن تجنيد أبو ظبي لأعضاء سابقين في القاعدة وضمهم إلى قوات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًا، وتدريبهم على عمليات الاغتيال واستهداف خصوم الإمارات في الداخل اليمني.
واستلم فريق عمل الوثائقي قائمة بها 11 اسمًا لعناصر سابقين في تنظيم القاعدة يعملون حاليًّا لصالح وحدة النخبة في المجلس الانتقالي الجنوبي، من بينهم القيادي العملياتي السابق في التنظيم “ناصر الشّيبا”، المتهم في الهجوم على البارجة (الأمريكية) USS Cole في أكتوبر/تشرين الأول عام 2000 وأسفر عن مقتل 17 من مشاة البحرية الأمريكيين.
الشيبا الذي كان مسجونًا بتهمة الإرهاب ثم أفرج عنه لاحقًا، أصبح اليوم قائدًا في ميليشيات المجلس الانتقالي الجنوبي، بل له صور شخصية التقطت مع عضو مجلس القيادة الرئاسي عيدروس الزبيدي، الذي يعد أحد أبرز رجالات الإمارات في اليمن، والذي نفى في مقابلة له معرفته بتهم الإرهاب الموجهة للشيبا، كذلك علاقة أبو ظبي بعمليات الاغتيال التي تتم بحق خصومها في اليمن.
في تحقيق مثير للجدل: كشفت BBC عربي في تحقيقها الاستقصائي عن قيام الإمارات والمجلس الانتقالي بتوظيف قيادات من القاعدة لتنفيذ اغتيالات بحق ناشطي وقيادات حزب الإصلاح "الإخوان المسلمين في اليمن" مقابل الإفراج والعفو عنهم. pic.twitter.com/l93MXl9IzV
— سمير النمري Sameer Alnamri (@sameer_alnamri) January 24, 2024
ربما لم يقدم الوثائقي الجديد فيما كشفه عن ضلوع الإمارات في عمليات اغتيال ممنهج داخل اليمن، لكنه أكد على أن التحرك الإماراتي في الملف اليمني إنما كان بهدف أجندة خاصة بعيدة تمامًا عما تم الترويج له بشأن مزاعم دحر الإرهاب أو مواجهة الحوثيين، فما تفعله أبو ظبي اليوم من استهداف للنخب السياسية والحقوقية والنشطاء وبث الفتنة في الجنوب وتشتيت القوى اليمنية هو أكبر خدمة يمكن تقديمها للحوثي وكانت أحد الأسباب الرئيسية وراء ترسيخ أقدامهم وتعاظم نفوذهم بهذا الشكل.
وبعد استعانة الإماراتيين بالمرتزقة الأجانب لتحقيق أجنداتهم الخاصة في الداخل اليمني، باتت الكرة الآن في ملعب اليمنيين إثر تكشف خيوط المؤامرة، فهل يكون ما حدث نقطة محورية تدفع نحو لم شمل الفرقاء السياسيين في الجنوب (حزب التجمع اليمني للإصلاح وحكومة صنعاء وأحرار الجنوب والمؤتمر) أم ستُضاف إلى قائمة التجارب والفرص التي فوتها اليمنيون لتصحيح المسار؟