تسعى المملكة العربية السعودية إلى البحث عن موضع قدم لها في العراق بعد سنوات طويلة من برودة العلاقات بين البلدين منذ الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003، وذلك من خلال المشاركة في إعادة إعمار المدن العراقية التي مزقتها الحروب طيلة السنوات الماضية، هكذا علقت صحيفة “الجارديان” البريطانية على مساعي الرياض للتقارب مع بغداد في الآونة الأخيرة.
التقرير الذي نشرته الصحيفة الإنجليزية تطرق إلى محاولة محمد بن سلمان فتح صفحة جديدة في العلاقات مع العراق بعد تحرير معظم أراضيه من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” مستندًا إلى العديد من الشواهد التي تعزز هذه الفرضية، إلا أن الطريق لن يكون ممهدًا كما يتوقع البعض.
سيطرة طهران على معظم ملامح الخارطة السياسية العراقية منذ عقد من الزمان تقريبًا ودخول واشنطن كلاعب أساسي في المشهد لسنوات ليست بالقصيرة وتراجع الدور العربي في ظل الانشغال بالأزمات الداخلية لدول المنطقة من المرجح أنها ستكون عقبات أمام طريق العودة السعودية للمشهد العراقي مجددًا، فكيف يمكن لآل سعود استعادة حضورهم العراقي مرة أخرى؟ وما الاستراتيجيات التي بأيديهم لترجمة تلك المساعي إلى خطوات عملية؟
المشاركة في الإعمار ستكون الاستراتيجية الأبرز لدى آل سعود للعودة للمشهد العراقي مجددًا
مساعٍ للتقريب
دخلت العلاقات بين الرياض وبغداد نفقًا مظلمًا منذ عام 2003، حين ارتأت المملكة الابتعاد عن الساحة العراقية في أعقاب إسقاط نظام صدام حسين وسيطرة الأمريكان على مقادير الأمور، لتفقد نفوذها خطوة خطوة في مقابل هرولة طهران لملء هذا الفراغ الذي أحدثه الغياب السعودي.
وظلت تلك العلاقات أسيرة مرحلة التجمد طيلة السنوات الماضية قبل أن تبادر الرياض لإذابته بصورة مرحلية حين سمت ثامر السبهان سفيرًا لها في بغداد 2015، والذي ترك منصبه بعد أقل من عام إثر الاتهامات التي وجهت له بالتدخل في شؤون العراق الداخلية، مما دفع الديوان الملكي السعودي لاستدعائه وتعيينه وزيرًا للدولة لشؤون الخليج العربي.
وخلال الأشهر الست الأخيرة دشنت الرياض مرحلة جديدة في العلاقات مع بغداد بدأتها بزيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير للعراق فبراير الماضي، والتي كانت أول زيارة لوزير خارجية سعودي منذ نحو 14عامًا، تبعتها زيارة رئيس أركان الجيش السعودي الفريق أول ركن عبد الرحمن بن صالح يوليو الماضي، حيث التقى وكبار العسكريين في العراق لبحث عدد من الملفات المشتركة.
وفي المقابل تتابعت الزيارات الرسمية العراقية إلى السعودية، ففي يونيو الماضي زار رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي الرياض، والتقى العاهل السعودي وبعض كبار الديوان الملكي السعودي، أعقبها زيارة وزير الداخلية قاسم الأعرجي المعروف عنه قربه من طهران وعلاقته القوية بالحشد الشعبي الشيعي، وذلك في يوليو الماضي، ثم الزيارة المثيرة للجدل لزعيم التيار الصدري الشيعي العراقي مقتدى الصدر في 30 من يوليو، والتي أثارت الكثير من الجدل.
العديد من علامات الاستفهام فرضت نفسها بقوة أمام الأسماء التي اختارتها الرياض لتوجيه الدعوة لزياراتها، والتي تأتي في معظمها أسماء لها ثقل شيعي وعلى علاقة قوية بإيران، مما أثار الكثير من التساؤلات وهو ما أرادت الصحيفة الإنجليزية “الجارديان” أن تكشف بعض ملامحه.
جواز التقارب السعودي العراقي لابد أن يعتمد بخاتم طهران، وهو ما تعرفه الرياض جيدًا، وربما هذا يفسر استضافتها للصدر والأعرجي مؤخرًا والمعروف عنهما قربهما من النظام الإيراني
حالة من الجدل أثارتها زيارة مقتدى الصدر للسعودية
لماذا الآن؟
الصدر والأعرجي، الأسمان الأكثر إثارة للجدل في مسيرة تبادل الزيارات بين البلدين، فالصدر صاحب المواقف العدائية الواضحة ضد المملكة، فهو الذي طالب بإغلاق السفارة السعودية في بغداد احتجاجًا على إعدام الشيخ السعودي نمر النمر، داعيًا السعوديين إلى التظاهر، كما أنه صاحب التهديد باجتياح المملكة حال جرى المس بالمرجع آية الله الشيخ عيسى قاسم في البحرين، إضافة إلى وصفه آل سعود بـ”الظالمين “وحكومتهم بـ”الإرهابية” خلال تعليقه على تدخل القوات السعودية في قمع المتظاهرين البحرينيين.
كذلك قاسم الأعرجي أحد أبرز الداعمين لقوات الحشد الشعبي المدعومة إيرانيًا في العراق، والذي نقل عنه مقولة: “لولا إيران لسقطت بغداد في أيدي داعش”، ومن ثم فإن اختيار الرياض لهذين الإسمين على وجه الخصوص له دلالة سياسية ورسالة واضحة تبعث بها لطهران وبغداد على حد سواء.
“الجارديان” في تقريرها كشفت النقاب عن مغزى هذا الاختيار، منوهة أن وصول الصدر – الذي وصفته بأنه بطل الرواية في الحرب الطائفية التي دمرت العراق في الفترة من 2004 إلى 2008 والتي لها علاقة قوية بإيران – للرياض يشير إلى رغبة المملكة في تخفيف الحصار عن السنة العراقيين ممن تجرعوا مرارة الحرب طيلة السنوات الثلاثة الماضية والعمل على إعادة بناء المدن الأكثر كثافة سنية وهي الموصل والفلوجة والرمادي وتكريت.
تسعى المملكة العربية السعودية إلى البحث عن موضع قدم لها في العراق بعد سنوات طويلة من برودة العلاقات بين البلدين منذ الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003، وذلك من خلال المشاركة في إعادة إعمار المدن العراقية
وهذا أيضًا ما أشار إليه بصورة ضمنية وزير الدولة السعودي السابق سعد الجابري بقوله: “زيارة المسؤولين العراقيين وعلى رأسهم الصدر للرياض تعد خطوة مهمة لضمان عودة العراق إلى الحظيرة العربية ودعمه من قبل شركائه وأشقائه الودودين”.
إلا أن الوزير السعودي أماط اللثام في نفس اللحظة عن هدف آخر، ربما يفسر كيفية تحقيق الهدف الأول، وهو الحد من محاولات طهران المستمرة للسيطرة على العراق عن طريق بث الطائفية، ووجود تعاون أوسع بين الرياض وبغداد يقود الطريق لتعزيز الدعم الإقليمي للعراق، وخاصة من دول الخليج، ويعد هذا ضروريًا بعد استعادة الموصل من تنظيم “داعش” في حين يتطلع العراق نحو إعادة إعمار البلاد.
وفي الوقت ذاته تسعى السعودية إلى التقارب مع طهران حتى وإن كانت التصريحات العلنية عكس ذلك، حيث دفعت المستجدات الراهنة على الساحة الإقليمية خلال الفترة الأخيرة الجميع إلى إعادة النظر فيما كان يتبناه من مواقف سابقة، وهو ما كشف “نون بوست” النقاب عنه في تقرير سابق.
كلفة إعادة الإعمار في العراق تتجاوز تقريبًا 100 مليار دولار ، من الممكن أن تبدأها المملكة بالمدن السنية
التقرير أشار إلى أن المرحلة السعودية الجديدة نحو العراق تأتي في أعقاب تحرير الموصل من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وكان لحلفاء طهران في العراق النصيب الأعظم من هذا الانتصار، ومن هنا وجدت الرياض نفسها مضطرة للتعاطي مع التحولات الجديدة التي تشير إلى تعاظم قوة الحشد الشعبي عراقيًا.
هذا بخلاف ما تعانيه المملكة من قلق انتقال خطر تنظيم الدولة إلى عقر دارها في ظل الحدود المفتوحة مع العراق، كذلك فإن انسداد الأفق أمام السعودية في اليمن في ضوء ما تتكبده من خسائر مادية وبشرية فضلًا عن تراجع دورها في الملف السوري، ودخولها في أزمة جديدة مع جارتها قطر، هذا غير ما تواجهه من اضطرابات أمنية في جانبها الشرقي، يضاف إلى ذلك التوتر السياسي جراء تصعيد محمد بن سلمان خلفًا لوالده، كل هذا جعل الوقت في غير صالح آل سعود، ومن ثم كان لا بد من إعادة النظر في العلاقات مع العراق كبوابة نحو تخفيف التوتر مع إيران.
طلب سعودي بالوساطة العراقية مع إيران
100 مليار دولار لإعادة الإعمار
يبدو أن المشاركة في الإعمار ستكون الاستراتيجية الأبرز لدى آل سعود للعودة للمشهد العراقي مجددًا، وبحسب كبار المسؤولين في السعودية فإن كلفة إعادة الإعمار في العراق تتجاوز تقريبًا 100 مليار دولار، من الممكن أن تبدأها المملكة بالمدن السنية الأربعة سالفة الذكر وهو ما نقلته الصحيفة على لسان وزير الدولة السابق سعد الجابري، الذي ألمح أن هذه الخطوة ستمثل محور آمال المصالحة الوطنية في بلد أكثر من ثلثي سكانها من الشيعة.
ومن زاوية أخرى اعتبر إحسان الشمري رئيس مركز الفكر السياسي في بغداد، أن مساعي السعودية للتقارب مع العراق عبر بوابة المشاركة في إصلاح ما خلفته الحرب يعد صفحة جديدة من العلاقات السعودية العراقية التي كانت مضطربة وحادة في الماضي، وخصوصًا خلال حكم رئيس الوزراء السابق المالكي، مضيفًا أن الوضع تغير الآن وخاصة بعد تولي حيدر العبادي مقاليد الأمور في بغداد، معبرًا عن ذلك بقوله: “والآن بعد أن وجد السعوديون شخصية سياسية غير طائفية في حيدر العبادي، هم على استعداد للعمل معًا، ولم تعد تركز على الصدع الشيعي السني، وعلاوة على ذلك، يريد العراق العودة إلى الحظيرة العربية، والمملكة هي النافذة التي تطل على العالم العربي”.
وتماشيًا مع هذا النهج أوضح عبد الباري الزيباري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان العراقي أن الإسهام في إعادة الإعمار باب جيد لعودة العلاقات السعودية العراقية، مرجعًا ذلك لرغبة الإدارة الأمريكية في مساعدة السعودية والخليج في إعادة بناء علاقاتها مع بقية دول المنطقة، معلنًا “نحن نرحب بأي تمويل أجنبي أو إقليمي، وستكون هذه خطوة ذكية حقًا من قبل الدول العربية والأجنبية”.
زيارة المسؤولين العراقيين وعلى رأسهم الصدر للرياض تعد خطوة مهمة لضمان عودة العراق إلى الحظيرة العربية ودعمه من قبل شركائه وأشقائه الودودين
ماذا عن طهران؟
لا يمكن الحديث عن مساعي السعودية للعودة للملعب العراقي مرة أخرى بمعزل عن الموقف في طهران، فمنذ 2003 وحتى الآن تبسط إيران نفوذًا شبه كامل على أرجاء الخارطة العراقية كافة، سياسيًا وأمنيًا، خاصة بعد تفريغها تمامًا من المنافسين الأجانب.
ومن ثم فإن جواز التقارب السعودي العراقي لا بد أن يعتمد بخاتم طهران، وهو ما تعرفه الرياض جيدًا، وربما هذا ما يفسر استضافتها للصدر والأعرجي مؤخرًا والمعروف عنهما قربهما من النظام الإيراني كما ذكر سابقًا.
وما يعزز هذه الفرضية ما صرح به وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي منذ أيام بشأن طلب سعودي بالوساطة العراقية مع إيران بهدف تقريب وجهات النظر وتخفيف حدة التوتر بين البلدين، خاصة بعد المستجدات الإقليمية الأخيرة التي فرضت نفسها بقوة لإعادة خارطة التحالفات في المنطقة.
ثم جاءت التصريحات الصادرة من طهران بالموافقة على الوساطة العراقية – وإن نفتها الرياض – لتكشف رغبة لدى الطرفين في إذابة الجليد في العلاقات بينهما – ولو مؤقتًا – وتبقى مساحة المرونة التي يبديها كل طرف هي الفيصل في احتمالية إحداث أي تقارب.
ورغم تشكيك البعض في قدرة العراق على القيام بدور الوساطة بين إيران والسعودية في ظل خضوعه لإملاءات طهران مرجحين دولًا أخرى لهذا الدور على رأسها تركيا، فإن الخطوات التي تخطوها المملكة تجاه شقيقها عبر شخصيات بعينها ربما تقود إلى دفع الرياض وطهران وجهًا لوجه، وهنا قد تكون بغداد طاولة مفاوضات حقيقية وأرضًا خصبة للتقارب وهذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة.