“إسرائيل” استطاعت أن تبني قواعد جوية وبحرية في دول القرن الإفريقي، وبالطبع الغاية الرئيسية منها تهديد الأمن العربي والضغط على مصر والسودان، وقد تحولت جميع هذه القواعد إلى مراكز للتجسس على الدول العربية والدول الإفريقية نفسها، كما شكلت دولة الاحتلال فرق عمل أمنية ومجموعات عسكرية بشكل مشترك مع عدد من الدول الإفريقية، الغاية منها تقوية نفوذها داخل الأجهزة العسكرية والأمنية الإفريقية عبر هذه المجموعات التي تضم الكثير من كبار الضباط الذين تلقوا تدريبهم في المعاهد العسكرية الإسرائيلية أو تدربوا بواسطة مستشارين إسرائيليين في بلدانهم.
وجميعهم يدينون بالولاء للمصالح الإسرائيلية، وتربطهم علاقات مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، ومعظم هؤلاء الضباط من إثيوبيا والكونغو ورواندا وزائير وساحل العاج وجنوب إفريقيا وإريتيريا وكينيا وأوغندا وتنزانيا.
وشجعت “إسرائيل” الأجيال الجديدة من القادة الأفارقة الذين ينتمون إلى أقليات عرقية أو مذهبية في بلدانهم، ويرتبطون بعلاقات جيدة معها، ومنهم مينيس زيناوي في إثيوبيا وأسياسي أفورقي في إريتيريا وجون جارانج في جنوب السودان ويوري موسيفيني في أوغندا، ليصبحوا قادة بلدانهم وأصدقاءً مخلصين لـ”إسرائيل” ويدافعون عن مصالحها.
إن “إسرائيل” ترتبط مع إريتيريا باتفاقية أمنية وقعت عام 1996، حصلت بموجبها إريتيريا على مساعدات عسكرية ضخمة، وحصلت دولة الاحتلال على تسهيلات لتعزيز وجودها في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وأصبح لها وجود عسكري في مضيق باب المندب.
“إسرائيل” ظلت على علاقات سرية مع الدول الإفريقية التي قطعت علاقاتها الرسمية العلنية معها في مراحل مختلفة خلال القرن العشرين
في الصراع الذي وقع في منطقة البحيرات العظمى عام 1994 زودت “إسرائيل” كل من رواندا وبوروندي والكونغو بالأسلحة والمستشارين العسكريين وذلك بهدف إثارة النعرات والقلائل لتبقى المستفيد الوحيد والقادر على إدارة هذه الصراعات في المنطقة.
وحرض جهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد من خلال مكتبه في نيروبي، ومن خلال تعاون الإسرائيلي الأمني مع كينيا، الأخيرة على إثارة التوترات فيما يتعلق بأزمة مياه النيل مع مصر في العام 2003، وظلت تضغط على كينيا حتى أعلنت انسحابها من معاهدة حوض النيل الموقعة في العام 1929، وكررت نفس السيناريو مع أوغندا التي أعلنت أنه يجب إعادة التفاوض بشأن موضوع مياه النيل والوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف، أو أنها ستنسحب من الاتفاقية كما فعلت كينيا.
وقد أصدر الدبلوماسي الإسرائيلي السابق آريه عوديد كتاب “إسرائيل وإفريقيا” في العام 2014 وترجمه إلى العربية الدكتور عمر زكريا المتخصص في الشؤون الإسرائيلية، وتظهر قيمة هذا الكتاب المهم من أن مؤلفه كان من الذين وضعوا خطط اختراق القارة الإفريقية من قبل “إسرائيل”، وساهم في عملية بناء وتعزيز العلاقات الإسرائيلية الإفريقية على مدار عقود.
وكان قد بدأ عمله الدبلوماسي في أوغندا عام 1961، وانتقل ليرعى المصالح الإسرائيلية في كينيا في سبعينيات القرن العشرين، ثم في تسعينيات القرن الماضي عمل سفيرًا في سوازيلاند وكينيا، ثم عين سفير غير مقيم في لاسوتو وزامبيا وموريشيوس وجزر سيشيل، وعمل محاضرًا للدراسات الإفريقية بالجامعة العبرية في القدس.
يذكر الدبلوماسي الإسرائيلي في كتابه آنف الذكر، أن دولة الاحتلال ظلت على علاقات سرية مع الدول الإفريقية التي قطعت علاقاتها الرسمية العلنية معها في مراحل مختلفة خلال القرن العشرين، نتيجة للضغوط التي تعرضت لها تلك الدول الإفريقية من الأنظمة العربية، وظلت تعمل بكامل حريتها في تلك الدول.
ويقر عوديد أن “إسرائيل” استمرت في تقديم أنواع المساعدات العسكرية والأمنية كافة للدول الإفريقية، وذكر أن إثيوبيا وإريتيريا لاحقًا كانتا مهمتان جدًا لإسرائيل من أجل تأمين الطرق الملاحية للشرق الأقصى ولجنوب إفريقيا، والمواني الموجودة في مومباسا في كينيا ودار السلام في تنزانيا هي مواني مهمة لإسرائيل كمحطات في الطرق الملاحية، ويقول إن الوجود العسكري الإسرائيلي في إثيوبيا وأوغندا وكينيا بالغ الأهمية من الناحية الجيوسياسية لتطويق العرب.
دور خطير لعبه الجيش الإسرائيلي وجهاز المخابرات الموساد في بعض الدول الإفريقية من خلال السفارات الإسرائيلية وبعض ملحقياتها التجارية والثقافية
وكان عوديد قد درس في جامعة ماكريري البريطانية في أوغندا، ودرس معه في هذه الجامعة العديد من الزعماء الأفارقة الذين وصلوا إلى هرم القيادة السياسية والعسكرية في بلدانهم فيما بعد ومنهم “بنجامين مكابا” الرئيس التنزاني السابق، وأرسل الدبلوماسي السابق في أثناء عمله الكثير من الطلبة الأفارقة للدراسة في “إسرائيل”، وكان يختارهم بمعاونة رجال المخابرات الإسرائيلية الموساد بناءً على معايير معينة أهمها مدى قدرة هؤلاء الطلبة على تبوء مناصب قيادية في بلدانهم لاحقًا، ودرجة صداقتهم مع “إسرائيل”، ومن بين هؤلاء الذي أرسلهم للدراسة يوسف لولي الذي أصبح رئيس أوغندا بعد سقوط عيدي أمين.
وكشف عن الدور الخطير الذي لعبه الجيش الإسرائيلي وجهاز المخابرات الموساد في بعض الدول الإفريقية من خلال السفارات الإسرائيلية وبعض ملحقياتها التجارية والثقافية، بواسطة مستشارين أمنيين بلغ عددهم العشرات في كل من إثيوبيا، أوغندا، الكونغو، تنزانيا، كينيا، إريتيريا.
وكانت “إسرائيل” قد ساعدت الرئيس الأوغندي “أوبوتي” بناءً على طلبه لتنظيم وتدريب جيشه لمواجهة أعدائه في السودان الذي كانت “إسرائيل” تدعم قيام كيان غير عربي في جنوبه.
الاهتمام الإسرائيلي بأوغندا يأتي من كون منابع النيل الأبيض بها، وكونها أيضًا تقع جنوب مصر والسودان الدولتين العربيتين اللتين تريد “إسرائيل” حصارهما والضغط عليهما، مما دفعها لتدريب سلاح المشاة والمظلات والمدرعات والقوات الجوية في الجيش الأوغندي، وأيضًا تدريب رجال وضباط الشرطة ودربت الطيارين العسكريين الأوغنديين في معهد للطيران بنته في أوغندا، ثم قدمت لهم أربع طائرات تدريب طراز “بوخانا” ولاحقًا باعت لهم 12 طائرة من نوع “بوجا”، وأول دبابة حصل عليها الجيش الأوغندي كانت مقدمة من “إسرائيل” ضمن ست دبابات، وفي فترة لاحقة دربت 30 طيارًا أوغنديًا ودربت معهم عشرات الفنيين لصيانة الطائرات.
استعدادًا لجولته الثالثة في إفريقيا، استضاف نتنياهو رئيس توغو فاورا غناسينغبي على مأدبة عشاء في منزله بالقدس الغربية، ومن اللافت ما كتبه الرئيس الإفريقي في سجل الزوار: “أحلم بعودة إسرائيل إلى إفريقيا، وعودة إفريقيا إلى إسرائيل”
ثم جاء الوقت كي تحصد دولة الاحتلال ثمار هذه المساعدات والدعم الكبير الذي حصلت عليه أوغندا التي أصبحت من الدول الإفريقية التي تمتنع عن التصويت في القضايا التي تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي في المحافل الدولية.
وعلى سبيل الذكر عارضت أوغندا مشروع قرار بشأن القدس في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2003، كما امتنعت عن التصويت في قضية جدار الفصل العنصري الذي أقامته “إسرائيل” على الأراضي الفلسطينية حين طرح اقتراح لتحويل الموضوع إلى المحكمة الدولية، وفي أكثر من مناسبة أدانت أوغندا كفاح الشعب الفلسطيني واعتبرته إرهابًا.
ودولة مثل” الرأس الأخضر” وهي عبارة عن مجموعة جزر تقع غرب إفريقيا، يصرح رئيسها جورجي كارلوش بعد اللقاء الذي جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هامش اجتماع المنظمة الاقتصادية المشتركة لدول غرب إفريقيا قبل شهور قليلة، بأن دولته لن تصوت ضد “إسرائيل” في الأمم المتحدة من الآن فصاعدًا.
واستعدادًا لجولته الثالثة في إفريقيا، استضاف نتنياهو رئيس توغو فاورا غناسينغبي على مأدبة عشاء في منزله بالقدس الغربية، ومن اللافت ما كتبه الرئيس الإفريقي في سجل الزوار: “أحلم بعودة إسرائيل إلى إفريقيا، وعودة إفريقيا إلى إسرائيل”، ورد عليه نتنياهو بقوله: “توغو صديقة حقيقية لإسرائيل”.
إن العالم من حولنا يتغير، وتتبدل معه مصالح الدول وتحالفاتها، فهل أصبحت فلسطين والقضية الفلسطينية في طي النسيان بالنسبة لمعظم الدول الإفريقية؟ وهل العرب ومن ضمنهم القيادة الفلسطينية يمتلكون القدرة والرؤية والقرار والعزيمة لتصويب وتحسين العلاقات الرسمية والشعبية بينهم وبين شعوب إفريقيا وقادتها، أم أن الأزمات العربية العربية التي لا تنتهي جعلت العرب قومًا يفكرون خارج مصالحهم بل خارج التاريخ وخارج الجغرافيا؟