ترجمة وتحرير نون بوست
خلال الشهر الجاري، أُلقي القبض على رجل في مدينة أوكلاهوما على خلفية محاولته تفجير ألف رطل من المتفجرات داخل شاحنة بضائع كانت متوقفة وسط المدينة. وفي الأثناء، أعرب هذا الرجل عن أنه كان يأمل في أن يؤدي هذا الهجوم إلىتعطيل عمل الحكومة الأمريكية واندلاع ثورة في البلاد. وفي شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، تم اعتقال ثلاثة مواطنين في كنساس بتهمة التخطيط لتفجير مجمع سكني ومسجد باستخدام أربع سيارات محملة بالمتفجرات.
في الحقيقة، كان من المتوقع أن تنتشر تغطية هذه الأخبار بشأن هذه المؤامرات التي تم إحباطها في الأيام الماضية، والتي سعى من خلالها الإرهابيون إلى بثّ الخوف والفوضى انطلاقا من أورلاندو وصولا إلى باريس وبرشلونة مؤخرا، في القنوات التلفزية على أوسع نطاق. فضلا عن ذلك، كان من المنتظر أن يستعرض الخبراء في مجال الإرهاب هذه الأحداث لساعات طويلة ويتناولوها بالنقاش من جميع الزوايا، وذلك انطلاقا من المتفجرات المستخدمة وخلفية المهاجمين المحتملين وصولا إلى استكشاف الأسباب والطرق التي جعلتهم يتحولون إلى متطرفين.
بدلا من ذلك، لم تشهد الحادثتين الآنف ذكرهما سوى قدر محدود من التغطية التي اقتصرت على مجرد نشر أخبار موجزة ومتفرقة ومعلومات قليلة على شبكة الإنترنت. وفي حال سألت أي عربي أمريكي أو مسلم في الولايات المتحدة عن السبب الكامن وراء عدم تغطية هذه الحوادث المثيرة للإشمئزاز، سيجيبونك على الفور أن الأمر يعزى إلى أن المهاجمين المحتملين كانوا من البيض.
مثل هذه الهجمات تحدث بانتظام، إلا أنها بالكاد تحظى بأي اهتمام يُذكر من قبل وسائل الإعلام. فعلى سبيل المثال، طغت اللامبالاة على ردود فعل الأمريكيين في أعقاب تفجير مسجد في بلومينغتون في ولاية مينيسوتا
عند هذه المرحلة، يظل السؤال المطروح: لماذا لم يحظى هذا التهديد المتصاعد بالتغطية ذاتها التي تطال الهجمات التي ينفذها المتطرفون أو “الذئاب المنفردة”؟ في الواقع، تتمثل الإجابة في أن المجتمعات كافة تعيش معاناة جوهرية، ألا وهي انجراف البلاد نحو نفق مظلم. في المقابل، لا يبدو التفسير البديل، الذي يشير إلى أن المؤامرات تم تجاهلها بسبب فشلها، مقنعا البتة.
حين نمعن النظر في غياب أي تغطية تنذر بالخطر في كل مرة يتم فيها إحباط مؤامرة في اليمن تستهدف الولايات المتحدة، يبدو جليا أن الأمر ذاته ينطبق على هذه الحوادث المنعزلة. والجدير بالذكر أن مكتب التحقيقات الفدرالي قد حذّر من أن عدد الهجمات التي نفذتها الجماعات المؤمنة بسيادة البيض خلال السنوات التي تلت أحداث 11 من أيلول/سبتمبر يفوق أي عمليات من قبل جماعة محلية متطرفة أخرى. كما من المرجح أن تشن هذه الجماعات المزيد من الهجمات.
على الرغم من أن مثل هذه الهجمات تحدث بانتظام، إلا أنها بالكاد تحظى بأي اهتمام يُذكر من قبل وسائل الإعلام. فعلى سبيل المثال، طغت اللامبالاة على ردود فعل الأمريكيين في أعقاب تفجير مسجد في بلومينغتون في ولاية مينيسوتا باستخدام قنبلة منزلية الصنع في الخامس من آب/أغسطس الجاري. وخلال شهر شباط/فبراير الماضي، قتل رجل هندي بالرصاص في حانة في مدينة أولاث بولاية تكساس على يد رجل أبيض، كان يصرخ حينها “أخرج من بلدي”. وقد كافحتُ، في ذلك الوقت، لرصد أي تغطية تلفزيونية أمريكية للخبر، وكانت قناة “بي بي سي” من القلة القليلة التي قامت بالتطرق إلى القصة.
في الحقيقة، يُفضّل الأشخاص التفكير في أن الشر دائما ما يكون مصدره خارجي وليس من الداخل. ولعل أبرز دليل على ذلك أنه يتم التعامل مع القوميين والمؤمنين بسيادة البيض على اعتبارهم مسألة تثير الفضول، في حين يُوصفون “بالأناقة” حتى في المجلات التقدمية من قبيل مجلة “الأم جونز”. علاوة على ذلك، يصبح من الأسهل الاعتقاد بأن التهديد الحقيقي صادر عن أشخاص قادمين من بعيد الذين يتمنون الأذى للأمريكيين ويحاولون تهديد أسلوب حياتهم، عوضا عن طرح أسئلة جدية بشأن المجتمع في الداخل والقضايا التي لم تحل بعد.
في الوقت الراهن، أصبح خطاب الكراهية الطائفي الذي يعتمده بعض رجال الدين يواجه أخيرا التنديد بقوة وبشكل علني في السعودية
إلى غاية الأسبوع الماضي، غاب الانقسام بين الليبراليين والمحافظين داخل الولايات المتحدة، حيث لم يكن هناك اختلاف فيما يتعلق بتوجهات كل من “فوكس نيوز” “وإم إس إن بي سي” على حد سواء. وفي الوقت الراهن، أخذ هذا المعيار المزدوج في التغطية الإعلامية والخطاب السياسي، الذي يغذي أيضا الإسلاموفوبيا، في تلقي المزيد من الاهتمام خاصة في أعقاب أحداث شارلوتسفيل بولاية فرجينيا. في هذا الصدد، اعتبر الهجوم المروع باستخدام سيارة، الذي أدى إلى مقتل امرأة ورجل من البيض كانا يحملان المشاعل وهما يرددان “اليهود لن يحلوا محلنا”، بمثابة تهديد منبثق من الإرهاب المحلي، وذلك بغية استثارة اهتمام الرأي العام.
في هذا السياق، تواترت دعوات الاستعطاف من قبل أولئك الذين أرعبتهم أعمال العنف في شارلوتسفيل الذين ما فتؤوا يرددون “نحن أفضل من هذا” أو “هذا لا يمثلنا”. ويذكرني ذلك بأصدقائي في العالم العربي حين يهزّون برؤوسهم غير مبالين بشأن العنف الذي يمارسه تنظيم الدولة أو العديد من الهجمات الانتحارية الفظيعة التي يقوم بها المتطرفون في المنطقة.
في الشرق الأوسط أيضا، تتمثل استجابة العديدين إزاء مثل هذه الجرائم في خلق مسافة تفصلهم عن مرتكبيها، وذلك غالبا من خلال الإلقاء باللوم على الغرباء. وفي الأثناء، قد يقول هؤلاء إن تنظيم الدولة هو صناعة أمريكية أو إن أحداث 11 من أيلول/سبتمبر كانت مؤامرة من إعداد الموساد لجعل العرب يظهرون في شكل سيء. ولكن الحقيقة الصعبة تكمن في أن الذين يرتكبون عمليات إرهابية هم نتاج مجتمعاتهم حتى وإن كانوا من الأقلية، حيث برزوا على خلفية قضايا لم تُحلّ ومشاكل عميقة الجذور تم تلميع صورتها.
منذ فترة طويلة، تعاني المجتمعات في العالم العربي من هذه المعتقدات العقيمة. فعلى سبيل المثال، لم تعترف المملكة العربية السعودية بأن تفسيرها الصارم لتعاليم الإسلام قد فتح الطريق أمام البعض ليحوله إلى تطرف عنيف، إلا حين شنّ مسلحون هجمات انتحارية داخل البلاد سنة 2003. ومجددا، سلط بروز تنظيم الدولة الضوء على النقاش حول التعاليم الدينية المتشددة التي يستغلها رجال الدين المتعصبين للدفع بالشباب المحروم في دوامة من الضياع.
في الوقت الراهن، أصبح خطاب الكراهية الطائفي الذي يعتمده بعض رجال الدين يواجه أخيرا التنديد بقوة وبشكل علني في السعودية. أما في الولايات المتحدة، فقد كان الديمقراطيون عرضة لانتقادات من قبل الجمهوريين لرفضهم المزعوم لاستخدام عبارة “الإرهاب الإسلامي المتطرف” لوصف جرائم تنظيم الدولة ومتطرفين آخرين.
لا تزال الولايات المتحدة، عبارة عن مدينة مشرقة تقع على تلّة تسعى جاهدة نحو التقدم، تجذب وتلهم الأفراد في جميع أنحاء العالم، علما وأن هؤلاء بدورهم يراقبون بشيء من الخوف كيف ستعمل الولايات المتحدة على تجاوز هذه اللحظة الحرجة.
في حين كان من الضروري إقناع دونالد ترامب حتى يبادر بإدانة النازيين “وكو كلوكس كلان” في أعقاب أحداث شارلوتسفيل، لم يتوانى عن الإسراع لمشاركة جملة من التغريدات على تويتر بشأن التهديد الذي يمثله تنظيم الدولة، إثر هجوم برشلونة. وذلك يفسر تحذير الديمقراطيين وآخرين من استخدام مصطلحات شاملة قد تتسبب في نفور مليار و800 مليون مسلم، في ظل رؤيتهم لعالمهم بصدد الانهيار على أيدي قلة من المتطرفين.
خلافا لذلك، من الضروري أيضا تسمية الأشياء بمسمياتها. وفي هذا الإطار، اختلف خبراء من المنطقة الذين تحدثت إليهم عن عبارة “الإرهاب الإسلامي المتطرف”، التي تعتبر واسعة النطاق للغاية، في حين اقترحوا في المقابل مصطلحا أكثر تحديدا وهو “الإسلاميون الجهاديون”.
من هذا المنطلق، اقترح كل من حسن حسن، مؤلف مشارك لكتاب يتحدث عن تنظيم الدولة، ونادية عويدات، محاضرة في الفكر الإسلامي، أن أفضل إستراتيجية للتعاطي مع مسألة التطرف تتمثل في معالجة حقيقة أن تنظيم الدولة استلهم مبادئه من التعاليم الشائعة في المنطقة. وفي حال عدم اتباع هذه الإستراتيجية، وفقا لما أفاد به حسن وعويدات، سيكون من المستحيل إظهار كيف أن التنظيم هدم تلك التعاليم.
في الولايات المتحدة، لا يمكن أن ينصبّ التركيز فقط على ترامب وتماثيل القادة الكونفدراليين، بل أيضا على السبب الكامن وراء تردد صدى خطاب سيادة البيض لدى البعض مما دفعهم إلى العنف. علاوة على ذلك، من المهم أن ندرك أن تفشي ظاهرة العنف هي نتاج مظالم ذات جذور عميقة داخل المجتمع الأمريكي.
في واقع الأمر، طغت سياسة الكيل بمكيالين في حياة الأمريكيين، حيث قتل تامير رايس، الصبي ذو البشرة الداكنة البالغ من العمر 12 سنة، برصاص الشرطة لإشهاره لعبة في شكل مسدس في الوقت الذي يسمح فيه لميليشيات البيض المسلحة بالسير دون عوائق في شارلوتسفيل. وفي ردّه على الانتقادات التي تفيد أن الشرطة لم تفعل ما بوسعها لوقف سفك الدماء، أفاد حاكم ولاية فرجينيا، تيري ماكوليف أنه “من السهل توجيه الانتقادات، لكنك إذا رأيت المليشيات تسير في الشارع، كنت ستحسبها جيشا”.
إثر انتخاب ترامب، كتب صديقي ربيع علم الدين، الذي فر من لبنان في الثمانينات واستقر في الولايات المتحدة، مقالا تحت عنوان “دورنا في الظلام” ردا على من حوله ممن يصرون على أننا “أفضل من ذلك”. وفي هذا الإطار، كتب علم الدين، قائلا: “نحن لسنا أفضل مما يحدث بل نحن من يجسد ذلك. لقد تم انتخاب الرجل ليصبح رئيسا، ما يعني أن أمريكا تمثل ما يحدث ونحن أيضا”.
لا يوجد مجتمع من دون جانب مظلم، وأن التهديد الأكثر خطورة الذي تواجهه الولايات المتحدة اليوم قد ينبع من داخلها وليس من الخارج.
في المقابل، لا يمثل الجميع ما يحدث، ولا يمكن تجسيد الولايات المتحدة من خلال حشد غاضب من الرجال البيض الذين خرجوا إلى شوارع شارلوتسفيل. في حقيقة الأمر، وانطلاقا من فترة العبودية إلى معسكرات الاعتقال اليابانية، مرورا بقوانين قمع الناخبين التي ظهرت مؤخرا في جميع أنحاء البلاد، كان للولايات المتحدة نصيب من الضياع في نفق مظلم، حيث لم تسعى كفاية لتخليص نفسها من الأساطير التي تُسليها والتي تدعم احساسها بالاستثنائية.
في الواقع، لا تزال الولايات المتحدة، عبارة عن مدينة مشرقة تقع على تلّة تسعى جاهدة نحو التقدم، تجذب وتلهم الأفراد في جميع أنحاء العالم، علما وأن هؤلاء بدورهم يراقبون بشيء من الخوف كيف ستعمل الولايات المتحدة على تجاوز هذه اللحظة الحرجة. ومما لا شك فيه أن الكثيرين قد نددوا بصوت عال بالعنصرية والكراهية والتعصب، ولكن ذلك لا ينفي حقيقة أن 67 بالمائة من الجمهوريين يأيدون كيفية تعاطي ترامب مع أحداث شارلوتسفيل.
من جانب آخر، قد يبدي البعض من العرب قدرا من “الشماتة” على خلفية هذه الأحداث، فيما يسود إحساس صغير بالتبرير إزاء إدراك أن أمريكا، التي لطالما ألقت محاضرات على الآخرين عن الحقوق المدنية والديمقراطية والحرية، لديها بعض المشاكل الخطيرة التي تحتاج معالجتها. حين عقد الأمريكي المؤمن بسيادة البيض، ريتشارد سبنسر، مؤتمرا صحفيا على مقربة من البيت الأبيض خلال تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أي بعد أيام فقط من فوز ترامب برئاسة البلاد، رفع أتباعه أيديهم لتأدية تحية النازية، غرد أحد السعوديين على تويتر قائلا: “أمريكا، نحن في حاجة للحديث عن مشكلة التطرف الخاصة بك”.
في الأثناء، تفجرت المحادثة بشأن السبب الكامن وراء شعور الكثير من الشباب البيض بالغضب والحرمان لتصبح بمثابة قضية رأي عام. من جانبه، وعلى موقع شبكة سي إن إن، كتب جيم سيوتو أن الجهاديين والقوميين البيض على حد سواء يحدوهم “البحث عن الهوية، والتعصب المرضي لقضية ما، ورد الفعل الغاضب للإيذاء المحتمل”. وفي الأثناء، اختارت إدارة ترامب تركيز جهودها لمكافحة التطرف العنيف فقط المنبثق من قبل الجهاديين، في حين أوقفت تمويل منظمات من قبيل “الحياة بعد الكراهية”، وهي مجموعة تعمل على الحد من وتيرة تطرف النازيين الجدد.
عموما، لا يغذي التركيز المنفرد على أعمال الإرهاب من قبل الجهاديين الإسلاموفوبيا فحسب، بل يسمح أيضا للأشخاص بتجاهل الإرهاب المحلي من قبل المؤمنين بسيادة البيض. ولكن، يظل العنف عنفا بغض النظر عن مكان نشأته. من جانبه، قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، في تغريدة له على تويتر إن “العنصرية وكراهية الأجانب ومعاداة السامية والإسلاموفوبيا تبثّ السموم في مجتمعاتنا. ونتيجة لذلك، يجب علينا أن نقف في مواجهة هذه المعتقدات في كل مناسبة وفي كل مكان”. وتجدر الإشارة إلى أن الأوان قد آن لندرك أنه لا يوجد مجتمع من دون جانب مظلم، وأن التهديد الأكثر خطورة الذي تواجهه الولايات المتحدة اليوم قد ينبع من داخلها وليس من الخارج.
المصدر: فورين بوليسي