تشهد مناطق جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا وأوقيانوسيا وشرق آسيا منافسة دبلوماسية وصراع نفوذ بين الصين من جهة، ودول كبرى منافسة مثل الولايات المتحدة والهند وأستراليا من جهة أخرى.
وفي الوقت الذي تتمدد فيه الولايات المتحدة عسكريًّا، بإقامة اتفاقيات دفاع ونشر قواعد في دول آسيوية، تنشط الصين اقتصاديًّا وسياسيًّا من خلال مغازلة أحزاب سياسية وحكومات للتقرب من الصين على حساب الهند أو الولايات المتحدة أو حتى تايوان، وكان آخر هذه النجاحات للصين تحوُّل جزيرة ناورو الواقعة قرب سواحل أستراليا من تايوان، وإعلانها إنشاء علاقات دبلوماسية مع الصين الأسبوع الماضي.
دولة أخرى تشهد تقاربًا في العلاقات مع الصين خلال الشهور القليلة الماضية هي جمهورية المالديف، وهي أرخبيل يتألف من 1192 جزيرة مرجانية في المحيط الهندي، وتقع جنوب غرب سريلانكا وتبعد عن بعض الجزر التابعة للهند بحوالي 100 ميل بحري فقط.
وتعتمد على السياحة في جزء كبير من اقتصادها، حيث يأتي عدد مقدَّر من السياح من الهند المجاورة، كما احتفظت الهند بقوات عسكرية صغيرة وطيران للبحرية الهندية في الأرخبيل المجاور لها، وهو أمر استمر بسبب علاقات تاريخية ودّية بين المالديف وجارتها الكبرى.
لكن فوز الرئيس الجديد محمد مويزو بالانتخابات الرئاسية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ووعوده الانتخابية بطرد القوات الهندية من البلاد والتقارب مع الصين، أعاد إلى الواجهة المنافسة المستمرة على النفوذ بين الصين والهند في المنطقة.
إذ شهدت العلاقات بين المالديف والهند تدنّيًا بعد انتخاب محمد مويزو، فقد اشتهر الرئيس الجديد بمواقفه التي تميل إلى التقارب مع الصين أثناء حملته الانتخابية، كما وعد بطرد القوة الهندية الصغيرة الموجودة على أراضي بلاده في حال فوزه بالرئاسة، وهو وعد نفّذه عندما طالب الهند هذا الشهر بسحب قواتها.
تلت ذلك زيارة قام بها الأسبوع الماضي إلى الصين، وقّع خلالها البلدان على “خطة العمل لبناء شراكة تعاونية استراتيجية شاملة بين الصين والمالديف (2024-2028)”، كما وقّع البلدان على اتفاقيات أخرى متعلقة بمبادرة “الحزام والطريق” الصينية، تضمّ مشاريع اقتصادية وتنموية ومشاريع للبنية التحتية.
التطور الجديد في العلاقات بين المالديف والصين، وتدهور العلاقة مع الهند، يعيدان إلى الواجهة تقاطعات السياسة الخارجية للدول الصغيرة، من حيث تنافس الأحزاب السياسية في التقارب من دولة على حساب دولة أخرى.
وقال رئيس المالديف محمد مويزو، البالغ من العمر 45 عامًا، في حفل تتويجه في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي إنه “سيتم رسم خطوط الاستقلال والسيادة بوضوح، وستتم إزالة الوجود العسكري الأجنبي”، وأضاف: “سأحافظ على صداقاتي مع الدول الأجنبية، ولن يكون هناك أي عداء مع الدول القريبة والبعيدة”، في إشارة إلى الهند.
لكن المخاوف الهندية تزايدت بعد مطالبة المالديف لنيودلهي بسحب قوتها العسكرية الصغيرة، ولم تلتقط الهند أنفاسها بعد، لتعلن المالديف عن قرب وصول سفينة أبحاث صينية إلى موانئ المالديف.
عُرف عن الرئيس الجديد محمد مويزو ميوله واتجاهاته القريبة من ميول الرئيس الأسبق عبد الله يمين (2013-2018)، والذي عُرف أيضًا بتقاربه مع الصين على حساب الهند، حيث بدا من لهجة مويزو منذ حملته الانتخابية أن الاتجاه السائد لحزبه يميل إلى الصين، الحليف القديم للحزب ورئيس السابق عبد الله يمين.
يُذكر أن الرئيس مويزو سبق أن شغل منصب محافظ البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB)، وهو صندوق آسيوي للاستثمار في البنية التحتية تعتبر الصين المساهم الأكبر فيه، كما شغل قبل فوزه بالانتخابات الرئاسية منصب عمدة العاصمة ماليه لعامَين.
المخاوف الأمنية للهند من التقارب الصيني مع جيرانها
المخاوف الهندية تجاه التقارب الصيني مع دول مجاورة، عبّرت عنها في الفترة الأخيرة مع سريلانكا، وذلك بعد أن زارت عدة سفن أبحاث صينية موانئ سريلانكا، ولطمأنة المخاوف الهندية أعلنت سريلانكا عن تجميد استقبال سفن أبحاث أجنبية على موانئها لمدة عام.
جدير بالذكر أن التعاون الاقتصادي والعسكري بين بكين وكولومبو تعزّزَ بصورة ملحوظة خلال العقد الماضي، حيث تحصّل الجيش السريلانكي على معدّات عسكرية صينية، بينما استثمرت بكين في سريلانكا ووفّرت لها قروض بضمان أصول سيادية، ما أثار مخاوف الهند التي تعلم ضعف موقف الاقتصاد السريلانكي، وما قد يشكّله الأمر من مخاوف على نيودلهي.
التمدد الصيني المتزايد في مناطق كانت معروفة تقليديًّا بتقاربها مع الهند، مثل سريلانكا والمالديف ونيبال، يشير إلى استراتيجية صينية جديدة يتم تنفيذها ضمن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وهي مبادرة أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013.
تشمل المبادرة خطط تعاون في مجالات البنية التحتية والتجارة مع مجموعة كبيرة من الدول، في آسيا الوسطى وجنوب آسيا وحتى منطقة الشرق الأوسط وجنوب أوروبا، وشهدت المبادرة استثمارات صينية ضخمة في دول في المنطقة، مثل ماليزيا وسريلانكا وباكستان وغيرها.
يمكننا إذًا النظر إلى التطورات الجارية في المالديف كحلقة جديدة في مسلسل التوسع الاقتصادي والسياسي والعسكري للتنين الصيني في منطقة المحيط الهندي، وإذا ما نظرنا إلى اتفاقيات سابقة مع دول صغيرة مثل جزر سليمان، التي وقّعت اتفاقية أمنية مع بكين في مارس/ آذار 2022.
كما وقّعت جيبوتي قبلها بسنوات على اتفاق سمحت بموجبه لبكين بإقامة قاعدة عسكرية في أراضيها تم افتتاحها عام 2016، والتعاون العسكري مع سريلانكا، ما يجعلنا نصل إلى نتيجة مفادها ان المالديف ستشهد في عهد الرئيس الجديد محمد مويزو توسعًا في التعاون بمختلف المجالات مع بكين.
أحدث الأخبار الواردة من المالديف هذا الأسبوع، نقلت عن الحكومة في ماليه قولها إنها تتوقع وصول سفينة أبحاث صينية إلى موانئ المالديف، لكن تقارير هندية أشارت إلى أن السفينة “شيانغ يانغ هونغ 3” هي سفينة تجسس، وليست سفينة للأبحاث الجيولوجية والبحرية كما تزعم بكين.
وإذا ما علمنا أنه تم رصد سفن صينية من قبل في موانئ سريلانكا وباكستان وجيبوتي، فسنجد أن العلاقات المتدهورة بين الهند وجزر المالديف مرتبطة بشكل مباشر بالصراع الهندي الصيني في منطقة المحيط الهندي، وتقول مصادر هندية إن جزر المالديف تتناسب تمامًا مع استراتيجية “سلسلة اللؤلؤ” التي تنتهجها الصين لمحاصرة الهند، لغرض السيطرة على المحيط الهندي.
التقارب مع الصين: امتداد لسياسة الرئيس الأسبق عبد الله يمين؟
فاز الرئيس المالديفي الجديد محمد مويزو بنسبة 54.06% في الانتخابات الأخيرة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، على سلفه إبراهيم محمد صلح من حزب المالديف الديمقراطي (MDP)، والذي اُنتخب بدوره عام 2018 بنسبة 58.3%، بعد فوزه على الرئيس عبد الله يمين الذي عُرف بمواقفه المتقاربة مع الصين، وهو أمر يعيده الرئيس الجديد مويزو.
يُذكر أن الرئيس السابق إبراهيم محمد صلح كان قد رُشِّح للمنافسة على الرئاسة من قِبل ائتلاف أحزاب المعارضة، التي سعت للإطاحة بعبد الله يمين في انتخابات عام 2018.
خلال حملته الانتخابية، انتقد مويزو سياسة سلفه صلح التجارية، حيث وصفها بأنها متحيزة لصالح الهند، وكان البند الرئيسي في حملته الانتخابية هو علاقات اقتصادية أكبر مع الصين، وقال مراقبون ومحللون عند ظهور نتيجة الانتخابات في نوفمبر/ تشرين الثاني، إن فوز محمد مويزو سوف يُنظر إليه على أنه انتكاسة للنفوذ الهندي في منطقة جنوب آسيا.
حيث قال مايكل كوغلمان، مدير جنوب آسيا في مركز ويلسون الأمريكي ومقرّه واشنطن العاصمة، لقناة “الجزيرة”: “من منظور المحصلة الصفرية التي غالبًا ما تدفع المنافسة بين القوى العظمى، فإن بكين هي الرابح الأكبر من هذه الانتخابات”.
الهند بدورها تنظر بحذر إلى التغيير السياسي في المالديف، وتأثيراته المتوقعة على العلاقات الثنائية بين البلدَين من جهة، وعلى الهند من ناحية تقلُّص نفوذها الإقليمي على حساب الصين من جهة ثانية.
وكتب رئيس الوزراء الهندي، ناريندا مودي، تعليقًا على وسائل التواصل الاجتماعي بعد الانتخابات في المالديف، قال فيه إن بلاده “لا تزال ملتزمة بتعزيز العلاقات الثنائية بين الهند وجزر المالديف التي خضعت لاختبار الزمن”، لكن الوعود الانتخابية للرئيس الجديد من جهة، ومطالبة الهند بسحب قواتها والإعلان عن استضافة سفينة صينية من جهة أخرى، تشيران إلى اتجاهات قد لا تكون مبشّرة للعلاقات الثنائية مع نيودلهي.
جزر المالديف: الحريات السياسية والشفافية
رغم التطور التدريجي للحريات السياسية والممارسة الديمقراطية في المالديف، تشير تقارير المراقبين إلى أن ملفات مثل الحريات والنظام القضائي والفساد، تحتاج إلى جهود مستمرة لتحسين الوضع في البلد الذي لا يتمتع بموارد كبيرة.
وإذا ما نظرنا إلى أن المالديف تعتمد بشكل أساسي على السياحة والصيد البحري والزراعة، فسنجد أن الحوكمة وإدارة الموارد المحدودة للبلد أمران يشكّلان أولوية قصوى، فالبلد الذي يزيد عدد سكانه عن نصف المليون بقليل، لا يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي فيه 6 مليارات دولار أمريكي.
تقرير مؤسسة Freedom Rights البريطانية المتخصصة في نشر إحصائيات عن الحريات السياسية في الدول، يقول عن المالديف إن “فوز المعارضة في الانتخابات الرئاسية لعام 2018 أدّى إلى بذل جهود أولية لمراجعة القوانين غير الديمقراطية وإنشاء آليات العدالة الانتقالية، ورغم التحسينات التي طرأت منذ الانتخابات لا تزال العديد من الحريات الأساسية مقيّدة، ولا تزال الجهود التي تقودها الحكومة لإصلاح نظام العدالة، الذي يفتقر إلى الاستقلال، في بداياتها”.
ويشير تقرير Freedom House عن المشهد في البلاد عام 2021، إلى أن “الفساد المنتشر على مستوى عالٍ بين المسؤولين الحكوميين من إدارة الرئيس السابق عبد الله يمين استمر كقضية بارزة خلال العام، وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 فاز عبد الله يمين نفسه -الذي أُدين عام 2019 بتهم غسل الأموال، وغرامة قدرها 5 ملايين دولار، وحُكم عليه بالسجن لمدة 5 سنوات- باستئناف مثير للجدل في قضيته أمام المحكمة العليا، وتم إطلاق سراحه. كما وجّهت السلطات اتهامات في ذلك الشهر إلى أحمد محلوف، وزير الشباب والرياضة وتمكين المجتمع، بتهمة قبول رشاوى كجزء من أنشطة يمين الفاسدة”.
مبادرة “الحزام والطريق” الصينية حافز لتعزيز التعاون
التقارب الصيني مع حكومات آسيوية مثل الحكومة الجديدة في المالديف ليس الأول ولن يكون الأخير، حيث سبق التقارب الصيني مع الحكومة الجديدة في المالديف تقارب مماثل -كما ذكرنا- مع سريلانكا ونيبال وماليزيا في فترة رئيسها الأسبق نجيب رزاق، بالإضافة إلى حلفاء تقليديين مثل باكستان وكمبوديا وميانمار.
وتهدف هذه السياسة الصينية، التي تعتمد بصورة أساسية على دبلوماسية التنمية وإيجاد حلفاء من الأحزاب السياسية في هذه الدول، إلى تحقيق المصالح الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية للصين في منطقة ذات أهمية استراتيجية لبكين من عدة نواحٍ، لكن الكثير من الدول المستهدفة بالمبادرة يمكنها أيضًا الاستفادة منها، إذا ما تم استغلال الاستثمار الصيني بالصورة المثلى.
من المعروف أن منطقة جنوب شرق آسيا وجنوب آسيا تشكّل الشريك الاقتصادي الأهم لبكين، مقارنة بمناطق أخرى مثل أفريقيا او أمريكا اللاتينية أو الشرق الأوسط، حيث يشكّل القرب الجغرافي والكثافة السكانية والروابط القوية مع دول وشعوب المنطقة، أسبابًا تجعل التنين الصيني يبذل قصارى جهده الدبلوماسي والاقتصادي لصناعة حلفاء فيها.
وبطبيعة الأمر، تشكّل المنافسة مع قوى كبرى مثل الهند والولايات المتحدة حافزًا آخر لبكين لجذب دول المنطقة إلى صفها، وقد جاءت مبادرة “الحزام والطريق” الصينية كفرصة ذهبية لبكين وبعض حكومات المنطقة لتعزيز التعاون الثنائي مع بكين.
خلاصة القول إن المنافسة الصينية الهندية التي شهدت خلال الـ 80 عامًا الماضية صعودًا وهبوطًا، من الحرب الصينية الهندية في ستينيات القرن الماضي، إلى المنافسة على النفوذ في دول آسيوية وأفريقية كما يحدث مع جمهورية المالديف حاليًّا، تعتبَر جزءًا من الصراع على النفوذ في البحار والمحيطات بين الدول الكبرى، كما يمكن قراءته كجزء من صراع الموانئ التي يمكن استخدامها في المجالَين التجاري والعسكري في الوقت نفسه.
ويمكن للمالديف، مثلها مثل غيرها من الدول الصغيرة ذات الموقع الاستراتيجي، استغلال المنافسة عليها، بتحويل هذه المنافسة إلى استثمارات يستفيد منها البلد ومواطنوه.