هزت الأخبار القادمة من مدينة بوتسدام الألمانية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 الرأي العام الألماني، وتسبّبت في غضب غير مسبوق على المستوى الرسمي والشعبي على حدّ سواء، وأدّت إلى خروج مظاهرات عارمة متتالية في كافة أنحاء البلاد.
فقد تناقلت الأخبار تحقيقًا للمنظمة الاستقصائية الصحفية “كوريكتيف”، عن اجتماع سرّي لأعضاء من حزب البديل اليميني الألماني (AFD)، مع شخصيات يمينية متطرفة وأخرى نمساوية، كمارتن سلينر مؤسس حركة الهوية اليمينية المتطرفة في النمسا.
كانت الوجبة الدسمة في الاجتماع مناقشة خطة لطرد ما يقارب مليوني شخص من المهاجرين، سواء كان مهاجرًا غير حامل للجنسية الألمانية، أو ألمانيًّا من أصول مهاجرة ممّن يعدّون غير مندمجين (كما يفهم المجتمعون الاندماج)، أو حتى من يدافع عنهم، إلى بلد في شمال أفريقيا اقترحه مارتن سيلنر.
وعلى إثر ذلك، في الاجتماع البرلماني الذي تلا الحدث، غادر أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي والاتحاد الديمقراطي المسيحي والخضر واليسار القاعة العامة بمجلس النواب، أثناء الخطاب الذي ألقته كريستين برينكر، زعيمة حزب البديل من أجل ألمانيا، ولم يبقَ في القاعة إلا أعضاء حزبها يتابعون الخطاب، ثم تعالت الدعوات المطالبة بحظر الحزب من البلاد.
ما وراء الحدث
رغم أن الشعارات والخطابات والتصريحات المعلنة التي أعقبت الحدث كانت تتكلم عن التنوع والتناغم والديمقراطية والمساواة، وانفتاح الصدر الألماني لكافة مكونات المجتمع دون تمييز، إلا أن المواقع الرسمية للدولة الألمانية لا تخفي سياستها تجاه المهاجرين وحاجتها إليهم، فعلى الصفحات الرسمية المختصة هناك خطط مفصّلة لاستقدام المهاجرين ودراسات و إحصائيات عن دورهم في ألمانيا.
تحتل ألمانيا المرتبة الثانية عالميًّا بعد الولايات المتحدة الأمريكية في قائمة الدول التي تضم مهاجرين أجانب، بما نسبته 24.3% من الشعب، فمن بين كل 4 أشخاص يوجد شخص من أصول مهاجرة، وهي نسبة تتضمن كل المهاجرين فيها سواء كانوا مهاجرين جددًا أو من وُلد من أبوَين مهاجرَين، أي 20 مليون إنسان حسب إحصائية قدمها المركز الاتحادي للإحصاء.
تجربة الهجرة إلى ألمانيا بين مدّ وجزر
أنتجت الطفرة الاقتصادية المرتبطة بإعادة الإعمار بعد الحرب العالمية طلبًا متزايدًا على العمالة، ومنذ منتصف الخمسينيات أبرمت جمهورية ألمانيا الاتحادية اتفاقات توظيف مختلفة مع بلدان عديدة، كان معظمها من جنوب أوروبا من أجل توظيف عمّال أجانب في الشركات الألمانية.
تم توقيع المعاهدة الأولى مع إيطاليا عام 1955، ومع اليونان عام 1960، ومع تركيا عام 1961، ثم تم تسجيل أكبر عدد من المواطنين اليونانيين في ألمانيا عام 1973، وفي ذلك العام أدت أزمة العمالة المتزايدة في ألمانيا الغربية إلى حظر التوظيف، وإغلاق سوق العمل أمام العالم الخارجي، وبسبب البطالة الجماعية المتزايدة في الثمانينيات، أراد السياسيون خفض نسبة الأجانب في البلاد، بعد ذلك في عام 1983 صدر قانون تعزيز الرغبة في إعادة العمال الأجانب.
أدّت نهاية الحرب الباردة إلى استئناف الهجرة التقليدية، حيث بين عامَي 1988 و1993 جاء حوالي 7.3 ملايين شخص إلى ألمانيا، وغادرها 3.6 ملايين شخص في الفترة نفسها، ما يعني هجرة صافية قدرها 3.7 ملايين شخص.
وهكذا بقيت الأمور بين أخذ وردّ وشدّ وجذب ما بين موجات هجرة وهجرة معاكسة، حتى استقر الأمر في نهاية القرن العشرين مع صدور قانون الجنسية، الذي سهّل تجنيس أحفاد المهاجرين في ألمانيا.
“علينا إزالة العقبات البيروقراطية حتى يتمكّن العمّال المهرة من القدوم إلى ألمانيا بسرعة”.. كُتبت هذه العبارة على الصفحة الرسمية للوزارة الاتحادية، مع شرح مطوّل لكيفية التقديم والمهن المطلوبة والشروط المحددة، وفي المواقع المختصة للهجرة والاقتصاد تذكر الدراسات الحاجة المتزايدة للمهاجرين إلى ألمانيا، من ذلك:
التغيُّر الديموغرافي
أحد العوامل الرئيسية التي سيكون لها تأثير حاسم على النقص السائد في العمّال المهرة، خاصة في المستقبل، هو مجتمع الشيخوخة في ألمانيا كجزء من التغيير الديموغرافي، حيث تؤدي الشيخوخة إلى تفاقم الاختناقات في قطاع العمال المهرة.
ووفقًا للتوقعات الحالية، فإن عدد السكان في سنّ العمل، أي الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 20 عامًا وأقل من 65 عامًا، سينخفضون بالفعل بمقدار 3.9 ملايين نسمة إلى 45.9 مليون نسمة في عام 2030، وفي عام 2060 سيكون عدد الأشخاص في سن العمل أقل بمقدار 10.2 ملايين شخص.
النقص في اليد العاملة
تتأثر العديد من الشركات بشدة بنقص العمال المهرة، وأكثر من 50% من الشركات ترى أن هذا هو أكبر تهديد لتطوير أعمالها، حيث ازدياد النقص في العمال المهرة عقبة أمام التنمية بشكل ملحوظ، وتمّ تصنيفه كخطر تجاري من قبل العديد من الشركات، ويلعب المهاجرون دورًا حاسمًا في سدّ النقص في العمالة في مختلف القطاعات.
الأثر الاقتصادي
تحدثت التصريحات الرسمية بشكل واضح عن “أن مستقبل ألمانيا يعتمد إلى حدّ حاسم على مدى إمكانية تأمين وتوسيع قاعدة العمال المهرة، لهذا السبب قدمت الحكومة الفيدرالية استراتيجية للأمن المستدام للعمال المهرة”.
معظم الموظفين الأجانب في ألمانيا يحملون الجنسية التركية، يليهم موظفون من بولندا، وزاد عدد الموظفين من رومانيا وبلغاريا بشكل خاص في السنوات الأخيرة.
و إذا أردنا أن نتكلم بالأرقام والنسب حسب الإحصائيات المنشورة حول نسبة العمال المهاجرين في القطاعات المختلفة، فسنعثر على نسبة عالية من المهاجرين لعام 2023، فعمال النظافة بنسبة 41%، وفي إنتاج الغذاء بنسبة 38%، وفي الهندسة المدنية بنسبة 33%، وفي السياحة والفنادق والمطاعم بنسبة 32%، وحركة المرور والخدمات اللوجستية (باستثناء السائق في الداخل) بنسبة 25.4%، وزراعة وتربية الماشية بنسبة 24.5%، وغير ذلك ممّا يتضمن خدمات لوجستية.
تتضمن أرقام الوكالة الفيدرالية فقط الوظائف المبلغ عنها الخاضعة لاشتراكات التأمين الاجتماعي، حيث هناك أعداد أخرى لم تشملها الإحصائيات، مثل العاملين لحسابهم الخاص وغير ذلك.
إذًا ضربَ هذا الحدث على وتر حسّاس في عمق الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد للمرة الأولى من عقود خلت، فبعد أن كان العملاق الاقتصادي يتربّع على عرش الصدارة الأوروبية مسجّلًا صعودًا مستمرًّا، فاجأ المتابعين بركود طوال عام 2023، مع ارتفاع معدلات التضخم.
السبب الرئيسي لهذا التطور الأضعف ممّا كان متوقعًا بشكل عام، هو الخسائر الهائلة في القوة الشرائية في سياق أزمة أسعار الطاقة، والتي أضعفت الاستهلاك الخاص، بالإضافة إلى الآثار المثبطة للتوترات والأزمات الجيوسياسية، كما جاء في تقرير موقع الوزارة الاتحادية للشؤون الاقتصادية وحماية المناخ.
حدث يرنّ في الذاكرة الجمعية
علاوة على ما ذُكر، أعادت هذه الحادثة السرّية إلى الأذهان الاجتماع السرّي الذي عُقد في 20 يناير/ كانون الثاني 1942 في فيلا بوانسي، إحدى ضواحي برلين، ترأّس الاجتماع حينها راينهارد هايدريش، رئيس مكتب الأمن الرئيسي للرايخ، وكان مؤتمر وانسي بمثابة لحظة محورية تقرّرَ فيها قتل السكان اليهود في أوروبا بشكل ممنهج، وتضمّنت المناقشات تفاصيل عمليات الترحيل وإطلاق النار الجماعي واستخدام معسكرات الإبادة.
حادثة أشعرت المجتمع الألماني بتهديد حقيقي للقيم الأساسية التي تشكّلت منها ألمانيا الحديثة، بعد التجربة النازية المريرة التي اتخذت من فكرة العرق الواحد والمكون الواحد ذريعة لجرائم وحشية ما زالت ترنّ في الذاكرة الجمعية، كوصمة عار تفتخر الدولة الألمانية بالتبرُّؤ منها، ويأتي كل ذلك في ظل صعود شعبوي لليمين المتطرف الذي احتلَّ المرتبة الثانية حسب استطلاعات الرأي.