تترافق ذكرى ثورة يناير، كل عام، مع استنفار أمني شديد، وذلك منذ وصول عبد الفتاح السيسي إلى سدّة الحكم في مصر، حيث يعيش -ومؤيدوه- في حالة قلق من استمرارية الثورة، الأمر الذي يدفعه إلى ترويج الخوف، واستغلال المناسبة ليمُنَّ على المصريين بأنه جاء مخلصًا لهم من الفوضى وحكم الإخوان المسلمين، وهو يسعى بذلك لتصدير نفسه على أنه منقذ أبناء شعبه من الإرهاب، ومحرّر مصر من هاوية الدمار.
في هذا السياق، يتجلّى تفاعل النظام مع ذكرى الثورة كمظهر من مظاهر الرعب، فف الذكرى التاسعة ليثورة يناير، مثلًا، شدد النظام تعزيزاته الأمنية في الميادين الكبرى بالمحافظات، خاصة في محافظة القاهرة، فضلًا عن شروعه بأعمال إصلاح قبل أيام من ذكرى الثورة، ما منع الناس من الوصول إلى الميادين.
لكن الجهد الأكبر الذي يبذله النظام يتجلّى في محاولات إخفاء معالم ثورة يناير، وإزالة آثارها من أذهان الأجيال الجديدة، بدءًا من إزالة رسوم الغرافيتي التي مثّلت مذكّرات ثورة يناير، إلى إلقاء القبض على كثيرين من فناني الغرافيتي، وصولًا إلى اعتداءات أعَمّ على حرية الرأي والتعبير، وأخيرًا تغيير ملامح البلد خاصة تلك المتعلقة بالثورة.
ورغم أن تلك الإجراءات قد تبدو عادية وطبيعية في إطار طريقة حكم هذا النظام، إلّا أنها تترك خيبة وحسرة في قلوب جيل الثورة الذي حلم بالتغيير والحرية.
ويبقى السؤال كيف يمكن لثوار وناشطين من جيل الثورة الحفاظ على أرشيفهم التاريخي؟ كيف يمكن لهذه الذاكرة الناجية أن تتحدّى جهود نظام السيسي في تحويل تاريخ ثورة يناير إلى مجرد صفحة مفقودة في كتاب التاريخ؟
مساعي محو الأرشيف
يمكننا الإقرار بأن فهم التاريخ بدقة يشكّل عنصرًا حيويًّا لفهم المستقبل السياسي والاجتماعي للبلاد، ويمكن للمجتمع من خلال فهم دقيق للتاريخ أن يحدّد من كان عدوًّا ومن كان صديقًا على مدى العصور، وهذا ما يسعى النظام المصري لتشتيت الانتباه عنه.
ففي مصر، بعد الانقلاب الذي أطاح بحلم ثورة يناير، تظهر فجوة كبيرة في الرواية التاريخية بين تصوير النظام وذكريات الثورة، وتمثّل محاولات النظام في محو أرشيف الثورة تحديًا لفهم التاريخ والحفاظ عليه بشكل كامل.
لم يكن السيسي أول من قام بمحاولات تزييف التاريخ في مصر، بل ظهرت بوادر هذا السلوك من قبل، على سبيل المثال كان للرئيس الأسبق أنور السادات توجّهًا نحو إعادة كتابة تاريخ مصر، ليتناسب مع السياق السياسي وقتها.
يضع النظام الحالي ثورة 25 يناير وانقلاب 30 يونيو في الإطار الدستوري نفسه، فقد تم ذكرهما بشكل متتالٍ في ديباجة الدستور المعدّل عام 2019، حيث يُطلق عليهما الاسم نفسه: “ثورة”، مع التأكيد على أن الانقلاب جاء لتصحيح ما اعتبره عدوانًا وخرابًا ناتجًا عن ثورة 25 يناير، وهذه السياسة لا تعتبَر خطوة بسيطة، بل تشكّل ركيزة أساسية يعتمد عليها النظام لطمس تفاصيل تاريخ مصر.
أما في المناهج الدراسية، فتظهر محاولات النظام في محو تاريخ الثورة كجزء من استراتيجية متعمّدة لتشويه تفاصيل الحدث، فعلى سبيل المثال، نرى في مادة اللغة العربية للصف الأول الابتدائي، شهدنا حذف نص بعنوان “ثورة العصافير” الذي كان يتحدث بشكل مبسّط عن ثورة 25 يناير، وتتجاوز هذه الجهود المراحل الأولية، إذ حُذف فصل من مادة الفلسفة في المرحلة الثانوية، يتحدث عن فلسفة الثورات ويتّخذ ثورة 25 يناير نموذجًا تطبيقيًّا.
أتت هذه المحاولات بذريعة تخفيف الحمل الدراسي عن الطلاب، لكن هدفها الأساسي هو تسليط الضوء على ما سُمّي بـ”ثورة 30 يونيو”، ما يعكس استخدام رواية النظام لإخفاء تأثير ثورة يناير، وإزالته بشكل تدريجي عند الأجيال القادمة.
تظهر محاولات النظام في محو أرشيف ثورة يناير بشكل مادي، من خلال حذف المواد الإعلامية المتعلقة بها على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة على منصة يوتيوب، حيث شمل ذلك حذف حلقات كاملة من برامج تلفزيونية، وتزامن ذلك مع ظهور خطاب إعلامي يتناول ثورة يناير بطريقة سلبية، مصرًّا على تصوير تلك المرحلة من تاريخ مصر على أنها كارثية.
جاء تشديد الرقابة على القنوات المعارضة المصرية التي تبث من تركيا، كخطوة على طريق التطبيع واستئناف العلاقات، وأعلنت بعض القنوات وقف عرض برامجها السياسية، وفي إطار هذه المصالحة قام وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، بزيارة لنظيره المصري سامح شكري في مارس/ آذار 2023.
خلال تلك الزيارة، ناقش الوزيران استعادة العلاقات، وتبادلا وجهات النظر حول القضايا الإقليمية والدولية، وقاما بجولة في وزارة الخارجية المصرية، توقفا خلالها أمام جدار يحمل صورًا لرؤساء مصر حتى الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، ولاحظنا في الفيديو الذي نُشر لهذه الزيارة خلو الجدار من صورة الرئيس الراحل محمد مرسي، يأتي هذا الفعل في إطار استمرار سياسة اقتطاع جزء من مرحلة يناير من تاريخ مصر.
طالت هذه الخطة معالم البلاد، خاصة تلك المرتبطة رمزيًّا بثورة 25 يناير، حيث عمل النظام على تغيير واجهة ميدان التحرير، ونقل أهم المؤسسات والدوائر الرسمية فيه إلى العاصمة الإدارية الجديدة، المشروع الذي كلّف الدولة مليارات الدولارات، في حين يعاني الشعب المصري من الفقر والجوع، وبعد أن كان الميدان مكانًا للتجمع والاعتصام أيام الثورة، تجردت منه صفة الفضاء العام وأصبح الوصول إليه أشبه بالحلم في ظل التشديد الأمني.
قبل ذكرى يناير: هكذا غيرت الدولة المصرية شكل ميدان التحرير وطمست هويته
يحتفل نظام السيسي بعيد الشرطة الموافق لـ 25 يناير/ كانون الثاني، وهو اليوم الذي يذكّر بتضحيات رجال الشرطة المصرية في معركة الإسماعيلية عام 1952، وتضجّ وسائل الإعلام بهذه الاحتفالات، إلّا أنها لا تذكر على الإطلاق ذكرى ثورة يناير.
يمكن ربط هذا الأمر بالإجراء الذي اتّخذه الرئيس التونسي قيس سعيّد بعد محاولة الانقلاب في يوليو/ تموز 2021، في إقرار عطلة رسمية في ذكرى الثورة التونسية، وذلك بهدف ضبط الاحتفالات وتضييق المجال أمام الناس للاحتفال على طريقتها، خوفًا من استعادة ذكرى الثورة.
السردية البديلة
يجد المجتمع المصري صعوبة كبيرة في مواجهة الخطة السياسية التي يتبعها نظام عبد الفتاح السيسي لمحو ذاكرة ثورة يناير، خاصة في ظل التشديد الأمني والتضييق على الحقوق والحريات، إذ يشير عدد المعتقلين السياسيين بعد الانقلاب، الذي يقدَّر بأكثر من 60 ألف معتقل، إلى ظروف سجن قاسية تواجه هؤلاء النشطاء والمعارضين، وأن النظام يسعى لجعلهم عبرة وإسكات أصوات من تبقّى من المصريين خارج السجون.
ورغم تلك الصعوبة، يجد المصريون في مصر والمهجر طرقًا بديلة لإحياء ذكرى الثورة، كاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمشاركة صورهم أثناء تواجدهم في الميدان، أو باستخدام صور من أرشيف الثورة، يروّجون لذكرياتهم في الثورة لتشجيع مواجهة محاولات النظام في إزالتها من الوعي العام.
في يناير/ كانون الثاني 2017، أطلق ناشطون مصريون موقعًا إلكترونيًا بعنوان “أرشيف 858“، بهدف توثيق جميع أحداث ثورة يناير منذ بدايتها حتى نهاية عام 2017، ويحتوي الموقع على أرشيف كامل للثورة، وقد حظيَ الموقع المذكور باحتفاء وتقدير واسعَين عند إطلاقه.
بالإضافة إلى النشطاء، يسهم الأكاديميون المصريون وغيرهم في مختلف المجالات في خلق رواية بديلة، من خلال الكتابة والتوثيق والتحليل حول ثورة يناير، بهدف ترك أثر للثورة يمكن للأجيال القادمة أن تعتبره مرجعًا.
تظهر العديد من الكتب والإنتاجات الأكاديمية لتوثيق ثورة يناير بشكل بصري، مثل كتاب “جدران الحرية” الذي صدر عام 2013، ويسلّط الضوء على تاريخ الثورة من خلال الجداريات ورسوم الغرافيتي في الشوارع، خاصة شارع محمد محمود.
يمكن للمصريين في الخارج استخدام أرشيفهم الخاص للثورة المصرية، وتسجيل رواياتهم بشكل أكثر أمانًا، خاصة كونهم غير معرّضين بشكل مباشر لخطر الاعتقال الذي يتعرّض له أقرانهم في الداخل.
ورغم التضييقات ومحاولات النظام لإسكات صوت الثورة، إلا أن ثوار يناير ما زالوا ملتزمين بثورتهم بشكل يصعب كسره، كما ظهر في مقطع مصوّر انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، شاهدنا فيه فرح متظاهرين متضامنين مع غزة يصلون إلى ميدان التحرير، وكأنها لحظة استعادة لذكريات الثورة.
رغم كل تلك المحاولات، إلا أنه من المؤكد أن جيل الثورة يحفظ العديد من الروايات التي جرى تغييبها وإسكاتها داخل أروقة السجون وتحت ضغط التضييق في مصر، ويحمل أملًا كبيرًا في أن يُظهروا يومًا ما تلك الروايات إلى النور، وأن يواجهوا فيها رواية النظام المضلّلة المقتصرة على وجهة نظر واحدة، يأملون في تسليط الضوء على التفاصيل المحجوبة وتحرير الحقائق المكبوتة، ليس فقط للمحافظة على ذاكرة الثورة؛ بل لتوفير فهم أعمق وأوسع للأحداث التي شهدتها مصر.
أخيرًا، من شأن صون ذاكرة الثورة وحماية أرشيفها أن يرسّخ الوعي بسردية أهل يناير لحقبتهم وتاريخهم ويفنّد سردية المنتصر/المنقلب، فخطوات النظام الحالي لمحو الذاكرة تنبع من طبيعته العسكرية والبوليسية وطريقة وصوله للحكم، ومن أجل ضمان حفظ الذاكرة بشكل مستقل وحيادي، يمكن أن يكون أحد السبل تأسيس هيئة مستقلة بطابع أكاديمي، تحافظ على تفاصيل الثورة ومسارها بعيدًا عن التزوير والتحريف.