لم تغب القضية الفلسطينية يومًا عن الشارع المصري في العموم، مهما حاولت الأنظمة كبحها أو تشويهها أو تسطحيها، إذ يعتبرها المصريون شرف الأمة وعنوان كرامتها، ومتغيرها المستقل الذي يحدد هوية كل المتغيرات الأخرى التابعة.
وكانت القضية ضمن التشكيلة الأساسية التي لعب بها المصريون مباراة ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، فكانت جنبًا إلى جنب مع المطالبة بإسقاط نظام مبارك الفاسد ورفع شعارات الحرية والكرامة والعزة والاستقلال.
وتتزامن الذكرى الثالثة عشر للثورة مع حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال ضد قطاع غزة، تلك الحرب التي أودت بحياة أكثر من 25 ألف فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، وتنذر بكارثة إنسانية تضع حياة مليوني شخص على المحك، وسط خذلان عربي وإقليمي ودولي فاضح.
ودفع هذا الخذلان أحرار العالم، ومن بينهم شركاء ثورة يناير، إلى حمل لواء الزود عن القضية، ودعم أبطال غزة، في حدود قدراتهم وإمكانياتهم، لتصبح فلسطين، الاسم والقيمة، حاضرة في قلوب وعقول كل من شارك في الحراك الثوري من مختلف ألوان الطيف السياسي والفكري.
وبينما يحتفل المصريون بذكرى ثورتهم تُخيم أحداث غزة على الأجواء، شعار ثوري وآخر فلسطيني، ساحبة البساط من تحت أقدام الأحداث والمناسبات والاهتمامات كافة، لتؤكد أن القضية الفلسطينية وثورة يناير وجهان لعملة واحدة، قضيتان من رحم واحد ومصيرهما واحد وعدوهما أيضًا واحد.
في قلب الثورة منذ 2011
منذ اليوم الأول لانطلاق تظاهرات 25 من يناير/كانون الثاني 2011 كانت الشعارات الداعمة للقضية الفلسطينية والقدس حاضرة بقوة في ميدان التحرير وبقية ميادين الثورة، إلى جانب الهتافات المطالبة بإسقاط النظام، في متلازمة ثورية فريدة من نوعها.
وما إن سقط حسني مبارك وأعلن نائبه عمر سليمان خبر تنحيه عن السلطة مساء 11 فبراير/شباط من نفس العام، كان الشعار الأبرز الذي زلزل الميدان وقتها: “الشعب يريد تحرير فلسطين.. على القدس رايحين بالملايين”.. فيما كان العلم الفلسطيني هو العلم غير المصري الوحيد الذي ملأ شوارع مصر وميادينها في ذلك الوقت، بجانب العلم التونسي نسبيًا بحكم أسبقية تونس في الحراك الثوري.
وفي أغسطس/آب من عام الثورة تسلق أحد الشباب المصري مبنى سفارة الكيان الإسرائيلي، القابع آنذاك في ميدان النهضة بالقرب من كوبري الجامعة بوسط الجيزة، ونزع العلم الإسرائيلي بعدما تسلق نحو 17 طابقًا من خارج المبنى، في مغامرة كادت أن تودي بحياته، على مرأى ومسمع من الجميع في مشهد أحدث حالة من الذهول، بينما كان المئات من الشباب المتابع له أسفل العقار يهتفون للقضية الفلسطينية ويطالبون بطرد السفير الإسرائيلي.
وفي سبتمبر/أيلول من نفس العام، اقتحمت أفواج كبيرة من المصريين مبنى السفارة الإسرائيلية، حيث وقعت مناوشات مع قوات الأمن المتمركزة هناك بحكم موقع مديرية أمن الجيزة في تلك المنطقة، وتدخل عدد من القيادات لإقناع المحتجين بإنهاء حصارهم للسفارة الذي استمر لعدة أيام.
وعلى مدار أيام الثورة الـ18 في ميدان التحرير وما تلاها خلال فترة المجلس العسكري أو عام حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، كانت القضية الفلسطينية في قلب وعقل الثوار، إيمانًا أنها والثورة إناء واحد وإن تعددت مشاربه، ففُتح المعبر على الجانبين دون قيود، وأجبر المصريون سلطات الاحتلال على وقف العدوان على غزة، وزأرت حناجر الشباب في المساجد والميادين مطالبة بدعم الفلسطينيين بشتى السبل.
جيل يناير والطوفان
جزء كبير من الجيل الذي شارك في يناير قبل 13 عامًا ما كان يعرف شيئًا عن القضية الفلسطينية، إذ إن آخر العهد كان باغتيال الطفل الشهيد محمد الدرة عام 2000، ومنذ ذلك اليوم غاب زخم القضية عن المشهد المصري بشكل أو بآخر، بقصد أو دون قصد.
لكن مع بزوغ فجر الثورة بدأت أذهان ومسامع هؤلاء الشباب حديثي السن تتلقف شعارات وهتافات ومواقف داعمة للقضية الفلسطينية، ومن هنا بدأ الوعي يستعيد هويته الفلسطينية مرة أخرى، لتمتلئ الميادين بصغار يحملون العلم الفلسطيني ويهتفون باسم فلسطين لأول مرة في حياتهم.
هذا الجيل الذي شارك في الثورة بات اليوم أكثر وعيًا بالقضية وما يحاك لها من الصهاينة من جانب وبعض الأنظمة الإقليمية من جانب آخر، حيث فجرت بداخله عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ينابيع الإدراك بقيمة ومعنى وأهمية القضية الفلسطينية، كونها قضية العرب الأولى وعنوان كبريائهم والمحدد الأبرز لثقلهم واحترام العالم لهم.
ومن هذا المنطلق حمل هذا الجيل الينايري الذي بلغ اليوم مراتب الشباب الناضج لواء الدفاع عن القضية ودعم المقاومة، حتى لو عبر منصات التواصل الاجتماعي، ليعيد تشكيل قوائم أولوياته مرة أخرى، واضعًا القضية الفلسطينية في مرتبتها التي تليق بها على صدارة القائمة، مؤمنًا أنها العنوان الذي إذا ما نجح في الوصول إليه ستكون كل الدروب بعدها ممهدة، والعكس صحيح.
ولعل التظاهرات القليلة التي شهدها الشارع المصري دعمًا لغزة والمقاومة مؤخرًا تجسد هذا الوعي، حيث تصدرها هذا الجيل (طلاب المدارس الثانوية والجامعات) الذي لم يسمع عن القضية إلا من خلال ثوار يناير ومطالعة هتافاتهم الثورية في الميادين قبل 13 عامًا عبر منصات التواصل الاجتماعي، ليُشبع عقله ووعيه في أيام قليلة بزخم القضية وقيمتها وأهميتها.
مصير واحد
يؤمن المصريون منذ عقود طويلة أن تحرير فلسطين من الاستعمار وتحرير مصر من الظلم والفساد والتبعية والانبطاح وجهان لعملة واحدة، وطريق له مخرج واحد، وعلاقة طردية في المقام الأول، أيهما تحقق يتحقق الآخر بالتبعية، وهو التفسير المنطقي لحالة المتلازمة تلك التي تربط المسألتين ببعضهما البعض.
ولعل الهتاف الثوري الشهير “علشان نحرّر القدس.. لازم نحرّر مصر” يرسخ تلك القاعدة المتأصلة في العقل الإدراكي الجمعي للشعب المصري، إذ يرى المصريون أن القضية الفلسطينية بالنسبة لهم ليست قضية حدودية أو أمنية كما يحاول النظام ترويجها، لكنها قضية وجودية في المقام الأول، وامتداد أمني وتاريخي وحضاري واجتماعي وديني وأيديولوجي للدولة المصرية.
وأثبتت الأعوام الماضية أن محاولات تسطيح القضية أو تشويهها أو طمسها ذهبت أدراج الرياح، وأن المليارات التي أنفقت لأجل هذا الغرض تبخرت في الهواء، إذ أفشل المصريون مخططات التطبيع الشعبي والثقافي رغم هرولة الأنظمة والسلطات لتعميق العلاقات مع الكيان الصهيوني لدوافع ومبررات سياسية، لكنها العلاقات الهشة التي سرعان ما تتهاوى أمام المزاج الشعبي المصري المؤمن بالقضية والداعم للأشقاء في فلسطين، والراسخ في أذهانه أن “إسرائيل” العدو الأول والأخير والخلية السرطانية التي تفسد كل ما بجوارها من خلايا وأعضاء، وأن الأمر لن يستقيم إلا بإزالتها من الجسد العربي.
وحين استقر في يقين المحتل وأعوانه في المنطقة تلك المتلازمة اللصيقة بين نجاح الثورة وتحرير فلسطين، كانت المخططات والمؤامرات لإفشال أي منهما حتى يفشل الآخر، وبالفعل تكالب على الثورة المصرية الكيان المحتل وحلفاؤه أعداء الحريات وخصوم إرادات الشعوب وأبناء السلطويات الديكتاتورية – ممن لا يقل رعبهم من نجاح الثورة عن رعب الاحتلال – لإجهاضها ومن ثم الاستفراد بالقضية الفلسطينية تمهيدًا لتصفيتها، وربما هذا ما يجيب عن هذا التساؤل الذي طرحه الناشط المصري أحمد دومة: ماذا لو انتصرت الثورة؟ أو ربّما: لماذا لم تنتصر الثورة؟