يزحف القلق المصحوف بالخوف والترقّب إلى دواخلنا بشكلٍ شبه يوميّ، فلا يكاد يخلو يومٌ لنا دون أن نمرّ بتلك الحالة بدرجات متفاوتة، لكن هل فكّرت سابقًا أنّ القلق يُعدّ أمرًا مهمًّا لحياتك وإنجازاتك ومهامّك؟
يرى علماء النفس أنّ هناك “بقعة جميلة للقلق”، وهي حالة نفسية “للقلق المعتدل” الذي يساعد بدوره على تحسين الأداء واليقظة وزيادة الإنجاز والفعالية. وبكلماتٍ أخرى، فإنّ قلقك وتوتّرك حيال أمرٍ ما قد يساعدك على أدائه بشكلٍ أفضل، كأن تبلي حسنًا في امتحانٍ لك في حال كنتَ قلقًا بخصوص علامتك ودرجتك فيه، أو تكون نتيجة مقابلتك لعملٍ ما أفضل في حال كنتَ متوترًا بسببها مقارنةً بعدم اهتمامك بها؟
في علم النفس، تُعرف هذه العلاقة بين مستويات الإثارة والأداء باسم “قانون يركيس-دودسون”، ويقترح أنّ هناك علاقة بين الأداء والإثارة، فارتفاع مستوى الإثارة لنقطة معيّنة يمكن أن يحسّن أداء الفرد في مهامّه وسلوكيّاته المتنوعة. وعندما تتجاوز الإثارة تلك النقطة وتصبح مفرطة، يقلّ الأداء. وتعرّف الإثارة بأنها زيادة في النشاط السيكولوجي والفسيولوجي للفرد، عدا عن أنها حالة من الانفعال واليقظة.
تختلف درجة مستويات الإثارة المثلى من شخص إلى آخر، وتعتمد درجة الإجهاد المُثلى الذي يؤدي للأداء الأمثل على أربعة عوامل مختلفة؛ مستوى المهارة، والشخصية، وطبائع الفرد، ودرجة تعقيد المهام أو سهولتها.
وقد توصّل عالما النفس في جامعة هارفارد روبرت يركيس وجون ديلينغهام دودسون للقانون لأول مرة عام 1908، بعد التجربة التي صمّماها على فئران مخبريّة لاختبار قدرتها على الإنجاز وسط الضغط والتوتّر.
وضع كلٌّ من العالمين الفئران في متاهة ذات مخرجٍ واحد فقط، ثم قاما بصعقها كهربائيًا في اللحظة التي تسلك فيها طريقًا خاطئًا لا يؤدي للمخرج الوحيد. ومع ازدياد مستوى الصعقات الكهربائية لاحظ العلماء أنّ فعالية الفئران في محاولة البحث عن المخرج الصحيح وتجنّب المخارج الخاطئة. لكن هل استمرّ الأمر كذلك؟
طبعًا لا. مع ارتفاع مستوى الصعقات التي تعرّضت له الفئران لحدٍ معيّن، بدأ العالمان بملاحظة نتيجةٍ عكسية، فباتت الفئران تحاول الهروب وسلوك اتجاهات عشوائية بشكلٍ متسارع. أيْ أنّ الضغط والتوتّر الذي تعرّضت له الفئران عمل على تحفيزها لأداء مهمتها ولكن لنقطة معيّنة قلّ الأداء بعدها.
لو نظرنا للجزء الأيسر من الرسم البياني، ستلاحظ أنّ انخفاض مستويات الضغط والتوتّر سيؤدي بشعور الفرد بالملل وغياب التحدّي حيال المهمة التي يقوم بها. وفي الوقت نفسه، فإنّ مستويات عالية من الضغط والتوتر لا تعني إنجازًا أكبر وفعاليةً أعلى، وإنّما لها نفس النتيجة التي يسبّبها انخفاض الضغط، لكن يصاحبه شعور بالتعاسة أو اللارضى بسبب الإجهاد الكبير بدون إنجاز.
أما لو نظرنا لمنتصف الرسم البياني، هناك منطقة تسمى “منطقة الأداء الأفضل” حيث الضغط المعتدل يؤدي للإجهاد الذي يمكن التحكم فيه كليًّا والذي بدوره يؤدّي إلى أعلى وأفضل مستوىً من الأداء.
القلقُ والتوتّر الذي تواجهه قبل الامتحان هو مثالٌ على كيفية عمل قانون يركيس-دودسون. فالمستوى الأمثل من التوتر يمكن أن يساعدك على التركيز في اختبارك وتذكّر المعلومات التي درستها من خلال بقائك يقظًا ومتأهبًا. أمّا الكثير من القلق حياله قد يُضعف قدرتك على التركيز ويجعل تذكّرك للمعلومات أكثر صعوبة.
الأداء الرياضيّ يمكن أن يؤدّي مثالًا آخرَ للقانون. فعندما يستعدّ لاعب كرة السلة مثلًأ لتسديد الكرة بمستوىً مثاليّ من الإثارة، فيمكن له أن يصيب الهدف. أمّا في حال كان اللاعب متوترًا وقلقًا لحدٍ كبير، فاحتمالية إصابته للهدف تقلّ بوضوحٍ كبير.
منطفة الأداء الأفضل هي نفسها “البقعة الجميلة للقلق” التي ذُكرت سابقًا، والتي تُسمّى أيضًا في علم النفس الإيجابيّ بمصطلح “التدفق Flow”، أي الحالة من الاستغراق التام في النشاط أو المهمة بحيث يشعر الفرد بالتوحّد معها، إلى جانب حالة من فقدان الوعي الاعتيادي بالذات والشعور بمرور الوقت سواء سريعًا أو بطيئًا أثناء القيام بالمهمّة.
تختلف درجة مستويات الإثارة المثلى من شخص إلى آخر، وتعتمد درجة الإجهاد المُثلى الذي يؤدي للأداء الأمثل على أربعة عوامل مختلفة؛ مستوى المهارة، والشخصية، وطبائع الفرد، ودرجة تعقيد المهام أو سهولتها.
درجة تعقيد المهمة وسهولتها فتلعب دورًا كبيرًا في تحديد النقطة المُثلى للإنجاز والتي يكون عندها الضغط إيجابيًا يدفع للفعالية. فقد يصعب علينا خلق النقطة المُثلى للإنجاز للعديد من المهمات الصعبة أو المستحيلة
فمستوى مهارتك يؤثر بشكل مباشر على أداء على أي مهمة تقوم بها. وهذا هو السبب الرئيسي وراء أهمية تدريب النفس على القيام بالمهام والأعمال. فبمجرّد أن تتدرّب جيّدًا سوف يستجيب عقلك لمواقف الإجهاد وارتفاع الضغط بشكلٍ أفضل بكثير مما لو كنت مبتدئًا.
فيما تؤثّر شخصيّتك أيضًا على كيفية أدائك في حالات الضغط العالي والإجهاد. ويعتقد بعض العلماء أنّ الأفراد المنفتحين “extraverts” يُظهرون في حالات الضغط العالي والإجهاد الكثيف أداءًا من الأفراد الانطوائيين “introverts”. فيما يُظهر الأشخاص الانطوائيين من ناحية أخرى أداءً أفضل في بيئات العمل ذات التحفيز الأقل والتنظيم الأكثر.
ومن المعروف أيضًا أنّ سمات القلق وطبائعه تؤثر على الأداء. فالأشخاص الواثقون من أنفسهم قادرون على التركيز في مهامّهم وأعمالهم في حالات الضغط العالي والتوتر. أما الأشخاص الأقل ثقة بأنفسهم والذي يشكّون بقدراتهم فمن السهل أنْ يضعف تحمّلهم لضغط العمل والقلق الناتج عنه.
أمّا درجة تعقيد المهمة وسهولتها فتلعب دورًا كبيرًا في تحديد النقطة المُثلى للإنجاز والتي يكون عندها الضغط إيجابيًا يدفع للفعالية. فقد يصعب علينا خلق النقطة المُثلى للإنجاز للعديد من المهمات الصعبة أو المستحيلة، وبالتالي يكون الضغط كبيرًا تحت أيّ نقطة يخضع لها الفرد.