عمد جيش الاحتلال الإسرائيلي سياسة تفخيخ المربعات السكنية ونسفها بالكامل عندما اشتدت توغلاته العسكرية البرّية في قطاع غزة، في أسلوب يعتبَر مغايرًا لما كان يتّبعه سابقًا، القائم على القصف الجوي أو المدفعي، إذ أظهرت عشرات المقاطع التي نشرها جنود الاحتلال عبر صفحاتهم وحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، عمليات احتفاء هؤلاء الجنود بنسف المربعات السكنية بعد تفخيخها باستخدام عبوات ناسفة خاصة بالمنازل.
تجري هذه العملية في المناطق التي يزعم الاحتلال الإسرائيلي أنه تمكّن من السيطرة عليها عسكريًّا، إلا أن الكثير منها تركّز في مناطق شرقية من القطاع، سواء مناطق بيت لاهيا أو شرق خان يونس وشرق مخيم المغازي للاجئين الفلسطينيين، ما يعزز الشكوك في النوايا الإسرائيلية التي أشارت إلى إقامة منطقة عازلة داخل أراضي القطاع.
وبحسب بيانات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فإن الاحتلال دمّر أكثر من 60% من منازل القطاع منذ بداية الحرب الإسرائيلية على القطاع، بين دمار جزئي وآخر كلّي، عدا عن تضرر شامل في المباني والممتلكات العامة.
الأسباب والدوافع؟
مع دخول العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة شهره الرابع على التوالي، فإن هناك دوافع ميدانية من وراء عمليات نسف المربعات السكنية المتواصلة، منها عملياتية تتمثل في إقامة منطقة عازلة، وأخرى نفسية وميدانية تتمثل في تهجير الفلسطينيين من هذه المناطق.
ويبدو أن من الأسباب وراء اللجوء الإسرائيلي لهذه السياسة، يتمثل في العقلية الإسرائيلية الانتقامية، وبهدف تكبيد الفلسطينيين أكبر خسائر ممكنة ثمنًا لهزيمة 7 أكتوبر/ تشرين الأول، التي هزّت الكيان بمختلف مؤسساته الأمنية والعسكرية والسياسية.
علاوة على ذلك، فإن ما يحدث يستهدف إجبار المواطنين على ترك منازلهم التي نُسفت، وربما يضطرون إلى الهجرة بحثًا عن الأمان، بعد أن فشلت الهجرة القسرية التي سعى الاحتلال الإسرائيلي لتنفيذها خلال الفترة الماضية منذ بداية الحرب.
بموازاة ذلك، هناك فلسفة الردع التي كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي تعتمد عليها، فهي كانت تتصرف باعتبار أنها تمتلك عناصر غير محدودة ولا نهاية لها، مثلًا الوقت كانت “إسرائيل” تتصرف باعتبار أنه لصالحها، وكان الدعم الخارجي لصالحها، والوضع الاقتصادي لصالحها، والقوة وما يمكن أن تفعله بها كانت لصالح “إسرائيل”.
لكن مع مرور الوقت، أعادت المقاومة تطوير أدائها وقدراتها وإمكاناتها، أي أن الوقت لم يكن في صالح “إسرائيل”، وكذلك جرائم الاحتلال باتت تحت مجهر دولي، وأصبحت “إسرائيل” تواجه عزلة دولية، ولذلك فإن تصوُّر أن القوة العسكرية قادرة على التدمير والدفع للتهجير أصبح ينعكس سلبًا على “إسرائيل”، كما بدا في محكمة العدل الدولية.
المنطقة العازلة
في ديسمبر/ كانون الأول 2023، أعلن بنيامين نتنياهو عن نيته إقامة منطقة عازلة عميقة في أراضي قطاع غزة، خلال لقاء جمعه بوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، فيما يبدو أنه تكرار للتجربة التي جرت بعد الحرب مع “حزب الله” اللبناني.
وجاء أول إقرار فعلي في إنشاء المنطقة العازلة، من خلال محادثة لمسؤولين إسرائيليين مع صحيفة “نيويورك تايمز”، بعد مقتل الجنود الـ 21 في المغازي وسط قطاع غزة، إذ أشارت المصادر إلى أن الجنود كانوا يعملون على تفجير 10 منازل في المنطقة، و”الهدف هو إنشاء منطقة عازلة يبلغ عرضها حوالي نصف ميل على طول الحدود مع غزة التي يبلغ طولها حوالي 36 ميلًا”، حيث قال مسؤولون إسرائيليون إن “المنطقة العازلة ستجعل من الصعب على النشطاء من غزة تنفيذ هجوم آخر عبر الحدود مثل الهجوم الذي وقع في أكتوبر/ تشرين الأول”.
إذن، يتضح أن عمليات النسف للمربعات السكنية مرتبطة ببُعدَين، الأول مرتبط بعمليات النسف داخل منطقة عمق الكيلومتر على الحدود، وهذا في محاولة لتطبيق المنطقة العازلة على أرض الواقع والقضاء على المربعات السكنية فيها ومظاهر الحياة، وهو ما جرى في المناطق الشرقية بالغالب.
حيث يستهدف الاحتلال جعل هذه المنطقة خالية مستقبلًا من أي سكان في المنظور الزمني القريب، وجعل فرضية العودة إلى هذه المناطق مستبعدة ومستحيلة، ما يعني جعلها مكشوفة بالنسبة إلى الجنود الإسرائيليين من داخل الأراضي المحتلة.
يبدو أن هناك إجماعًا إسرائيليًّا على أن إقامة المنطقة العازلة على هذه المسافة أو العمق لن توفر الأمن للمستوطنين في غلاف غزة، وستجعل المقاومة الفلسطينية تعاود الكرّة من جديد في تنفيذ عمليات مشابهة
أما البُعد الآخر فيبدو أنه مرتبط بتقدير الاحتلال بتواجد شبكة أنفاق استراتيجية، ومقرات قيادة وسيطرة موجودة في هذه المناطق، ويتجنّب تنفيذ عمليات تفتيش دقيقة لتلافي الوقوع في كمائن المقاومة، وبالتالي يعمد إلى إجراء عمليات تفجير ومسح كامل للمربعات المستهدفة.
حيث تركزت في الفترة الأخيرة عمليات النسف، وتصاعدت حتى مع تنفيذ المقاومة لعملية نوعية في مخيم المغازي وسط القطاع، والتي أدّت إلى مقتل أكثر من 24 جنديًّا إسرائيليًّا وضابطًا خلال عملية تفخيخ مربع سكني بالكامل في المنطقة، في حدث وُصف إسرائيليًّا بـ”الكارثة”.
ويبدو أن هناك إجماعًا إسرائيليًا على أن إقامة المنطقة العازلة على هذه المسافة أو العمق لن توفر الأمن للمستوطنين في غلاف غزة، وستجعل المقاومة الفلسطينية تعاود الكرّة من جديد في تنفيذ عمليات مشابهة أو مغايرة بعض الشيء.
وبالتوازي مع ذلك كله، فإنه ومع الإشارة إلى البُعدَين الماضيَين، الاحتلال معنيّ منذ بداية العدوان بإحداث أكبر قدر ممكن من الدمار على أوسع بقعة جغرافية، وتدفيع حواضن المقاومة الأصلب الثمن الأكبر في الدمار، والإغراق لسنوات في خطوات إعادة الإعمار.