تحت نيران غارات الطيران الحربي والقصف المدفعي، يجبر الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية حربه على قطاع غزة الفلسطينيين على النزوح القسري من منازلهم، تمهيدًا لتوغُّل عملياته العسكرية، واستكمالًا لسياسة إبادة كل ما هو فلسطيني منذ نكبة عام 1948.
ربما يكون النزوح القسري للجيل الفلسطيني الجديد أمرًا غير اعتيادي، أما بالنسبة إلى الأجداد الذين عاشوا التهجير والنكبة، يبدو تكرارًا للسيناريو نفسه، إذ تشهد تجاعيد وجوههم على مأساتهم الفلسطينية، فيما تمتلئ ذاكرتهم بتفاصيل اقتلاعهم من جذورهم وأراضيهم قسرًا على أيدي العصابات الصهيونية، ولسان حالهم يقول ما أشبه اليوم بالأمس، فالتاريخ يعيد نفسه معهم في أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، التي شنّ الاحتلال الإسرائيلي على إثرها حربه على غزة.
“من يوم ما انولدت وأنا بعيش التهجير، وفي كل مرة إسرائيل بتهجرنا وبتقتل فينا”، جاءت هذه الكلمات على لسان الثمانينية هاجر حسن المهجرة من قرية بربرة، شهدت النكبة الفلسطينية والنكسة والحروب المتكررة على قطاع غزة، وفي الحرب الحالية تضاعفت مأساتها، حيث نزحت من مخيم النصيرات وسط القطاع إلى أحد مخيمات النزوح جنوبه.

بدأت حديثها بصوت مختنق بالبكاء، ويداها مشغولتان بتفقُّد كومة أدوية الأمراض المزمنة، بجانبها أحفادها يلهون ويلعبون، تقول: “تهجّرت وأنا عمري 12 سنة، أذكر تمامًا ما حدث، حيث اقتحمت العصابات الصهيونية القرى المجاورة لنا حتى وصلت قريتنا، رفض والدي الخروج وبقينا بالمنزل، فاقتحموا بيتنا ونهبوه، كانوا يتحدثون بالعبري فلم نفهم عليهم، أطلقوا علينا النار ثم اعتدوا على والدي بالضرب وأخذوه أسيرًا استشهد بعد فترة من التعذيب، وأجبرونا على الرحيل دون أي أمتعة”.
ومنذ أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي حربًا مدمّرة، ارتكب من خلالها مئات المجازر بحقّ المدنيين، سقط ضحيتها 25 ألفًا و700 شهيد، وتسبّبت في نزوح نحو 1.9 ملايين شخص، أي أكثر من 85% من سكان القطاع بحسب سلطات القطاع والأمم المتحدة.
يذكر أن النكبة شرّدت قسرًا ما يقارب 800 ألف فلسطيني، من أصل نحو مليون و400 ألف، إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية المجاورة، واحتلت “إسرائيل” أكثر من 85% من مساحة فلسطين التاريخية البالغة قرابة 27 ألف كيلومتر، وجرى تدمير 531 من أصل 774 قرية ومدينة فلسطينية.
كما ارتكب الاحتلال أكثر من 70 مجزرة بحقّ الفلسطينيين، ليقدَّر عدد ضحاياها من الفلسطينيين بنحو 15 ألفًا، إضافة إلى تشريد قرابة 200 ألف فلسطيني، وذلك وفق إحصاءات مركز المعلومات الوطني الفلسطيني (حكومي).
تكمل المسنّة هاجر: “تهجّرت مع أشقائي وكان الناس أيضًا يهربون من القتل الإسرائيلي والمجازر في القرية، هربنا سيرًا على الأقدام، ومشينا مسافات طويلة، كنا نأكل ورق الشجر من الجوع، تنقلنا من منطقة إلى أخرى حتى وصلنا مخيم الشاطئ بمدينة غزة، وبعد زواجي انتقلت إلى مخيم النصيرات وسط القطاع، والآن نزحت إلى رفح”.
تتابع: “أحفادي ورثوا عني التهجير، السيناريو نفسه تكرر معي ومعهم، الاحتلال يريد تطهير الفلسطيني من أرضه، لكن بصمودنا وإصرارنا لن يحدث ذلك”.
وعلى المنوال نفسه، عاشت المعمّرة آمنة حجازي (95 عامًا) الألم ما بين الهجرة والنزوح، فهي لم تنسَ معاناتها الأولى مع التهجير للمرة الأولى عام 1948 من قرية كفر عانا قضاء يافا، ونزوحها عام 2024 من مدينة خانيونس إلى رفح، فعادت تواجه المصير نفسه مع فارق العامل الزمني.
فقدت اللاجئة حاسة السمع، لكن لم تفقد تفاصيل مأساتها وما فعله بهم الاحتلال الإسرائيلي إبّان النكبة، من تهجير قسري وتنكيل وقتل وتدمير، ما زالت تعيشه بحربه المتواصلة على غزة.
عن تفاصيل تهجيرها تقول: “أجبرنا الاحتلال على الخروج من ديارنا دون أي أمتعة، حرق جميع منازل القرية، وقتلوا الشيوخ واغتصبوا الفتيات ودمّروا الأرض والزرع ولم يتركوا شيئًا، خرجت مع أهلي وكان عمري حينها 16 عامًا، عندما هربنا أخدت معي مفتاح المنزل وأوصاني والدي أن أحتفظ به لأننا سنعود، عندما نزحت مع أبنائي هذه المرة أيضًا، اتّبع الاحتلال الأسلوب نفسه في إجبارنا على النزوح، فأوصيت ابني بأخذ مفتاح منزله”.
وتتابع: “تعبنا من كثرة التهجير والظلم والحروب، إسرائيل أخذت منا الأرض والأبناء، بالقوة والعنف دون حق، في نكبة 1948 فقدت بعضًا من أفراد عائلتي، وبالحرب الحالية أيضًا فقدت الكثير”.
وفي كتابه الذي حمل عنوان “التطهير العرقي”، أكّد المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه على أن الاحتلال تعمّد خلال نكبة 1948 سياسة إبادة الشعب الفلسطيني بهدف التطهير العرقي، فطردهم لم يكن مجرد هروب جماعي وطوعي للسكان، بل خطة مفصّلة جرى وضع اللمسات النهائية عليها في اجتماع عقده ديفيد بن غوريون في تل أبيب يوم 10 مارس/ آذار 1948 بحضور 10 من القادة الصهاينة، وتضمّنت أوامر صريحة لوحدات الهاغاناه باستخدام شتى الأساليب لتنفيذ “الخطة دال” التي وضعتها “إسرائيل” سنة 1948.
واحتوت الخطة على سلسلة منظَّمة من وسائل التطهير، التي يتطابق كل منها مع الوسائل الواردة في تعريف الأمم المتحدة للتطهير العرقي، كما أنها تشكّل الخلفية للمذابح التي رافقت مرحلة التخطيط إلى مرحلة التنفيذ النهائية، ما يشكّل حسب هذه التعريفات حالة تطهير عرقي ثابتة.
وأوضح بابيه أن الخطة تتمثل في إثارة الرعب، وقصف القرى والمراكز السكنية، وحرق المنازل، وهدم البيوت، وزرع الألغام في الأنقاض لمنع المطرودين من العودة إلى منازلهم، وقد استغرق تنفيذ تلك الخطة 6 أشهر.
ومع اكتمال التنفيذ، كان نحو 800 ألف فلسطيني قد أُرغموا على الهجرة إلى الدول المجاورة، ودُمّرت 531 قرية، وأُخلي 11 حيًّا مدنيًّا من سكانه، وهذه الخطة، بحسب ما يصفها إيلان بابيه، تعتبَر من وجهة نظر القانون الدولي “جريمة ضد الإنسانية”.
وذكر في مقدمة كتابه أن الحرب الإسرائيلية على فلسطين منذ عام 1948، هي في نظر الاحتلال الإسرائيلي حرب استقلال، أما بالنسبة إلى الفلسطيني ستظل نكبة إلى الأبد.
ربما لا يحتاج الفلسطينيون شهادات من إسرائليين تدعم روايتهم، فشهادات المهجّرين ما زالت مستمرة ضد الجرائم الإسرائيلية بحقّهم، إذ يتحدث اللاجئ أحمد أبو شمال (85 عامًا) المهجّر من قرية بيت داراس، عن تشابه الأحداث بين ما قبل 75 عامًا والحرب الإسرائيلية على غزة، وراح يعبّر عن مأساته في ملامح تطغى عليها الحسرة والحزن، مرتديًا اللباس الفلسطيني التقليدي الذي نزح فيه قسرًا، وهو عبارة عن الحطة والجلابية والعقال.
يروي ما حدث: “نزحت من حي النصر بغزة قسرًا، تمامًا كمشهد تهجيري من قرية بيت داراس أيام النكبة قسرًا أيضًا، وفي كلتا الحالتَين شهدتُ ارتكاب المجازر الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيين، أتذكر مشهد قيام الاحتلال بجمع رجال القرية وإعدامهم أمام النساء، كنت حينها صغيرًا اختبأت خلف باب المنزل، سمعت صوت إطلاق النار فارتعبت كثيرًا”.
“يبدو أن الفلسطيني مكتوب عليه الظلم طيلة حياته”، هكذا عبّر المسن، فالمشهد ذاته تكرر معه بحرب 2023، حينما اقتحم جنود الاحتلال عمارة سكنية بجانب عمارتهم، وأخذوا الرجال إلى مناطق غير مجهولة وأجبروهم على قلع ملابسهم وقاموا بإطلاق النيران عليهم.
يضيف: “هذه المرة لم أختبئ خلف الباب أشاهدهم، المشهد آلمني كثيرًا، شعرت بغصّة كبيرة، حقيقة لا ألوم الجيل الجديد على النزوح، فنحن شاهدنا مجازر فظيعة ارتكبها الاحتلال بحقنا كفلسطينيين على مرّ التاريخ، نحن نتعامل مع محتل نازي لا يرحم، يقصف المنازل على رؤوس أصحابها ويبيد الأحياء ويحرقها بشكل وحشي”.
يؤكد المسن على أن هناك فرقًا واضحًا وكبيرًا في قدرات المقاومة ما بين النكبة والحرب الإسرائيلية على غزة حاليًّا، حيث يبدو جليًّا تطور قدرات المقاومة للتصدي لمجازر الاحتلال، فالمقاومون سابقًا كان عددهم قليلًا في القرى، والبارودة سلاحهم الوحيد، مختتمًا: “لو كانت المقاومة أيام النكبة بهذا العتاد لما تهجّرنا، لكنا قاتلنا الاحتلال كما نقاتله الآن”.
بالسياق ذاته، ترى الدكتورة في علم التاريخ والآثار منى أبو حمدية، أن “كل ما حدث وما يحدث في الحرب الإسرائيلية على غزة، من تجويع وارتكاب مجازر وإبادة جماعية وقصف، هو استكمال لسياسة الاحتلال منذ نكبة عام 1948 ضد الفلسطيني، والتي تهدف إلى أسرلة الزمان والمكان والتطهير العرقي، لطرد الفلسطينيين من أراضيهم، وإقامة دولة يهودية إسرائيلية بدلًا منها”.
وأزال الاحتلال الإسرائيلي، تقول “أبو حمدية”، عشرات الأماكن التاريخية والدينية والوطنية طيلة حروبه على غزة، لأنه يعلم أن تاريخه مزيّف، فأسلوب التدمير وطمس هوية شعب بأكمله متعمّد، لاختلاق أكاذيب جديدة تدعم الرواية الإسرائيلية، واختراع تاريخ إسرائيلي جديد على أرض فلسطين، وما يفعله الاحتلال بحقّ الفلسطينيين منذ بداية أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول وما قبلها، مخالف لجميع المواثيق والأعراف الدولية، ويخدم أجندة يمينية متطرفة برئاسة بنيامين نتنياهو.