يصادف اليوم، 26 يناير/ كانون الثاني، مرور الذكرى الـ 12 على ارتكاب نظام الأسد أول مجزرة ميدانية بصبغة طائفية بتاريخ الثورة السورية، وذلك في حي كرم الزيتون بمدينة حمص وسط البلاد.
المجزرة راح ضحيتها عوائل بأكملها لم يسلم منها طفل ولا امرأة، إذ وثّق ناشطو حي كرم الزيتون أسماء ما لا يقل عن 22 قتيلًا من بينهم 7 سيدات إحداهن حامل، و10 أطفال (5 إناث و4 ذكور وجنين)، إضافة إلى جريحَين رضيعَين تمّ إسعافهما، واحتجاز عدد من الضحايا وعدم تسليمهم لذويهم إلا بعد 5 أيام، بهدف توقيع ذويهم على ورقة مفادها أن “العصابات المسلحة” هي الفاعل.
كيف وقعت المجزرة؟
يروي أحد الناشطين الذين شهدوا ووثّقوا المجزرة من تنسيقية كرم الزيتون، تيسير أبو معاذ الحمصي، لـ”نون بوست” أن المجزرة وقعت بعد حصار تامّ لحيّ كرم الزيتون عبر الحواجز العسكرية المحاطة به، وأبرزها حاجز مستوصف باب الدريب عند دوار حي باب الدريب، وحاجز دوار الفاخورة وحاجز شارع طريق الستين، ليتمَّ إغلاق الطريق على أحياء حمص القديمة الثائرة، إضافة إلى تحويل مدارس الحي مثل المثنى وأوغاريت وحنا مينا إلى ثكنات عسكرية.
ويشير أبو معاذ إلى إنشاء حواجز غير رسمية يتمركز فيها شبّان علويون من أبناء حي كرم الزيتون الذين تطوعوا في الأمن العسكري، تحت أسماء نسبةً إلى مكان وقوعها، مثل حاجز العيادات الشاملة وحاجز النازحين.
أوضح كذلك أن 3 شوارع يقطنها نازحون من منطقة الجولان جاؤوا إلى حي كرم الزيتون في عامَي 1967 و1968 واستقروا في هذه الشوارع، حتى سُمّيت باسمهم حارة النازحين، وكان دور الحواجز منع تنقل الأهالي لحضور المظاهرات، وهذا الحاجز له دور رئيسي في ارتكاب المجزرة بمشاركة عناصر من الأمن العسكري.
ووفقًا لشهادة الناشط أبي معاذ ابن حي كرم الزيتون، كثّف نظام الأسد من عمليات القمع والاقتحامات والاعتقالات اليومية على هذا الحي، بهدف إيقاف المظاهرات السلمية ودفع الشباب إلى التسلُّح، لذلك مجزرة كرم الزيتون الطائفية تعدّ “نقطة تحول الثورة في حمص من السلمية إلى المسلحة في سبيل الدفاع عن المدنيين”.
وأضاف: “بدأ التمهيد لارتكاب المجزرة عبر قصف عنيف بقذائف الهاون استمر لـ 3 أيام (24 و25 و26 يناير/ كانون الثاني 2012)، وذلك لترهيب المدنيين، فوقع ما لا يقل عن 30 قتيلًا وعشرات الجرحى نتيجة القصف والقنص من قبل الحواجز المحيطة بالحي، قبل أن تُرتكب المجزرة الميدانية بالتصفية المباشرة بالرصاص والسكاكين عبر اقتحام منازل المدنيين”.
فيديوهات القصف على حي كرم الزيتون قبل المجزرة الميدانية.
بدوره، الناشط محمد المحمد، المعروف بـ”عندليب كرم الزيتون” والملقّب بـ”أبي عدي العكيدي”، أحد الشهود على وقوع المجزرة وبصوته شيّع ضحاياها، يقول لـ”نون بوست”: “الضحايا تقع منازلهم قرب حاجز النازحين الواقع مقابل شارع بقالية الجولان (مدخل حارة النازحين)، وبعض عناصر النظام كانوا يقطنون في منازل أصحابها غادروها خوفًا على أنفسهم، إضافة إلى وجود عناصر في مدرسة حنا مينا”.
وأوضح أن العائلات من الطائفة السنّية التي منازلهم قريبة من الحاجز جميعهم نزحوا منها، إلا بعض العوائل مثل بهادُر والمحمد وعِكْرة الذين قضوا نحبهم في المجزرة.
ويوضح أبو عدي أن حاجز النازحين الواقع أول حارة النازحين، يفتح نيرانه يوميًّا باتجاه مسجد أبي عبيدة بن الجراح الواقع في آخر الحارة، حيث يقطن حول المسجد سكان من الثوار، لكن في يوم المجزرة كان الاستهداف مكثفًا من الظهر إلى العصر.
وكان المدعو أبو ربيع (صاحب فرن النازحين)، مع عدد من أقاربه من الطائفة العلوية الذين تسلحوا في بداية الثورة لقمع المظاهرات السلمية، أحد الذين ارتكبوا المجزرة بحقّ العوائل برفقة عناصر دخلوا عبر حافلات ميتسوبيشي تابعة للأمن العسكري، حيث عائلة عبد الغني بهادُر وزوجته سميرة وحود قُتلت بأكملها وذلك بحماية الحاجز.
في هذا السياق، قالت أم عمار، والدة الضحية كنانة عفارة (25 عامًا)، لـ”نون بوست”، إن ابنتها قُتلت مع ابنها عبد الغني بهادُر (9 سنوات)، بينما أُسعف ولداها الرضيعان، علي ذو العامَين وغزل ذات الـ 10 أشهر، كما نجا زوجها كونه لم يكن حينها في المنزل، وهم من عائلة بهادُر التي قُتل منها 13 فردًا مع ابنتها وحفيدها.
وتكمل: “أفراد العائلة هم الجد والجدة، والابن وزوجته الحامل وطفلتاهما، وابنة عزباء وأخرى متزوجة مع طفليها الرضيعَين، نجم ذو الـ 6 أشهر وثناء ذات العامَين من عائلة عِكْرة، واللذان نجا والدهما كونه لم يكن موجودًا”، مشيرة إلى مقتل جارهم عبد الساتر قرة حسن وشُيّع مع العائلة كما شُيّع معهم الشاب تميم الحموي.
لحظة وداع الأب لعائلته – والد نجم وثناء عكرة.
وداع الأب لأطفال مذبحة كرم الزيتون، 27 يناير/ كانون الثاني 2012، سوريا حمص.
الفاجعة لم تمرّ على السيدة أم عمار بسلام، فقد تسبّب الحزن في إصابتها بمرض السكري وأمراض أخرى أنهكت جسمها، وما يخفّف ألمها هو إنقاذ حفيدتها غزل التي عمرها اليوم 13 عامًا من عمر الثورة السورية، وتضيف: “حفيدتي غزل بقيت معي لتؤنسني وسط مرارة الفقد والتهجير إلى مخيمات ريف حلب الشرقي حيث أقيم حاليًّا، ولا تزال علامة الإصابة في فخذها موجودة إلى اليوم وتؤلمها أحيانًا”.
مقطع إسعاف الطفلة غزل بهادر.
تشييع شهداء مجزرة كرم الزيتون من جب الجندلي، 27 يناير/ كانون الثاني 2012.
كيفية الوصول إلى الضحايا وتشييعهم
يذكر الناشط أبو عدي العكيدي: “هدوء مخيف عمَّ أرجاء الحي عصر يوم الخميس (26 يناير/ كانون الثاني 2012)، بعد ساعات من الرصاص الكثيف، وشوهدت حافلات الأمن العسكري تخرج من شوارع النازحين باتجاه حي النزهة”.
موضحًا أن أهالي حي كرم الزيتون كانوا لا يستطيعون الوصول إلى شارع بقالية الجولان الذي وقعت فيه المجزرة، ولم تكن هناك طريقة للوصول إليهم إلا العبور من حاجز النازحين الذي يقع أمامهم، فتمّت الاستعانة بوسيط مرتبط بالنظام من أهل الحي الشيعة يدعى أبو حيدرة، للتحدث باسم الحي مع الضابط المسؤول عن حاجز النازحين، فسُمح له بالدخول إلى المنازل ومشاهدة ما حدث، فعاد إلى أهالي الحي وأخبرهم بالمجزرة المروعة.
وتابع “عندليب كرم الزيتون”: “اشترط ضابط الحاجز على أبو حيدرة أن يدخل بنفسه عبر سيارة سوزوكي برفقة سائق، لانتشال الضحايا وإحضارهم إلى المستشفى الميداني الواقع في وسط حي كرم الزيتون، وكان من بين الضحايا طفلان شقيقان جريحان تم إسعافهما”.
وأشار إلى عدم توافر الكفن الأبيض لجميع الضحايا، فتمَّ التكفين بقماش متوافر كان لونه برتقاليًّا وآخر أخضر، وقرر الثوار عدم تشييعهم قبل أن يتم استهداف الحاجز، فاندلعت اشتباكات استمرت حتى فجر الجمعة 27 يناير/ كانون الثاني 2012.
وفي ظهيرة يوم الجمعة تمّ التشييع عبر مظاهرة سلمية في حي جب الجندلي، تحت اسم “حق الدفاع عن النفس”، وقال المنشد أبو عدي: “كان شعوري من الصعب وصفه، فقد شاهدت الكثير من ضحايا المظاهرات والقصف وشاركت بهتافات تشييعهم، لكن هذه المرة عندما حملت أحد جثث الأطفال سألت نفسي: “بأي ذنب قُتلت بالرصاص وضربًا بأخمص البندقية؟”، وأستذكر بقينا مستنفرين لا نستطيع النوم، لأنها كانت من أوائل المجازر التي تُرتكب بهذه الطريقة الوحشية بحقّ الأطفال والنساء”.
في سياق متصل، يتحدث الناشط تيسير أبو معاذ عن كيفية وصولهم إلى جثث ضحايا عائلة محمد تركي المحمد وزوجته ابتسام الخضر وأولادهما الأربعة (طفلتان وطفلان أحدهم معاق)، حيث لم يتم الوصول إليهم حتى يوم الاثنين الموافق 30 يناير/ كانون الثاني 2012.
موضحًا أن ضابط حاجز النازحين أخبر المتحدث باسم حي كرم زيتون، أبو حيدرة، أن جثثهم تمّ إرسالها إلى مستشفى حمص العسكري الواقع في حي الوعر، وهناك أجبر النظام أقاربهم على توقيع ورقة مفادها أن “العصابات المسلحة” قتلتهم كشرطٍ لتسليم الضحايا.
وأضاف أنه عند رؤية الضحايا ظهرت آثار التعذيب على أجسادهم، وكان هناك طفل معاق وشقيقه بيده خصلة من شعر أمه تمسّك بها من شدة الخوف، لافتًا إلى إتمام نقلهم إلى وسط حي كرم الزيتون وتشييعهم داخل الحي، رغم تطويق الحي ومنع خروج الأهالي منه، وتمّ نقلهم عبر شاحنة صغيرة إلى مقبرة أولاد جعفر القريبة من الحي ودفنهم فيها.
فيديو يظهر خلاله الناشط تيسير أبو معاذ وهو يوثّق آثار التعذيب على أجساد الضحايا، ويظهر طفل معاق وآخر بيده خصلة من شعر أمه تمسّك بها من شدة الخوف، كما تظهر طفلة رضيعة مذبوحة وبجانبها أطفال مقتولون برصاص بالرأس والرقبة.
لماذا حيّ كرم الزيتون؟
تأتي الأهمية الاستراتيجية لحي كرم الزيتون الواقع جنوب مدينة حمص، قرب أحياء باب الدريب وباب السباع وعشيرة ذات الطائفة السنّية، كونه يفصل بين أحياء عكرمة والنزهة ووادي الذهب عن أحياء الزهراء والسبيل والعباسية الموالية ذات الغالبية العلوية من جهة، ويمتاز بخليط سكّاني من جميع الطوائف من جهة ثانية.
بحسب الناشط تيسير أبو معاذ، فإن حي كرم الزيتون يعدّ ثاني أكبر حي في مدينة حمص في تعداد السكان بعد حي وادي الذهب، إذ بلغ عدد سكانه نحو 70 ألف نسمة، وانتفض الحي كباقي أحياء حمص الثائرة بوجه نظام الأسد، لينقسم إلى شطرَين منذ بداية الثورة خلال المظاهرات، حيث سُمّي القسم الثائر “حي الرفاعي” نسبةً إلى مسجد الرفاعي الذي كان يتجمهر أمامه المتظاهرون، والقسم الآخر بقيَ كرم الزيتون وتفصل بينهما شوارع يقطنها سكان من الطائفة العلوية، وهي مصدر القصف والرصاص باتجاه المنطقة.
أكّد أبو معاذ أن النظام كان حينذاك يستميت لقمع المظاهرات المناهضة له، فأعداد المتظاهرين كانت كبيرة رغم أن حي كرم الزيتون مطوّق من قبل الأحياء الموالية للنظام، فكانت المظاهرات تخرج من حي الرفاعي وحي عشيرة ويتجمع المتظاهرون في وسط حي كرم الزيتون، وبعدها ينتقلون إلى حي باب السباع من ثم إلى باقي الأحياء الثائرة، وكان حي كرم الزيتون سبب رئيسي في اعتصام الساعة الشهير في 18 أبريل/ نيسان 2011، ما زاد من حقد النظام على أهالي هذا الحي.
الجدير بالذكر أن حي الرفاعي في كرم الزيتون شهد المجزرة الطائفية الأكبر في 12 مارس/ آذار 2012، التي تزامنت مع مجازر مماثلة في أحياء العدوية وعشيرة في حمص، فكان حدثًا مفصليًّا في تاريخ خطّه الثائرون بدمائهم.
وأعلنت حينها بعثة المراقبين العرب في سوريا، برئاسة محمد الدابي، أن معدلات العنف في سوريا “تصاعدت بشكل كبير في الفترة من 24 إلى 27 يناير/ كانون الثاني 2012، خاصة في حمص وحماة وإدلب”، لتعلن في 28 يناير/ كانون الثاني 2012 جامعة الدول العربية في بيان رسمي أنها ستوقف بعثة مراقبيها إلى سوريا بسبب تصاعد العنف.