تحفل كتب الأدب العربي بالعديد من التحف الشعرية البديعة، التي شكلت بمعانيها وعذوبتها وغناها معينًا لا ينضب، استقى منه كبار ملحني ومطربي عصرهم أبياتًا معناة، وحولوها إلى أعمال فنية موسيقية خالدة.
وفي المقال التالي سنجوب معكم صفحات الشعر العربي الفصيح عبر العصور، لنقف عند أبرز الشعراء القدامى والمعاصرين الذين خلد أعلام الفن والغناء ذكرهم، بتحويل أشعارهم إلى روائع تتراقص على أنغام الموسيقى.
روائع الشعر القديم
بدايتنا مع الشاعر الفارس أبي فراس الحمداني الذي عاش في القرن الميلادي العاشر، وينتمي إلى بني حمدان الذين حكموا إمارة حلب والموصل في تلك الحقبة، واشتهرت أشعاره برقة معانيها وسهولة ألفاظها، مما جعلها مادة خصبة للتلحين والغناء.
عاش الشاعر أبو فراس الحمداني في القرن الميلادي العاشر، واشتهرت أشعاره برقة معانيها وسهولة ألفاظها، مما جعلها مادة خصبة للتلحين والغناء
وتُعد قصائد أبي فراس التي كتبها عندما وقع في الأسر أشهر أشعاره التي غُنيت، ومنها تلك التي مطلعها:
أراكَ عصيَ الدمع شيمتك الصبرُ.. أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ
نعم، أنا مشتاقٌ وعندي لوعةٌ.. ولكنَ مثلي لا يُذاع له سرُ
والتي بدأ بتلحينها وغنائها عبدو الحامولي، أحد أعلام الطرب في مصر في القرن الـ19، قبل أن تنشدها كوكب الشرق أم كلثوم في إحدى أجمل روائعها، من ألحان الموسيقار المبدع رياض السنباطي.
“أراك عصي الدمع” بصوت كوكب الشرق أم كلثوم
ومنها أيضًا قطعة شعرية بديعة تُعد من عيون الشعر المغنى، لكثرة ما تم تداولها في الأغاني القديمة والمعاصرة، وهي التي يخاطب من خلالها الحمداني حمامة وهو في الأسر قائلًا:
أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ.. أيا جارةً لو تشعرين بحالي
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى.. ولا خطرت منك الهموم ببالِ
وقد لحنها وغناها العديد من الفنانين قديمًا وحديثًا، أبرزهم المطرب العراقي الكبير ناظم الغزالي، والذي اشتهر ببراعته في أداء فن القصيدة، جنبًا إلى جنب مع المطرب السوري الكبير صباح فخري، الذي يُعد كذلك أحد أبرز من غنى القصائد.
“أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ” بصوت ناظم الغزالي
ومن تلك الروائع التي أبدع في غنائها صباح فخري وناظم الغزالي، أبيات ألفها شاعر أموي مغمور عاش في القرن الميلادي السابع يُدعى ربيعة بن عامر الدارمي، مطلعها:
قل للمليحة بالخمار الأسود.. ماذا فعلت بناسك متعبدِ
قد كان شمر للصلاة ثيابه.. لما ظهرتِ له ببابِ المسجدِ
ولتلك القصيدة قصة طريفة، حيث أراد أحد التجار تسويق بضاعته من الخمر السوداء فاستعان بالشاعر الذي نظم تلك الأبيات الغزلية الرقيقة خصيصًا لهذا الغرض.
“قل للمليحة” بصوت صباح فخري
وما دام حديثنا عن الغزل، فلا بد أن نتطرق إلى أحد أبرز رواده في الشعر العربي، وهو الشاعر الأموي قيس بن الملوح، الذي اشتهر بقصائده الغزلية الرقيقة في حبيبته ليلى، مما أكسبه لقب “مجنون ليلى”، ومن تلك الغزليات الناعمة غنت له السيدة فيروز العديد من الأعمال، أشهرها “أحب من الأسماء” من ألحان محمد محسن.
من أشهر الشعراء القدامى الذين غُنيت أشعارهم: قيس بن الملوح والحصري القيرواني ولسان الدين بن الخطيب
كما غنت قيثارة الشرق السيدة فيروز قصيدة شهيرة لشاعر ضرير عاش في تونس في القرن الـ11 يُدعى علي الحصري القيرواني، يقول مطلعها:
يا ليلُ، الصبُ متى غدهُ.. أقيامُ الساعة موعده؟
رقد السمارُ فأرقه.. أسفٌ للبينِ يرددهُ
وقد لحنها لفيروز الأخوين رحباني، علمًا بأن القصيدة ذاتها أداها مطربون آخرون بألحان مغايرة.
“يا ليل الصب” بصوت فيروز
ويبرز اسم لسان الدين بن الخطيب، كواحد من أبرز الشعراء الذين غُنيت أشعارهم، وهو شاعر وكاتب ومؤرخ أندلسي عاش في القرن الـ14، وكانت أشعاره تُحفر على جدران قصر الحمراء بغرناطة لشدة عذوبتها وجمالها، ومن أبرز أعماله موشح أداه العديد من المطربين كصباح فخري وفيروز، يقول مطلعه:
جادك الغيث إذا الغيث همى.. يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلمًا.. في الكرى أو خلسة المختلسِ
والموشح نوع خاص من الشعر يُنظم خصيصًا للغناء، واشتهر في بلاد الأندلس التي عاش فيها الشاعر لسان الدين، والذي غنت من أشعاره السيدة فيروز قصيدة أخرى مطلعها “جاءت معذبتي في غيهب الغسق”.
روائع الشعر المعاصر
يعتبر أمير الشعراء أحمد شوقي واحدًا من أهم رواد الشعر العربي المعاصر، وبرع في نظم معظم فنون الشعر بأسلوب أخاذ جمع بين متانة السبك وجزالته وسهولة الألفاظ وانسيابيتها، مما أغرى أبرز ملحني ومطربي زمن الفن الجميل بالتعاون معه، فكون ثنائيًا فنيًا فريدًا مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، أنتج العديد من روائع الغناء العربي، نذكر منها:
“مجنون ليلى”، “سجى الليل”، “بلبل حيران”، “خدعوها بقولهم حسناء”، و”يا جارة الوادي” التي نظمها شوقي إعجابًا بمدينة زحلة اللبنانية التي زارها، إضافة إلى قصيدة “مضناك جفاه مرقده”، التي نظمها شوقي على غرار هائية الحصري القيرواني “يا ليل الصب متى غده”، ولحنها وأداها عبد الوهاب في واحدة من أجمل ما غنى.
رائعة شوقي “مضناك جفاه مرقده” بصوت محمد عبد الوهاب
كما أغرت أشعار شوقي الدينية الوجدانية سيدة الغناء العربي أم كلثوم، فأوعزت إلى الموسيقار الكبير رياض السنباطي لتلحين عدد منها، لتسفر عن روائع خلدت في سجل الغناء الشرقي، نذكر منها: “وُلد الهدى”، “إلى عرفات الله”، “سلوا قلبي”، و”نهج البردة” التي نظمها شوقي على منوال قصيدة “البردة” الشهيرة للبوصيري، وهي في مدح النبي محمد “صلى الله عليه وسلم”.
يعتبر أحمد شوقي وأحمد رامي وبشارة الخوري ونزار قباني أبرز الشعراء المعاصرين الذين غُنيت أشعارهم
وعلى ذكر روائع الشعر الوجداني، تحضر إلى الذاكرة “رباعيات الخيام”، وهي قصيدة تأملية عميقة للشاعر الفارسي عمر الخيام، أبدع في ترجمتها إلى العربية الشاعر أحمد رامي، وقدمها إلى الثنائي الفني العملاق أم كلثوم والسنباطي، لينتجا واحدة من أجمل الأعمال الفنية العربية المغناة، علمًا بأن أحمد رامي الذي كتب لأم كلثوم الكثير من كلمات الأغاني باللهجة العامية قدم لها أيضًا عدة قصائد بالفصحى، نذكر منها: “ذكرياتٌ عبرت أفق خيالي”، “أصون كرامتي”، “أغار من نسمة الجنوب”، و”أقبل الليل”، وجميعها من ألحان المبدع السنباطي.
أبرز من أتقن أداء فن القصيدة من المطربين: أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وصباح فخري وناظم الغزالي
وتبقى رائعة “الأطلال” التي كتبها الشاعر المصري إبراهيم ناجي، أبرز ثمرات التعاون المشترك بين السنباطي وأم كلثوم، علمًا بأنها قُدمت بعد وفاة كاتبها بنحو 13 عامًا، ويعدها النقاد أفضل ما غنت أم كلثوم على الإطلاق.
“الأطلال” لإبراهيم ناجي بصوت أم كلثوم
ويحتل الشاعر اللبناني بشارة الخوري الملقب بالأخطل الصغير، مكانة مرموقة بين أبرز الشعراء المعاصرين الذين تحولت قصائدهم إلى أغان لحنها وأداها كبار فناني عصرهم، ونذكر منها:
“جفنه علم الغزل” و”الصبا والجمال” من ألحان وغناء الموسيقار محمد عبد الوهاب، “قد أتاك يعتذر”، “يبكي ويضحك”، “يا عاقد الحاجبين” من ألحان الأخوين رحباني وغناء السيدة فيروز، إضافة إلى قصيدتي “عش أنت” و”أضنيتني بالهجر” اللتين لحنهما وغناهما الموسيقار الكبير فريد الأطرش.
قصيدة الأخطل الصغير “عش أنت” بصوت فريد الأطرش
وبدوره قدم الشاعر السوري الشهير نزار قباني للأغنية العربية العديد من الأشعار الخالدة، منها قصيدة وطنية بعنوان “أصبح عندي الآن بندقية”، غنتها السيدة أم كلثوم من ألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب، “رسالة من امرأة حاقدة” التي لحنها الموسيقار محمد سلطان وغنتها فايزة أحمد، “أيظن” و”أسألك الرحيل” اللتان لحنهما محمد عبد الوهاب وغنتهما نجاة الصغيرة، “كلمات” التي لحنها إحسان المنذر وغنتها ماجدة الرومي، “اغضب كما تشاء” التي لحنها حلمي بكر وغنتها أصالة نصري.
فيما يعتبر الموسيقار والمطرب العراقي كاظم الساهر أكثر من قدم أعمالًا من أشعار نزار قباني، حيث لحن وأدّى مجموعة أغان أشهرها: “مدرسة الحب”، “زيديني عشقًا”، “إني خيرتك فاختاري”، “صباحك سكر”، “قولي أحبك”.
هذا وتعتبر قصيدتا “رسالة تحت الماء” و”قارئة الفنجان”، اللتان لحنهما الموسيقار محمد الموجي وأداهما العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، من أجمل ما غُني من أشعار قباني على الإطلاق.
قصيدة نزار قباني “قارئة الفنجان” بصوت عبد الحليم حافظ
وإضافة إلى الشعراء الذين سبق ذكرهم، تبرز أسماء عدد من مشاهير الشعراء المعاصرين الذين تحولت قصائدهم إلى أعمال فنية خالدة، نذكر منهم السوداني الهادي آدم الذي غنت له أم كلثوم قصيدة “أغدًا ألقاك” من ألحان محمد عبد الوهاب، والمصري علي محمود طه الذي غنى له محمد عبد الوهاب قصيدتي “كليوباترا” و”الجندول” من ألحانه، والكويتية سعاد الصباح التي غنت لها نجاة الصغيرة قصيدة “لا تنتقد خجلي الشديد” من ألحان كمال الطويل، وماجدة الرومي قصيدة “كن صديقي” من ألحان عبدو منذر، واللبناني جورج جرداق الذي غنت له أم كلثوم قصيدة “هذه ليلتي وحلم حياتي” من ألحان محمد عبد الوهاب، والسعودي عبد الله الفيصل الذي غنت له أم كلثوم قصيدتي “ثورة الشك” و”من أجل عينيك عشقت الهوى” من ألحان رياض السنباطي.
قصيدة محمود درويش “أحن إلى خبز أمي” بصوت مارسيل خليفة
كما تحولت بعض قصائد الشاعر الفلسطيني المناضل محمود درويش إلى أعمال غنائية حملت الصبغة الوطنية الوجدانية، في مقدمتها قصيدة “أحن إلى خبر أمي” التي لحنها وأداها المطرب مارسيل خليف و”أيها المارون بين الكلمات العابرة” التي لحنها طاهر مامللي وأدتها المطربة أصالة نصري.
أبرز من لحن القصائد الشعرية: رياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب وكاظم الساهر
وأخيرًا، تجدر الإشادة بواحدة من أجمل الأعمال الشعرية المغناة التي حظيت بشهرة كبيرة تخطت حدود الوطن العربي وهي رائعة “أنا وليلى”، التي يعلم معظمنا أنها من ألحان وغناء الفنان كاظم الساهر، ولكن ما لا يعلمه الكثيرون أنها من كلمات شاعر عراقي مغمور يُدعى حسن المرواني.
قصيدة حسن المرواني “أنا وليلى” بصوت كاظم الساهر