أثارت تصريحات رئيس وزراء “إسرائيل” الأسبق، إيهود باراك، عام 2022 حول “لعنة العقد الثامن للدولة اليهودية” عاصفة من الجدل، وأثارت شهية المحللين السياسيين لشرح سبب اعتقاد هذه الشخصية السياسية اليسارية في النبوءات الدينية التي تشير إلى أنه لم تَعِش دولة يهودية لأكثر من 80 عامًا في التاريخ.
كما أدلى باراك بتصريحات مماثلة عام 2010، عندما بدأ يتحدث عن خوفه من العوامل الداخلية التي قد تسرّع من ضعف الدولة اليهودية وانهيارها، وكرّر تصريحاته بعد ذلك عام 2017، وأخيرًا في عام 2022.
أما بالنسبة إلى الأسباب السياسية التي قدمها باراك لتبرير تخوفاته قبل عقد من الزمن، كان أبرزها: “إذا استمرينا في السيطرة على المنطقة بأكملها من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الأردن (…) ولو ظل كيان واحد فقط يسود هذه المنطقة بأكملها باسم إسرائيل، فإنها ستصبح بالضرورة -هذه هي الكلمة الرئيسية: بالضرورة- إما غير يهودية وإما غير ديمقراطية (…) إن الخيارَين المتاحَين سيكونان إما دولة ثنائية القومية بأغلبية عربية وحرب أهلية وإما انزلاقًا نحو الفصل العنصري”.
نشوء الدول وسقوطها عند ابن خلدون
بالنسبة إلى ابن خلدون، فإن للتاريخ دورة تنشأ في بدايتها السلطات السيادية، وتصبح أقوى ثم تفقد قوتها وتُغزى من قبل سلطات سيادية أخرى مع مرور الوقت، وهذا يعني نظريًّا أن أي سلطة سيادية في وقت ما ستصل إلى نهايتها، بسبب الظروف الداخلية والخارجية على حدّ سواء.
لقد حدّد ابن خلدون عمر الدولة بين 100 و120 عامًا، حيث ستكون هناك 3 أجيال أو 4 من القادة الذين سيأخذون هذه الدولة إلى مصيرها، الجيل الأول هو الجيل المؤسّس الذي يلعب دورًا حاسمًا في عملية تشكيل الدولة، ومستوى تكاتفه الروحي الذي يكون الأعلى بين جميع الأجيال، وتستمر الدولة في الارتفاع طالما وُجدت روح الجيل الأول.
يحصل الجيل الثاني على المُلك إلى حدّ ما استنادًا إلى ما تعلّمه من الجيل السابق، فتتناقص درجة تماسكه بالمقارنة مع الجيل الأول، ويزيد من ثروة وقوة الدولة، لكن شجاعته تبدأ بالاختفاء.
أما في الجيل الثالث فلا يهتم الحكام بقضايا مثل الحفاظ على سلالتهم أو مستقبل الدولة، لأنهم مدمنون على الفخامة والرفاهية، وفي هذه المرحلة تبدأ الشيخوخة بالتسلُّل إلى الدولة، وتتجه رويدًا رويدًا نحو الانهيار الكامل.
أثناء المرحلة التأسيسية للدولة، يسود المجتمع الذي يمتلك “العصبية” الأقوى أو ما نسمّيه اليوم بـ”الهوية الجمعية”، ومع ذلك إن وجود عدد كبير من العصبيات أو الهويات الجمعية المختلفة داخل مناطق أضيق، يؤدي إلى مقاومتها في البداية العصبية الغالبة، وإذا خسرت تنشأ بعض التمردات مع مرور الوقت.
هناك العديد من الأسباب، وفقًا لمختلف النظريات الاجتماعية والسياسية، لتراجُع الدولة أو انهيارها، ففي حين تشير نظرية استقرار الهيمنة إلى أن الدول تنهار أو تتراجع عندما تزيد تكلفة الحفاظ على الوضع الراهن عن قدرة الهيمنة الاقتصادية، يعتقد بول كينيدي في نظريته حول صعود وسقوط القوى العظمى، أن السبب الرئيسي هو عدم التوازن بين الاقتصاد واستراتيجية العسكر، أما ابن خلدون فيركّز على العوامل الداخلية مثل الإغراق في الترف، وتآكُل العصبية (الهوية الجمعية)، والحكم المستبد، وأخيرًا مواجهة عصبيات أقوى.
ومن الجدير بالذكر أن فهم دورة التاريخ من وجهة نظر ابن خلدون قد أثّر على العديد من المثقفين المعاصرين لدراسة حالات مختلفة مثل مرتضى الهاشمي، عالم الأنثروبولوجيا الاجتماعية الذي طبّق منهج ابن خلدون في تفسير صعود وتراجع شركات ومؤسسات وادي السيليكون.
وأيضًا محمود ماماداني الذي أكّد على أهمية ابن خلدون في إعادة التفكير في المركزية الأوروبية أو الأفريقية، والسيد فريد العطاس الذي طبّق نظرية ابن خلدون في صعود وسقوط الإمبراطورية الصفوية، وطبّق النظرية أيضًا على المملكة العربية السعودية وسوريا.
“إسرائيل” كدراسة حالة
هناك طريقتان للانحدار من وجهة نظر ابن خلدون، إحداهما هي الهجمات القادمة من الخارج، أما الطريقة الأخرى فهي التمرد من داخل الدولة، خاصة من المناطق أو الأفراد المهمّشين.
وضع إيهود باراك خطر التقسيم الداخلي قبل التهديدات الخارجية، واعتبره أكبر خطر ينتظر بقاء دولة “إسرائيل”: “طالما كان هناك في هذا الإقليم، أي غرب نهر الأردن، كيان سياسي واحد يسمّى إسرائيل، فإن هذا الكيان سيكون إما غير يهودي وإما غير ديمقراطي. وإذا لم تتمكن هذه الكتلة من ملايين الفلسطينيين من التصويت، فستكون دولة فصل عنصري“.
بينما ادّعى بنيامين نتنياهو أن بقاءه كرئيس للوزراء في “إسرائيل” هو الضمان الوحيد لاستمرار “إسرائيل” بعد الـ 80 عامًا وتجاوز القرن، على عكس تاريخ اليهود الذين لم تكن لديهم دولة استمرت لأكثر من 80 عامًا.
وفي حملته الانتخابية عام 2020، حثَّ نفتالي بينيت الناخبين اليهود على دعمه، من أجل تخطي الـ 80 عامًا بأمان، وضمان استمرار “دولة إسرائيل” بعد هذا الوقت.
لقد أشار كل هؤلاء القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين إلى انهيار “دولة إسرائيل” القديمة في فلسطين، التي استمرت لمدة 80 عامًا فقط، كأساس لمخاوفهم، ولا يعتقد كل من باراك ونتنياهو أن ما قامت به “إسرائيل” الحديثة منذ عام 1948 هو ما سيؤدي بها إلى مصيرها في المستقبل القريب، ولا أن المقاومة الفلسطينية أو اللبنانية هي التي تهددها، لكن التشابه الفانتازي الذي يرسمانه مع التاريخ القديم قد يختم مصير المستوطنة الحديثة.
كان فقدان العصبية القوية وتآكُلها، وإدمان الترف، والحكم غير الكفؤ، وعدم رضا المحكومين، والجيش غير الماهر، والاقتصاد الضعيف الأسباب الرئيسية لتراجُع أية دولة عبر التاريخ، كما يُجادل ابن خلدون، وفي حالة “إسرائيل” فإنه ينطبق عليها ما لا يقل عن أربعة من هذه العوامل الستة حتى الآن.
لا تزال “إسرائيل” تعاني من مرض مزمن من الخوف، مرض يتجلّى في الخطاب العام لمثقفيها وصحفييها وأكاديمييها ومفكّريها، وفي خطب رؤسائها وخوف مواطنيها من المستقبل، أولئك المواطنين الذين يرون في الجنسية المزدوجة قارب النجاة عند اقتراب أي خطر.
ربما لا نستطيع أن نجزم تمامًا عمر هذه المستعمرة التي تسمّى “إسرائيل”، لكن ما نستطيع أن نجزم به حقًّا هو أنه إذا كانت الدولة، بعد 74 عامًا من تأسيسها، لا تزال خائفة على وجودها، وتقاتل كل 5 سنوات تقريبًا فقط لتضمن بقاءها، ناهيك عن تحقيق الأمان الموعود لمواطنيها، وإذا استمرت في تذكير مواطنيها بهويتهم الجماعية الحاسمة أو “العصبية”، فإن هذه الدولة تواجه حتمًا مشكلة حقيقية.