يعتقد البعض أنه أصبح من الصعب إطلاق كلمة “علمانية” على نظام حكم الجمهورية التركية الحالية، رغم أن الدستور التركي يقر بعلمانية الدولة، ففي تاريخ 23 من ديسمبر عام 1876 أقرت الإمبراطورية العثمانية باستناد الدولة وقوانينها ومواطنيها على الشريعة الإسلامية في المادة 11 من الدستور العثماني الأول، وفي الدساتير الأربع التي مر بها نظام الحكم في تركيا لم يحتوي الدستور عام 1921 على أي قوانين تتعلق بالديانة.
وعند قيام الجمهورية التركية عام 1923 أقر القانون بأن الدولة التركية دينية ودينها الإسلام وذلك عام 1928، وحتى عام 1937 الذي أقر فيه مصطفى كمال أتاتورك بعلمانية الدولة، إلا أن المبادئ العلمانية تمر بحالة ضبابية في الوقت الذي يحكم فيه رجب طيب أردوغان.
خلال السنوات الأخيرة، وبعد سلسلة طويلة من الخلافات الأيديولوجية بين حزب المحافظين والكمالين يمكن ملاحظة التغيرات التي أدخلها حزب العدالة والتنمية على عدة مجالات في الدولة، وأبرزها كان السماح بارتداء الحجاب داخل المؤسسات الحكومية العامة والدعوة بشكل مستمر للاقتداء بالخلفاء العثمانيين المسلمين وغيرها.
الزواج بين علمانية الدستور وإسلامية الحكم المحافظ
في نهاية شهر تموز الماضي أثير خلاف جديد بين الجمهوريين ومؤسسات المجتمع المدني والمحافظين بسبب مسودة قانونية لم يعرض نصها للآن وقُدِمت هذه المسودة للبرلمان التركي بشأن تعديل القانون الذي يحصر صلاحية تسجيل عقد الزواج في البلديات التركية فقط أو من خلال بعض المخاتير، وطالبت بإعطاء هذه الصلاحية لموظفي مديرية الشؤون الدينية “المفتيين”، وهذا القانون ألغي منذ ستينيات القرن التاسع عشر من قبل السلطات العثمانية التي أمرت بضرورة تسجيل عقود الزواج في البلديات واستثنت القضاء الإسلامي أو الجهات الدينية من هذه الصلاحية.
وبفضل هذه الميزة التي تمنح رجال الدين السلطة، سيتحول الزواج المدني في تركيا إلى زواج شرعي، وهذا بالفعل عكس ما كان أتاتورك يحاول القيام به وهو تجريد المؤسسات الدينية من أي قوة أو سلطة، ونتيجة لهذه المسودة أثيرت حفيظة العلمانيين الذين اعتبروا هذا التعديل تعديًا على مبادئ العلمانية الأتاتوركية، إضافة إلى منظمات المجتمع المدني التي تقول أن لهذه التعديلات “مخاطر” على حقوق المرأة والطفل.
القانون الجديد يهدف إلى تسريع وتنظيم معاملات الزواج ولا يجبر أي شخص على تسجيل زواجه في المؤسسة الدينية وإنما يتيح الخيارات أمام الجميع
يتخوف المعارضون من هذه المسودة القانونية التي طرحت على برلمان أغلب مقاعده لأعضاء حزب التنمية والعدالة والذين يميلون إلى الأفكار الدينية، كما أنهم يتخوفون من النص الذي صيغت به هذه المسودة ولم تعرض بعد، إضافة إلى اعتقادهم بأن وظيفة المفتي تقتصر على مهمة واحد فقط وهي البحث والإفتاء في المسائل الدينية وليس القانونية التي هي من شأن موظفي البلديات.
أما بالنسبة إلى منظمات المجتمع المدني، فتقول إن هذا الإجراء القانوني هو التمهيد الأول للكثير من التعديلات القانونية المستقبلية والمتعلقة بقانون الزواج والتي يمكن أن تغير المواد المتعلقة بالسن القانونية للزواج أو بقانون تعدد الزوجات الذي يمنعه الدستور التركي ولا يعترف به إطلاقًا.
وردًا على هذه الاحتجاجات قال نائب رئيس الوزراء بكير بوزداغ: “هذا التغيير لا يتعارض مع مبادئ العلمانية، على العكس هو بالضبط مبدأ العلمانية”، كما أضاف أن هذا القانون الجديد يهدف إلى تسريع وتنظيم معاملات الزواج ولا يجبر أي شخص على تسجيل زواجه في المؤسسة الدينية وإنما يتيح الخيارات أمام الجميع.
واجهت الحكومة التركية نفس الاتهامات بتحويل المجتمع التركي إلى قطاعات وفئات مختلفة عندما سمحت بالحجاب
وعارض بوزداغ الذين يقولون بإن هذا التعديل الجديد يهدف إلى التشجيع على الزواج المبكر وتعدد الزوجات، مؤكداً أن هذه الأصوات تحاول أن تشوه القرارات البرلمانية التي تهدف للحفاظ على الحقوق وتقديم التسهيلات الكاملة، مشيرًا إلى أنهم يقولون إن المجتمع سينقسم إلى فئتين الأولى تحت مظلة “المتزوجون في البلديات” والآخرون هم “المتزوجون بالطريقة الدينية”.
وهذه التقسيمات ليس لها أي أثر سلبي على المجتمع، فمن قبل واجهت الحكومة التركية نفس الاتهامات بتحويل المجتمع التركي إلى قطاعات وفئات مختلفة عندما سمحت بالحجاب، لكن هذا لم يحدث ولم يكن هناك انشقاقًا أو انقسامًا داخليًا بين أفراد المجتمع.
كما دعا بوزداغ إلى عدم الانسياق والانحياز نحو أيديولوجيات قديمة لا تليق بالخلفية الثقافية للمجتمع التركي وخاصة أن القانون الأعلى في الدولة هو الديمقراطية.
ما الذي يقلق في هذه التعديلات القانونية؟
في مقابلة على السي إن إن التركية أجاب مساعد النائب في حزب العدالة والتنمية سيلجوك أوزداغ عن سؤال: هل فعلًا يوجد ضرورة أو حاجة لمثل هذه التعديلات القانونية؟، قائلاً: “في العالم الغربي الجميع يتزوجون في الكنيسة ولا يسجلون عقد زواجهم في مكان آخر، وإن كان الاعتراض الأكبر بسبب المفتيين فينبغي أن ننظر إليهم وإلى مهماتهم بطريقة مختلفة”.
وأضاف أوزداغ : ولإجابة المعارضين، لماذا نرغب بتوجيه هذه الصلاحية للمفتيين الشرعيين، لأنهم جزء من الدولة التركية العلمانية والقانونية ولأنهم كانوا جزءًا من إمبراطورتينا العثمانية وعددهم لا يقل عن 100 ألف رجل ديني داعٍ ومفتي وواعظ، ونحن بدورنا نكن لهم الاحترام الكامل، لذلك لمن يرغب بالزواج المدني فليتزوج من خلاله، ومن يرغب بالزواج الديني فله الخيار الكامل، وكلاهما يطبقان المراسم الإسلامية وشروطها”. وأكمل: “لا داعي للقلق من هذا القانون، خاصة أن هذا الإجراء سيحل المشكلات والعقبات التي يواجها بعض الأشخاص في القرى والمناطق الريفية وللجميع الخيار”.
معارضون: هذا التعديل يمس حقوق المرأة خاصة أن النساء يشكلن 14% فقط من أعضاء البرلمان وعند إصدار هذه القوانين فإنه من العدالة أن تكون المرأة مشاركة بهذا القرار، لا أن تملى عليها القرارات التي يتخذها الرجال كما تجري العادة
أما الباحثة الحقوقية اليفن تتارأوغلو والتي تعتبر أحد المعارضين لهذا القرار، قالت في المقابلة نفسها على قناة سي إن إن: “من أين ظهرت هذه الحاجة لتشريع تسجيل الزواج عند المفتي؟ خاصة لعدم وجود أي حاجة ملحة أو ضرورة لهذه التعديلات، وهذا ما أثار القلق بالمقام الأول لدينا، إضافة إلى إهمال المسائل الأكثر الأهمية كالبطالة ونظام التعليم ومستقبل الشباب وتجاهل المشكلات التي تعيشها تركيا بعد الانقلاب من إرهاب وتوترات مع الدولة المجاورة، بجانب المشكلات الاقتصادية الجادة التي تمر بها البلاد، إلا أننا نتجه لأمور لا لزوم لها ومع وجود ارتفاع في نسب الزواج المبكر في مناطق الأناضول التي سيكون فيها المفتون عبارة عن وساطة لزواج القاصرات”، وتكرر سؤالها “من أي أتت هذه التعديلات”؟
كما تضيف الحقوقية تتارأوغلو أن هذا التعديل :يمس حقوق المرأة خاصة أن النساء يشكلن 14% فقط من أعضاء البرلمان وعند إصدار هذه القوانين فإنه من العدالة أن تكون المرأة مشاركة بهذا القرار، لا أن تملى عليها القرارات التي يتخذها الرجال كما تجري العادة”.
وتنهي أوغلو حديثها بالسؤال الأهم والأكثر وضوحًا على حد تعبيرها وهو: “لماذا يمنح المفتون هذه الصلاحية إن لم يكن هناك أي نقص أو حاجة لموظفي تسجيل الزواج في تركيا؟”.
وتعليقًا على هذا الخلاف الذي تناقلته وكالات الأخبار، قال البروفيسور والباحث الحقوقي إرسان شين إن “القانون المدني لا يمنع الزواج بالمؤسسات الدينية بل يدعمه ولكنه لا يجبر عليه ولا يبطل الزواج إن كان على الطريقة المدنية”.
لا يمكن قبول هذا النوع من الزواج إلا بوجود معاملات الزواج المدني المسجل رسميًا لدي الدولة وهذا وفقًا للقانون المدني
أما الأكاديمي والحقوقي بهاردر أرديم يقول إن “القانون المدني في تركيا يقبل الزواج الرسمي المسجل في البلديات، أما الأشخاص الذين لديهم عقائد معينة ويميلون إلى تنفيذ الأحكام الدينية فيمكنهم عقد الزواج عند الإمام الشرعي، لكن لا يمكن قبول هذا النوع من الزواج إلا بوجود معاملات الزواج المدني المسجل رسميًا لدي الدولة وهذا وفقًا للقانون المدني، مع العلم أنه لا يوجد أي غرامة على من يسجلوا زواجهم بواسطة الإمام الشرعي”.
ويتابع أرديم حديثه “يجب علينا تذكر أن مشكلة زواج القاصرات في تركيا والتي تحدث في المناطق الريفية المسؤول عنها الإمام الذي يقر بشرعية زواجهم رغم صغر سن الفتاة أو الشاب”.
وأشار أرديم في نهاية الحديث وبحسب تعبيره إلى ما أسماه “عدم التهاون بهذا القرار لأن المفتي الذي يعمل بخلفية دينية بحتة ويعتمد في مهمته على الشريعة الإسلامية، سيسمح حتى بتعدد الزوجات ليحصل كل رجل على أربع نساء دون موانع أو عقوبات قانونية، إضافة إلى وجود الكثير من المسيحيين والأرمن وما يقارب 16 ألف يهودي سيرغبون فيما بعد بتسجيل عقود زواجهم عند البابا أو الحاخامات كما سمحنا للمسلمين بعقد القران عند المفتي”.