سنحاول تفكيك بعض الخرافات التي يتم التعامل معها على نطاق واسع باعتبارها حقائق بشأن عقل الإنسان وإنتاجيته في العملية التعليمية تحديدًا، وما تسببه برامج قياس قدرات العقل – وإن كان بشكل غير مباشر – من التفرقة بين البشر بسبب أفكار وهمية ومغلوطة، كخرافة استخدام 10% فقط من الدماغ أو أن البعض هم قوم الجزء العقلي الأيسر وآخرون أهل الجزء العقلي الأيمن، وصولًا إلى إدخال هذه الخرافات للتربح والدعاية للاستفادة من خداع الناس عبر الادعاء برفع كفاءة أدمغتهم.
الخرافة الأولى: لديك 10% من دماغك واشتر الباقي!
ليس معلومًا بالضبط مصدر خرافة الـ10% من الدماغ التي نستخدمها فقط أو كيف حُرفت فكرة وليام جيمس رائد علم النفس الأمريكي والذي تحدث عن القدرات الفكرية غير المُطورة ولكنه لم يذكر مقدار محدد من الدماغ، ولكن هذه الخرافة أسفرت عن نمو ورواج في سوق برامج التدريب العقلي الرامية إلى إطلاق طاقات الدماغ في غياب تام لأي أدلة تدعم هذه الفكرة.
وتبقى هذه الخرافة ذات فائدة تجارية، ففي العام 1999 قامت شركة طيران بعمل دعاية لها تنص على “إنك تستخدم 10% فقط من عقلك، معنا يمكنك استخدام المزيد”.
نظرية التطور كانت ستفرض تكاثرًا انتقائيًا يفضي إلى جحم أصغر للدماغ والرأس نتيجة عدم استخدامها بشكل كامل، وهذا ما لم يحدث
ويذكر كوري نريد & مايك أندرسون في مقالة تحت عنوان “الخرافات العصبية في التعليم” ملخصًا لبعض الأدلة الداحضة لهذه الفكرة:
– الخرائط الدماغية تشير إلى عدم وجود مناطق لا وظيفة لها في الأدمغة الطبيعية، حتى ونحن نيام يثبت التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي أن ثمة نشاط يحدث في أدمغتنا، فلا يحدث توقف في أي جزء في الدماغ إلا عند التعرض لإصابات أو أمراض شديدة في هذا الجزء النشط.
– عندما شُرّحت جثث ذات أدمغة سليمة لم يتم العثور على أماكن بها ضمور تثبت فرضية أن هناك أجزاء من الدماغ توقفت عن العمل في أثناء الحياة، فهناك مبدأ أن العضو الذي لا يعمل في جسد الإنسان يضمر، وإذا كنا نستخدم فقط 10% من أدمغتنا لا بد أن يضمر الجزء الباقي وهذا ما لم يحدث.
– إن نظرية التطور كانت ستفرض تكاثرًا انتقائيًا يفضي إلى جحم أصغر للدماغ والرأس نتيجة عدم استخدامها بشكل كامل وهذا ما لم يحدث.
الخرافة الثانية: أنت فص يمين ولا شمال
تفترض تلك الخرافة أن البشر مقسمون حسب جانبي الدماغ، فالبشر الذين يستخدمون النصف الأيسر من الدماغ لديهم قدرة أكبر في المهام التحليلية والتفكير القائم على اللغة، بينما أهل النصف الأيمن بارعون في الرياضيات والفن.
وهدف الترويج لمثل هذه الخرافة هو الربح مثل كتاب “الرسم على الجانب الأيمن من المخ” الذي حقق مبيعات أكثر من 2.5 مليون نسخة، حيث تشجع مؤلفة الكتاب بيتي إدواردز قراءها على إطلاق العنان لقدراتهم الفنية عن طريق قمع النصف “التحليلي” الأيسر من أدمغتهم!
لكن ثمة أدلة دامغة على التكامل بين الوظائف المعتمدة على جانبي الدماغ في كل المهام اليومية، وأن اللغة والمعلومات يمكن معالجتها بشكل متزامن من قبل فصي الدماغ، ولم يتفق أبدًا المتخصصون في علم الأعصاب الحديث مع مدربي تنشيط المخ، فأوجه الاختلاف بين جانبي المخ أقل بكثير مما يشير إليه مروجي خرافة “سطوة أحد النصفين على الآخر” التي تندرج ضمن مفاهيم علم النفس الشعبي، فإذا أخذنا كل الحقائق بعين الاعتبار فسنجد أن أوجه التشابه بين وظائف نصفي المخ أكثر من أوجه الاختلاف.
وتوصلت مجموعة من الخبراء شكلتها الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم إلى أنه لا يوجد أي دليل مباشر على أن الاستفادة من أوجه الاختلاف ما بين نصفي المخ يمكن أن تُكتسب بالمران، وانتهت مجموعة الخبراء إلى أن التدريب السلوكي قد يعزز أنماط التعلم المختلفة أو طرق حل المشكلات، ولكن تلك التحسينات لا تأتي نتيجة اختلاف وظائف نصفي المخ.
مخ الإنسان يركن دائمًا إلى التبسيط فلن نجد أبدًا طفلًا يحب أن يكون فيلسوفًا في عمر الرابعة أو طبيبًا للأسنان بعد خلع أحد ضروسه!
ومن ثم فإن التدخل الذي يستهدف نصف كروي للدماغ دون الآخر يصعب بل يستحيل تحقيقه (إلا في حالات المرض أو إصابة أحد الجزئين).
الخرافة الثالثة: الأنشطة البدنية والذهنية تجعلك أذكى
في العقد الماضي تم استهداف نشاط الدماغ وربطه بنشاط الجسد، وكان الداعم الأكبر لهذه الفكرة برنامج “Dore “، وكثرت الادعاءات أن الأنشطة الحركية تعمل على تفعيل التكامل بين التخصصات الوظيفية لنصفي الدماغ وتحسن من القراءة والتعلم، وقامت مثل هذه البرامج على فرضية أن الحركة تزيد من كفاءة المخيخ المسؤول عن التعلم، إلا أنه لا وجود لأي أدلة علمية على أن المخيخ يُنمى بأي أنشطة حركية وتدريبات بدنية، و”ستيفن هوكينغ” مثال يدحض هذه الخرافة عن نشاط المخ والحركة الجسدية فالعالم لا يملك أي نشاط جسدي إلا أن عقله يعمل بكفاءة عالية مما ينفي خرافة أن العقل السليم في الجسم السليم.
أما الأنشطة الذهنية والتي يعول عليها من قبل المدارس وأولياء الأمور في رفع الكفاءة العقلية للأطفال تحديدًا وخصوصًا في العملية التعليمية، وإنفاق الكثير من الأموال على مثل هذه البرامج التي لم تثبت أي نجاح، حيث أجرت هيئة الإذاعة البرطانية BBC دراسة على أكثر من 8.600 شخص أعمارهم بين 18- 60 للعب ألعاب للعقل تهدف إلى تحسين الذاكرة ومهارات التفكير لمدة 10 دقائق يوميًّا و3 مرات في الأسبوع.
وأظهرت الدراسة بالنهاية بعد 6 أسابيع عدم حدوث أي تحسن في الذاكرة ومهارات التفكير لدى الأشخاص.
وجه الـIQ الآخر
دعونا نفترض أننا نمتلك تعليمًا في الوطن العربي من الأساس ونحدد ما الضرر الذي سيقع على المتعلم من عملية تنميطه تبعًا للخرافات التي ذكرناها، لو قررنا أن يدرس كل طفل تبعًا لتنميط وهمي افترضناه بسبب عدة اختبارات غير علمية وغرضها ربحي، على ماذا سنحصل؟ على جيل منقسم وأحادي التفكير ومنغلق على نفسه، فأهل الفص الشمال لا يستطيعون التفكير بشكل سليم في الجانب الرياضي، وأهل الفص الأيمن يعانون من فهم ما يدور حولهم بشكل تحليلي.
يقترح الباحثون إعطاء كل أنماط التعليم للطفل لمنع سقوطه في دوامة الملل من نمط تعليمه حتى وإن كان المفضل، وهذا ما يسمى “الاحتكاك البناء“، حيث ينمو المخ وينفتح على مختلف الاتجاهات ويعي ويدرك كل متغيرات عصره سواء كانت تحليلية أو رياضية، ولا يتم حصره بخرافة خلف نمط معين من التعليم يشبه زنزانة فكرية لا يستطيع تجاوزها، لأن أي فكر مختلف يعتبر خارج حدود إمكانياته.
تبدو برامج التقييم العقلي في ظاهرها في مصلحة الناس إلا أنها عكس هذا، فهي ترسم عالم ملامحه تشبه عالم ألدوس هيكسلي حيث هناك يد خفية تريد تنميطنا كبشر بصفات معينة لا نخرج عنها
مخ الإنسان يركن دائمًا إلى التبسيط فلن نجد أبدًا طفلًا يحب أن يكون فيلسوفًا في عمر الرابعة أو طبيبًا للأسنان بعد خلع أحد ضروسه!
إذا تم التفكير بشكل نقدي في نظام تنميط العقول أو تحديد القدرات العقلية مهما اختلف المسمى سنجد جانبًا سلبيًا كبيرًا من تسكين الأفراد في قوالب معدة سلفًا، قد يكون هذا لتسهيل السيطرة عليهم عبر تصنيفهم إلى طبقات، ولكل طبقة سلطاتها ومحرماتها التي لا يمكن تجاوزها، وبالتالي قد تنشأ دائمًا طبقة حاكمة بأفكار ثابتة تستعبد طبقات أخرى لم يتيح لها نظام التنميط العبور إلى فهم أفكار الطبقة الأخرى.
وهذا ما دفع “ريتشارد سينيت كاتب وعالم اجتماع أمريكي للقول إن تضخيم فروق صغيرة إلى درجة جعلها تبدو كاختلافات كبرى هو في الحقيقة تقنين لنظام الامتيازات، فالفروق الفردية في القدرات ليست الحقيقة الأهم عن الجنس البشري، بل الأهم منها الإيمان بأن كل فرد منا يمتلك قدرة على القيام بعمل جيد وقتما أتيحت له الفرصة.
IQ النهاية
تبدو برامج التقييم العقلي في ظاهرها في مصلحة الناس، إلا أنها عكس هذا فهي ترسم عالم ملامحه تشبه عالم ألدوس هيكسلي، حيث هناك يد خفية تريد تنميطنا كبشر بصفات معينة لا نخرج عنها، وخصوصًا أن غالبية مثل هذه البرامج الفكرية متعلقة بالأطفال ويمكنها بناء جيل جديد على قواعد ذهنية مشوشة ومعيبة، قد تؤدي إلى خلق مجتمع عبودي جديد لفئة صغيرة متحكمة بالمال والقرار السياسي، وفرض هذا الواقع الاجتماعي على الناس وتقديمه على أساس أنه بديهية لا يمكن الخروج عنها بسبب قصور قدراتهم العقلية.