ترجمة وتحرير: نون بوست
الصمت يصم الآذان. مع احتدام الأزمة الإنسانية في فلسطين، ينهار نظام الرعاية الصحية، ويستمر استهداف المتخصصين في الرعاية الصحية، لا تزال المؤسسات البحثية الطبية والصحية في الولايات المتحدة صامتة بشكل لم يسبق له مثيل. رفض هذه المؤسسات الاعتراف بالأزمة الإنسانية، والانتهاك العلني للقانون الإنساني الدولي، والاستهداف المتعمّد للعاملين في مجال الرعاية الصحية في الخطوط الأمامية، مثيرٌ للاستياء، وهذا أقل ما يمكن قوله.
يتجاهل من في السلطة باستمرار جرائم الحرب المرتكبة ضد الأطباء، الذين تلقى الكثير منهم تدريبًا في المؤسسات الطبية الأمريكية، التي اختارت التزام الصمت – وهي خيانة عظمى. خلال 109 أيام منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، نجحت الجامعات في جميع أنحاء البلاد في تنفير مجتمعاتها العربية والفلسطينية والمسلمة والمتحالفة معها من خلال صمتها ورفضها الاعتراف بالفظائع المتصاعدة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. خُنقت أصوات الطلاب بشكل نشط مع استمرار العديد من المؤسسات البحثية الطبية والصحية في رفض الاعتراف بالأزمة الإنسانية، مشيرة في كثير من الأحيان إلى مخاوف من الانتقام المفترض. عندما تم وضع الإبادة الجماعية المرتكبة ضد الفلسطينيين في سياقها، تعرّضت القيم الأخلاقية والمعنوية التي تم التبشير بها خلال التعليم الطبي للتجاهل.
في غضون أسبوع بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أرسل الرئيس كينيث دبليو فريمان من كلية الطب بجامعة بوسطن بريدًا إلكترونيًا يقول: “إننا نشعر بالفزع وندين الهجوم… على إسرائيل”. شعر عميد جامعة تافتس بأنه مضطر إلى التصريح بأن “الأحداث التي خرجت إلى النور همجية” بعد وقت قصير من السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. وأصدر مكتب مستشار جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس رسالة بالبريد الإلكتروني إلى طلابه والمقيمين وأعضاء هيئة التدريس يقول فيها صراحة إن ما حدث يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر “هجوم حقير شمل قتل أطفال وشيوخ”، وأن مؤسسته “تنضم إلى قيادة اتحاد النقابات في إدانة هذا الهجوم”.
مع ذلك، مازالت كل هذه المؤسسات وغيرها تلتزم الصمت الآن. لماذا لا تتكاتف مؤسساتنا وتدين الكارثة الإنسانية التي لحقت بالشعب الفلسطيني منذ 109 أيام؟
بحلول العاشر من كانون الأول/ ديسمبر، أكد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس غيبريسوس وقوع أكثر من 449 هجوما على مرافق الرعاية الصحية. ووفقًا لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، اعتبارًا من 16 كانون الأول/ ديسمبر 2023، لا تزال ثمانية مستشفيات فقط من أصل 36 في قطاع غزة تعمل جزئيًا بسبب القصف الإسرائيلي. وكشف الأمين العام للأمم المتحدة أنه حتى 15 كانون الثاني/يناير 2024، قُتل 152 موظفًا في الأمم المتحدة.
في 15 كانون الثاني/ يناير، دمّرت غارة جوية محيط مجمع ناصر الطبي في خان يونس بينما توغّلت الدبابات الإسرائيلية في المنطقة المحيطة، مما عرّض حياة المرضى والعاملين في مجال الرعاية الصحية للخطر. وأفادت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني بأن قوات الاحتلال الإسرائيلي حاصرت مقر سيارات الإسعاف التابعة لها في خان يونس في 22 كانون الثاني/ يناير، ومنعتها من الوصول إلى المدنيين المصابين.
اقتحمت قوات الاحتلال مستشفى الخير واعتقلت الطاقم الطبي، مما أجبر الرجال والنساء والأطفال الذين يحتمون في مستشفى ناصر الطبي ومستشفى الخير على الإخلاء والفرار وسط إطلاق نار كثيف. أفاد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان بأنه استُهدف ما لا يقل عن 657 من العاملين في مجال الرعاية الصحية، من بينهم 301 حالة وفاة، في حين دُمّر 208 مرافق طبية، بما في ذلك سيارات الإسعاف، ناهيك عن مقتل 115 صحفيًا. وكل يوم، تتزايد هذه الأرقام مع استمرار سقوط القنابل.
أصدرت منظمة أطباء بلا حدود بيانات تناشد فيها العالم للدعوة إلى وقف إطلاق النار لإنقاذ المدنيين الأبرياء والعاملين في مجال الرعاية الصحية الذين يخاطرون بحياتهم على خط المواجهة. في هذا السياق، صرحت أفريل بينوا، المديرة التنفيذية لمنظمة أطباء بلا حدود في الولايات المتحدة الأمريكية: “نحن أيضًا حركة دولية تتكون من أشخاص من أكثر من 169 جنسية يعملون في أكثر من 70 دولة. العديد من موظفينا… لديهم أصدقاء وعائلات وأحباء في إسرائيل أو غزة أو كليهما”.
أثار قصف المرافق الطبية جدلا في جميع أنحاء العالم. في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر، أكّدت قناة الجزيرة أن “القوات الإسرائيلية شنّت غارة عسكرية واسعة النطاق” على مستشفى الشفاء الواقع في غزة، مما أدى إلى تدمير الإمدادات الطبية الثمينة. وفي غضون 24 ساعة، نشرت قناة الجزيرة تحديثًا من منظمة أطباء بلا حدود يشرح بالتفصيل الحصار العسكري على المستشفيات، بما في ذلك مستشفى خليل سليمان في جنين، والجهود المستمرة لمنع سيارات الإسعاف من الوصول إلى المستشفيات المعنية من قبل الجنود الإسرائيليين.
من المفارقات أنه في أعقاب تصاعد الأزمة الإنسانية في غزة، صمتت المؤسسات الطبيّة، بل وذهب بعضها إلى أبعد من ذلك بإسكات أصوات أعضائها. في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر، علّقت جامعة كولومبيا فصول كل من “طلاب من أجل العدالة في فلسطين” و”الصوت اليهودي من أجل السلام”، وهو انتهاك لحرية التعبير واستجابة وقحة للطلاب الذين يوصلون أصوات نداءات الاستغاثة لزملائهم العاملين في المجال الإنساني.
حاولت رئيسة كلية سان أنطونيو، نادين غونزاليس دي خيسوس، إجبار إدارتها على إلغاء سلسلة دروس تعليمية لفلسطين كان الطلاب قد خططوا لإقامتها في 24 تشرين الأول/ أكتوبر. وقد رفض نائب الرئيس ما يقارب 200 شخص في يوم الحدث بدعوى أن عنوان “التعليم من أجل فلسطين” أثار انزعاجا لدى بعض الطلاب. لقد تجاهلوا حقوق مجتمعاتهم العربية والإسلامية واليهودية من خلال انتهاك سياسة أنشطتهم التعبيرية.
في 10 تشرين الثاني/نوفمبر، أغلق العميد ريموند كاري والعميد كاثلين كاشيما من كلية الطب بجامعة إلينوي العديد من قنوات سلاك بشكل دائم والتي كانت بمثابة منصات رسائل يستخدمها الطلاب لرفع مستوى الوعي حول الإبادة الجماعية المستمرة في فلسطين – وهو انتهاك صارخ لحقوق الطلاب.
في الأول من كانون الأول/ديسمبر، اضطرت “مجموعة العدالة من أجل فلسطين” في جامعة نيويورك في فلسطين إلى نقل حدث التدريس خارج الحرم الجامعي بعد أن بدأت منظمة طلاب يدعمون إسرائيل حملة تشهير ضد الحدث وتعرضت للتهديد باتخاذ إجراءات تأديبية من قبل حرم السلامة والحياة الجامعية بجامعة نيويورك. ومن الواضح أن الرقابة لا تزال متأصلة بعمق في المؤسسات الأمريكية.
إن النفاق العميق ليس متجذرًا في مؤسسات الرعاية الصحية فحسب، بل في أسس الطب الأمريكي نفسه. في نيسان/أبريل من سنة 2022، ردّ الرئيس السابق للجمعية الطبية الأمريكية، الدكتور جيرالد هارمون، على الحرب الأوكرانية الروسية، مشيرًا إلى أن الجمعية تدعو إلى “وقف فوري لإطلاق النار وإنهاء جميع الهجمات على العاملين في مجال الرعاية الصحية ومرافقها”، وأن “استهداف المدنيين والرعاية الصحية أمر غير معقول”. مع ذلك، عندما يتعلق الأمر بالمدنيين الفلسطينيين، أصبح ما هو غير معقول مبررًا.
في آذار/ مارس 2022، منحت الجمعية الطبية الأمريكية 100 ألف دولار أمريكي للهيئة الطبية الدولية ومنظمة القلب إلى القلب الدولية “لدعم جهودهم في معالجة الأزمة الإنسانية للمواطنين في أوكرانيا”. انضمت الجمعية الطبية الأمريكية إلى أطبائها في تقديم الدعم والمساعدة للأزمة الإنسانية في أوكرانيا واعترفت علنًا بوحشية استهداف مرافق الرعاية الصحية. أين هذا الاعتراف والوحدة والدعم الآن؟ فيما يتعلق بالإبادة الجماعية في غزة، من المخيب للآمال أن نرى أن هذا الدعم الطبي مشروط.
في السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر، أوقفت الجمعية الطبية الأمريكية دعوة أعضائها لوقف إطلاق النار، الأمر الذي من شأنه أن يوقف الهجمات ضد المستشفيات والعاملين في مجال الرعاية الصحية. ومع نفاد الوقود والأدوية والكهرباء في المستشفيات، اضطر الأطباء في المرافق المحاصرة في غزة إلى اللجوء إلى إجراء العمليات الجراحية وبتر الأطراف، في أغلب الأحيان للأطفال، على أضواء الهاتف، ودون تخدير.
وبغض النظر عن ذلك، حرم رئيس مجلس المندوبين في الجمعية الطبية الأمريكية المندوبين من 90 ثانية كاملة للتحدث عن القرار. تعتبر هذه محاولة سافرة لإسكات أولئك الذين يتبنون القيم التي قامت عليها الجمعية الطبية الأمريكية. وهذا استهزاء بالديمقراطية ورفض لبعض الأطباء الأكثر نفوذاً في العالم التمسك بالواجب الأساسي المتمثل في حماية الحياة البشرية وتقديرها. ينحدر العاملون الصحيون في فلسطين من جميع أنحاء العالم. لماذا حُكم عليهم بالإعدام بالعمل في مثل هذا المكان؟
في نهاية المطاف، يُترك الطلاب والعاملون في مجال الرعاية الصحية على حد سواء يتساءلون ما الذي يجعل حياتهم أقل قيمة بكثير عندما ترفض مؤسساتهم الصحية الاعتراف بوجود أزمة إنسانية بينما يصرخ بقية العالم ويتوسل. ما الذي يجعل آراءهم أقل قوة؟ ما الذي يجعلهم أقل إنسانية؟ ماذا حدث لشعار دون أية أضرار؟ متى أصبحت الدعوة إلى وقف إطلاق النار مثيرة للجدل؟ هل نحن سلبيون لدرجة أننا نفضل أن نسلك الطريق الأقل مقاومة؟
لا يمثل قادة مؤسساتنا البحثية الطبية والصحية مجتمعاتهم. ومن خلال أفعالهم، فشِل هؤلاء القادة في الحفاظ على قيم قسَم أبقراط. الرعاية الصحية حق من حقوق الإنسان غير المشروطة. لقد حان الوقت لمحاسبة قادتنا على أدوارهم في استمرار المذابح التي يمكن منعها والتي تُرتكب ضد أرواح الأبرياء. لقد حان الوقت للقادة أن يتبعوا الجماهير، التي تدعم بأغلبية ساحقة حقوق الإنسان بشكل غير مشروط والوقف الفوري والدائم لإطلاق النار. بالنيابة عن طلاب الرعاية الصحية في جميع أنحاء البلاد، وبالنيابة عن المعالجين على الخطوط الأمامية، وبالنيابة عن الأبرياء الذين يبحثون عن ملجأ في الأيدي الشافية – نحن ندعو إلى وقف دائم لإطلاق النار الآن.
المصدر: موندويس