مرّت 113 يومًا، لكننا معشر الغزيين النازحون، لم نعتد تفاصيل الحياة في ظل هذه الحرب الإسرائيلية الوحشية علينا، الأيام لا تشبه بعضها، اليوم أقسى من أي يوم مضى، أصوات القصف ومشاهد التدمير والقتل تفزعنا، وجميع من حولي هنا يقاوم اعتياد هذه الحياة، وظروفنا أقسى بكثير من أن تنقلها كاميرا أو تعبّر عنها كلمات.
طيلة سنوات احتلال الأراضي الفلسطينية، مارس الاحتلال شتى أنواع القمع والتنكيل بالفلسطينيين، لكن الإبادة الجماعية الأخيرة على غزة، لم يسبقها مثيل، فمن لم يقتله القصف قتله القنص، أو الإعدام، أو حتى الجوع، نعم الجوع وهذه ليست بروباغندا لاستعطاف الرأي العام، فالناس هنا تموت جوعًا، وعشرات الآلاف لا يجدون ما يأكلون في ظل منهجية التجويع التي يتبعها الاحتلال الإسرائيلي، وباتت الأسواق خالية خاوية والسلع معدومة، على أننا متمسكون بالحياة ونحاول اختراع الأكل من جديد.
في المنطقة الوسطى قرب مدينة الزهرة، ينزح في بيت متواضع نحو 30 شخصًا غالبيتهم من الصغار الذين رحلوا قسرًا من شمال القطاع رفقة ذويهم، في كثير من الأحيان تنقطع بهم السبل ولا يستطع الكبار التسوق لشدة القصف أو لوجود قناصة إسرائيليين في طريقهم أو لتحليق طائرات “كواد كابتر” التي تقنص المارين.
غامرت السيدة الخمسينية سميرة، معلمة، وخرجت تبحث حول البيت عن أي عشبة خضراء لتصنع لأحفادها الطعام، حتى وجدت الخبيزة – نبتة برية خضراء تشبه السلق والسبانخ -، فصنعت منها أصنافًا كثيرةً وأضافتها إلى أكلات أخرى.
تقول: “أحاول تدبر الأمر لسد رمق الصغار، وأفكر في صناعة أكلات محببة لهم مع إضافة بعض التوابل المتوافرة، قبل الحرب اعتاد الأطفال وحتى الكبار الأكلات السريعة، لكن في الحرب لا تتوافر الأكلات التي يحبون كالبرغر والبيتزا”، وتابعت “تجولت في الأراضي المحيطة، فوجدت الكثير من الأعشاب الخضراء التي أنقذتنا لأسبوعين وقت حصار المنطقة التي ننزح إليها”.
وتذكر أنها أعدت من عشبة الخبيزة أكلة السماقية الشعبية، فقد استبدلت السلق المكون الرئيس بالخبيزة، وأضافت الأخيرة إلى عجينة الفلافل بدلًا من البقدونس، وتتشارك مع الجارات القريبات من مكان النزوح تلك الوصفات لتسهل عليهن إعداد الطعام.
كما أعدت لأحفادها الصغار أقراص البرغر المكونة من معلبات اللحمة، وأضافت لها بعض التوابل المتوافرة والبرغل، فقد فرحت كثيرًا حين وجدت كتاب “فرحتنا بأكلاتنا” لإعداد طبخات موفرة وقت الحرب.
وكان عيدًا حين قررت بعد ثلاثة أشهر من الحرب أن تكون وجبة الغداء بطاطا مقلية وأقراص الفلافل، وقتها هلل الكبار قبل الصغار.
وبعدما كان كيلو الأرز الجيد يباع قبل الحرب بسعر لا يتجاوز 6 شواكل “أقل من دولارين”، وصل اليوم سعر الرديء منه والمتوافر لنحو 30 شيكلًا، وكذلك القمح والفريكة التي اعتمدت الأسر الغزية عليها وقت الحرب لمدة طويلة قبل ندرتها من الأسواق.
أما عن الدجاج واللحوم فهي شبه معدومة ولا تتوافر إلا في مناطق قليلة وبالحجز وبسعر غالٍ جدًا، فهذه هي الحرب الأولى التي يعيشها الغزي بحرمان متعمد من الأكل، بسبب الاحتلال الذي يمنع إدخال السلع الأساسية للقطاع.
وإن توافر الطعام وبسعر غالٍ في المنطقة الوسطى والجنوبية من قطاع غزة، فهو معدوم في غزة المدينة وشمالها، فهناك يمتلك المواطنون الذين بقوا في منازلهم المال، لكن لا توجد سلع، وحال توافرت فهي بأسعار خياليه، حيث يصل سعر كيس الطحين لـ200 دولار، بينما سعره في الأيام العادية لا يتجاوز 20 دولارًا، فهم لا يزالون يعتمدون في طعامهم على ما اشتروه بداية الحرب من معلبات وأرز وصلصة.
ولا يخفى على أحد ما وصل إليه الغزيون في نكبتهم الثانية، فلا يجدون حرجًا في الاتصال بأصحاب بيوت النازحين للاستئذان والدخول إليها وأخذ ما فيها من طعام وحتى ملابس أو الإقامة فيها بعد قصف بيوتهم.
فرحة استلام الطحين يقنصها الاحتلال
في المنطقة الوسطى وصل سعر كيس الطحين بعد أسابيع قليلة من الحرب إلى 100 دولار، لكن حين أعلنت وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين “أونروا” تسجيل الجميع لاستلام أكياس الطحين، لم يتردد أحد، فكان الاستلام بالدور حسب عدد أفراد الأسرة.
كثيرًا ما كان طريق الاستلام محفوفًا بالمخاطر، كما جرى مع أبو محمود حين ذهب بصحبة ولديه لاستلام نصيبهم، فبمجرد أن وصلته رسالة نصية عبر هاتفه المحمول استأجر “عربة بحمار” – لا تتوفر المواصلات بفعل شح البنزين والسولار – وبعد دقائق قليلة أطلقت طائرة كواد كابتر الرصاص عليهم، فأصيب ولداه وكتب لهما النجاة، ليعودوا بعد أيام للاستلام، فكما يقول “بدنا نعيش، طالما توافر عنا الطحين لا يلزمنا شيء”، لا سيما في ظل ارتفاع أسعار الخضراوات الشحيحة والتي تقتصر على الخيار والبندورة والباذنجان.
يقاطعه الحديث ابنه الشاب محمود متهكمًا على ما وصلوا له “كل يومين أمي بتعجن ونصيب كل واحد منا رغيف في اليوم (..) أصبح الحصول على رغيفين يوميًا حلمًا كبيرًا، أصبحنا ندرك قيمة كل الأشياء التي كانت متوافرة بسهولة قبل الحرب”.
أما النساء اللواتي اعتدن حياة الرفاهية مقارنة بالجدات والأمهات، “دعكتهن” الحرب كما يصفن، فأصبحن من بعد صلاة الفجر يعجن ويخبزن الأرغفة باكرًا استغلالًا لحالة الهدوء النسبية التي تكون في ساعات الصباح، بينما يتقلد الرجال مهمة الخَبيز، فهم من صنعوا أفرانًا يدوية بأبسط الإمكانات المتوافرة، بالإضافة إلى جمعهن الحطب من الأماكن التي قصفت، لاستعمالها في طهو الطعام وإعداد الشاي والقهوة التي وصل سعر الكيلو منها إلى 100 شيكل – نحو 20 دولارًا -.
وغالبية الأطعمة التي يتناولها الغزيون فترة الحرب عبارة عن معلبات “لحمة وفول وحمص وفاصوليا وبازلاء”، فتلك زادهم اليومي دون تذمر، حيث يصنعون من تلك المعلبات التي وصلت مؤخرًا كمساعدات إغاثية، العديد من الأكلات التي تسد رمقهم اليومي.
يحكي أبو سمير النازح إلى المنطقة الوسطى وتحديدًا في النصيرات، أنه استلم كابونة إغاثية من إحدى الجهات المانحة فيها معلبات والقليل من بسكويت التمر والحلاوة الطحينية، وقتها كانت فرحة صغاره كبيرة، فقد هللوا وفرحوا كثيرًا وتقاسموها فيما بينهم، ففي السابق بالكاد كانوا يقبلون شراءها.
يذكر أن ابنه الكبير استبدل حبات من البسكويت من إحدى البسطات بأكياس الأندومي التي يشتهيها من بداية الحرب، مشيرًا إلى أنه موظف يتبع سلطة رام الله والراتب الذي حصل عليه قبل أكثر من شهر بالكاد يكفيه تسديد إيجار البيت الذي يسكنه بعدما نزح من مدينة غزة، عدا عن أنه يشعر بالخجل من متطلبات صغاره البسيطة التي أصبحت تباع بسعر غالٍ.
ووقت الحرب يمتنع الغزيون عند تواصلهم عن البوح بما هو متوافر من أطعمة، خشية أن يكون الطرف الثاني لا يوجد لديه شيء.
حفلات أعياد ميلاد وطرق جديدة لصناعة الكيك
يجلس الصغير أدم الذي لم يتجاوز الخمس سنوات في حضن أمه يقلب في صور هاتفها المحمول يقطع حديثها بكلمات يرددها دومًا “ماما اشتقت لألعابي، اشتقت لبيتنا، متى حنروح من هنا؟”، ولا إجابة لدى أمه إلا: “سنبني بيتًا أجمل ونشتري ألعابًا حديثة أكثر”.
تقول أم أدم ولديها 3 أبناء آخرين إنها محظوظة لوجودها في بيت شقيقتها التي تسكن في مدينة رفح، بعدما نزحت إليه من مخيم جباليا شمال القطاع في الأسابيع الأولى من الحرب، فهي تحمد الله أنها لم تعش في خيمة أو مركز إيواء وتحاول أن توفر لأبنائها احتياجاتهم قدر المستطاع.
وتضيف “في اليوم الأول من الحرب كان عيد ميلاد ابني زيد، والبقية كان موعدهم خلال شهور الحرب، صنعت لهم الكيك بما هو متوافر من مكونات، فاستغنيت عن البيض بالخل، وصنعت لهم البان كيك والدونات”، مؤكدة أنها لم تتناس وصغارها الدماء والمجازر التي تحدث، لكنها تحاول أن تعيش الحياة مع صغارها حتى لو كانت على وقع الصواريخ.
ويتمنى الأطفال، وكذا الكبار، في يوم ميلادهم أن تنتهي الحرب المجنونة عليهم ويعيشون الحياة التي يستحقونها.