مع تحيات الإكبار والتقدير لدولة جنوب إفريقيا التي فتحت ثغرة في جبل من صوان، وجب النزول إلى الأرض والنظر بواقعية مرة للوضع السياسي المحيط بغزة والذي لم تنج منه محكمة العدل الدولية في قرارها المتعلق بإدانة الكيان الصهيوني بجريمة الإبادة الجماعية.
لم يكن الأمر محتاجًا إلى محكمة أصلًا، فالجريمة تجري تحت أنظار العالم، ويكفي حساب عدد الشهداء الأطفال والنساء لتتكون أدلة الجريمة، لكن قوة القانون تلاشت أمام قانون القوة وصدر قرار خال من قوة الردع وأنى للمحكمة الخاضعة بدورها لمجلس الأمن وقوة الفيتو الأمريكية أن تتشاطر بقرار إدانة صريح قابل للتنفيذ على الأرض.
هذا يدعو كل ذي نظر إلى التفكير في الوضع الدولي الذي زرع الكيان وسقاه من الدم الفلسطيني والعربي لمدة قرن حتى صار خارج كل قانون وكل سلطة.
جريمة أبدية
الكيان في ذاته ومنذ ولادته جريمة في حق الإنسان وحتى في حق الحيوان، وجريمته لن تسقط بالتقادم، وهذه جملة تؤسس أو توضح حقًا لن يزول وإن عاكسته في هذا الزمن اشتراطات السياسة، لذلك فإن الأمل في تعديل الوضع السياسي الحاليّ بقوة محكمة هو من قبيل أمل الضعفاء المقهورين، وهو محمود لكن وجب تنسيبه.
وضع الضعفاء في العالم (يقول البعض المستضعفين في الأرض) لم يسمح لهم بمحاسبة قوى الاستعمار القديم على جرائم امتدت لقرون طويلة في كل الكرة الأرضية، وقبلت الحكومات والشعوب وضع الاستضعاف وعاشت بأعطيات محتليها القدامى وشكرتهم متناسية حقوقًا لا تزال قائمة لم تسقط، وما الاحتلال الصهيوني الإحلالي في فلسطين إلا تتمة لقرون احتلال شعوب أخرى عرفت مجازر أشنع مما عرف الفلسطيني خاصة في إفريقيا.
قوى الاحتلال الغربي للعالم نجت حتى الآن بجرائمها، بل لا تزال تمارس الكثير منها مثلما تفعل فرنسا في إفريقيا من شمالها إلى وسطها، دون خشية من حساب أو عقاب، ويعسر أن نجد من الشعوب المحتلة من يفكر مجرد التفكير في إثارة دعاوى ضدها، فقد آثر الجميع الصمت والصبر وحمل جروحه ومضى مؤملًا.
وهناك معطى مهم وجب أن يوضع في مقدمة تحليل هذا الوضع البائس وهو نجاح قوى الاحتلال الغربي في مواصلة التحكم في هذه الشعوب من وراء ستر محلية صنعتها وسمتها دولًا وطنية، وما هي في الحقيقة إلا أجهزة احتلال محلية مختصة فقط في منع شعوبها من نيل حقوقها.
معبر رفع دليل جريمة
لا نحتاج أن نذهب بعيدًا للعثور على أدلة على ما سلف من قول عن أدوار الحكومات العميلة، يكفي أن نجلس قبالة معبر رفح ساعة لنرى جريمة إبادة أخرى تجري أمام العالم، على جانب المعبر يوجد شعب يباد وعلى الجانب الآخر نظام مصطنع بقوى الاحتلال يمنع نجدة السكان الذين تشويهم الطائرات في خيامهم، ووصلت به الوقاحة أن يتخذ جوعهم وفقرهم وسيلة لإذلال شعبه.
نموذج النظام المصري القائم هو الدليل على أن القانون الدولي لن يعدل وإن عدل على الورق (وهو افتراض خيالي) لن ينفذ قراره. لقد وضعت قوى الهيمنة/الاحتلال هذا النظام وأمثاله على رقاب الشعوب وأسندتها بقوة السلاح لكي تمنع شعوبها من الثورة والتحرر. قوى الغرب أول من يعرف أن الشعوب تائقة للحرية ومن حريتها أن تحرر كل أرض محتلة احتلالًا مباشرًا، لذلك قرأ جيدًا شعار الربيع العربي (الشعب يريد تحرير فلسطين)، فقطع عليه الطريق بانقلاب عسكري لم يتورع عن حرق الناس في الشوارع.
في ظل هذا الوضع لا نشك في أن قوى الهيمنة منزعجة من حالة حرية فردية في جنوب إفريقيا اندفعت بحريتها وسيادتها إلى محكمة دولية عسى أن تعيد العدل إلى نصابه، ولا شك أنهم يلعنون الثائر مانديلا الذي فرخ لهم نظامًا حرًا ودولة ذات سيادة، يمنع السماح بمنديلا آخر في أي مكان آخر وإلا فإن الوضع الدولي سيتجه إلى المحاسبة الشاملة، لذلك فإن السيسي وأضرابه يعيشون وضع الطفل المدلل عند الغرب، فهو الذي ضمن لهم أن تموت غزة عطشى وجائعة.
هل كان على جنوب إفريقيا أن تقول لا جدوى وتنفض يديها من كل احتمال عدالة؟ لا بل قد أحسنت صنعًا، إذ فتحت الجدل حول عدالة مؤسسات القانون الدولي نفسها، فكشفت عجزها وهوانها.
غزة أو الإمارات العربية
أمام الناس، كل الناس، نموذجين ويمكنهم الاختيار: نموذج غزة الذي يعيد معركة التحرر الوطني إلى نقطة البداية ويدفع الأثمان الغالية والموجعة ليكون هناك عدل وسيادة وحرية، ونموذج دولة الإمارات التي آثرت السلامة وقبلت وضع الدنية وحولت ترابها إلى ماخور مرفه وقبضت الغنى ولم تسأل عن الكرامة. هذه هي الحالة المقبولة غربيًا والمرحب بها دون زرابي حمراء في المطارات.
لكن العالم لن يكون ماخورًا غربيًا، فنموذج جنوب إفريقيا وحتى قبل أن يتقدم للمحكمة أعطى خيار غزة مصداقية بل كشف الطريق للشعوب التي لم تتخل عن حريتها وإن عسر عليها استعادتها. لقد بذلت دماء كثيرة في معركة تحرر أولى في منتصف القرن العشرين، لكن وكما أسلفنا أمكن الالتفاف عليها ففقدت زخمها.
انتبهت النخب التي تعلمت رغم ذلك من الفخ العظيم، فلم تتوقف عن التنبيه لكنها لم تحمل السلاح ثانية فتحولت إلى نخب تبرير للأنظمة وشعارها ليس بالإمكان أفضل مما كان. ولم يقل مانديلا هذا فأعاد ترتيب وضعه في بلده على الحرية والديمقراطية، وكان من نتيجته الذهاب إلى محكمة العدل الدولية، وهو ما لم يكن لنظام عربي أن يفعله ولو دخلت عليه “إسرائيل” غرفة نومه (وهي ليست بعيدة عنها على كل حال).
نموذج غزة هو النموذج الوحيد الباقي للشعوب المقهورة من أنظمتها أولًا ومن الغرب ثانيًا، وقد لا يحتاج الأمر لنفس الثمن والدم، لكن هناك نقطة بداية اسمها الحرية فمن تعلق بها عرف السبيل.
محكمة العدل الدولية مؤسسة تعطي أملًا في العدل على الورق، لكن العدل على الأرض يمر عبر غزة وأخواتها، فمن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم، هذه بداية بعيدة في الأدب ولكنها قريبة جدًا في الحياة. لقد كان أبو القاسم الشابي الشاعر التونسي يعرف هذا رغم أنه كان صغير السن عندما كتب “لا عدل إلا إذا تعادلت القوى .. وتقابل الإرهاب بالإرهاب”.