أصدرت محكمة العدل الدولية، الجمعة 26 يناير/كانون الثاني 2024، بعد انتظار حثيث دام أسبوعين، قرارها بخصوص اتخاذ التدابير المؤقتة المتعلقة بالقضية التي رفعتها جنوب إفريقيا أمام المحكمة في 29 ديسمبر/كانون الأول الماضي، تتهم فيها “إسرائيل” بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بقطاع غزة، في مخالفة واضحة وصريحة لالتزامها بموجب اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية 1946.
وبينما جاءت مقدمة القرار الذي تلته رئيسة المحكمة مبشرًا إلى حد بعيد، فقد فصّلت في الانتهاكات الإسرائيلية لنصوص الاتفاقية مركزة على معاناة سكان القطاع من قتل وتشريد وتدمير ومعاناة إنسانية، ومشيرة بوضوح إلى كون سكان القطاع معرضين لخطر حقيقي ومباشر بـ”إبادة جماعية محتملة”، جاء منطوق القرار فضفاضًا إلى حد ما وحمّالًا لأوجه وتفسيرات عدة.
تباينت ردود الفعل بشأن القرار بين محتفلٍ يرى فيه انتصارًا رمزيًا للعدالة الدولية وإرغامًا لأنف “إسرائيل” في المحافل الدولية ومن أصيب بخيبة أمل بشأن قرار تقصر لغته عن إيقاف المقتلة المستمرة في قطاع غزة وتضمن للناجين عودة آمنة لديارهم التي نزحوا عنها قصرًا.
نحاول في هذا التقرير تقديم قراءة أولية في قرار المحكمة، ما مضمونه؟ وأين تكمن نقاط قوته ونقاط ضعفه؟ وما السيناريو المرجح على إثره؟
مضمون القرار
بعد أسبوعين من مرافعة كل من الفريق القانوني لدولة جنوب إفريقيا والفريق القانوني لـ”إسرائيل” أمام المحكمة في معرض النظر بالقضية، طالبت هيئة المحكمة المكونة من 15 قاضيًا أصليًا وقاضيين منتدبين من طرفي الدعوى، “إسرائيل” باتخاذ الإجراءات المؤقتة التالية فيما يتعلق بالفلسطينيين في قطاع غزة تمهيدًا للبت الموضوعي في القضية:
- على “إسرائيل” اتخاذ كل الاحترازات والتدابير للحيلولة دون وقوع أعمال تندرج تحت نص المادة 2 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها 1946 وبشكل أساسي:
أ. قتل أعضاء من الجماعة.
ب. إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
ج. إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا.
د. فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
- على “إسرائيل” أن تضمن وبأثر فوري عدم ارتكاب قواتها العسكرية الأفعال المنصوص عليها في النقطة السابقة.
- على “إسرائيل” أن تتخذ بشكل فوري كل الإجراءات لمنع ومعاقبة التحريض العام والمباشر على ارتكاب جريمة الإبادة بحق الفلسطينيين.
- على “إسرائيل” أن تتخذ كل الإجراءات الفورية والفعالة بشكل عاجل لإدخال وتوفير المساعدات الإنسانية والأساسية لمواجهة التهديد الواقع على حياة الفلسطينيين في قطاع غزة.
- على “إسرائيل” اتخاذ إجراءات فعالة للحفاظ على الأدلة المتعلقة بادعاءات ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية على الفلسطينيين في قطاع غزة ومنع تدمير تلك الأدلة.
- على “إسرائيل” تقديم تقرير بكل الإجراءات المتخذة لتطبيق نص القرار خلال شهر من تاريخ اتخاذه.
اللافت في تصويت القضاة على فقرات القرار أن أيًا من التدابير المطلوبة لم تحز على إجماع القضاة الـ17، فقد صوّت القاضي الإسرائيلي أبراهام ضد الفقرات 1،2،5،6 بينما صوتت القاضية الأوغندية سيبوتيندي ضد جميع الفقرات، حتى تلك التي وافق عليها القاضي الإسرائيلي المنتدب وتلك التي تحمل صبغة إنسانية!
إشكاليات القرار
لم يتطرق القرار إلى وقف إطلاق النار وإنهاء الحملة الإسرائيلية العسكرية على القطاع، كما لم يلمح من قريب أو بعيد إلى إعادة النازحين الغزيين إلى بيوتهم، وذلك خلافًا للطلبات التي وردت في قضية جنوب إفريقيا التي تضمنت المطالبة بوقف فوري وفعال لإطلاق النار وبتعويض المتضررين من الضحايا الفلسطينيين وضمان عودتهم إلى ديارهم وعدم تعرضهم لمزيد من الانتهاكات وتقديم ضمانات تتعلق بإعادة الإعمار من ناحية وأخرى تتعلق بعدم تكرار الانتهاكات التي تم ارتكابها خلافًا لاتفاقية منع الإبادة الجماعية.
وبينما يعتبر البعض أن اللغة المستخدمة تحمل التزامًا غير مباشر بوقف الأعمال العدائية في القطاع، ذلك أن طلب اتخاذ إجراءات تحول دون قتل أفراد في الجماعة وعدم الانخراط فيما يمكن أن يتسبب في معاناة جسدية وعقلية ومعيشية للمدنيين، يعني أن على “إسرائيل” وقف أعمالها العسكرية فورًا، إلا أن اللغة المستخدمة لا تعني وقف العملية العسكرية بقدر ما تعني اتخاذ إجراءات ممكنة لتقليل الخسائر بين المدنيين والحيلولة دون الانخراط بمعسكر تدميري واسع لكل مناحي الحياة، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه للتفسير والتأويل والمراوغة، وبمعنى آخر لاستمرار المقتلة.
يأتي الامتعاض العام من قرار محكمة العدل الدولية من واقع قرارات سابقة مشابهة لذات المحكمة، إذ يتقاطع قرار المحكمة بشأن قضية جنوب إفريقيا ضد “إسرائيل” بشكل كبير مع قرارها لعام 2020 بشأن التدابير المؤقتة المتعلقة بالقضية التي رفعتها غامبيا ضد ماينمار تتهمها فيها بارتكاب إبادة جماعية ضد جماعة الروهينغيا المسلمين على أراضيها، وقد اتخذت المحكمة بداية نظر القضية التي ما زالت منظورة أمامها قرارًا بوجوب اتخاذ تدابير احترازية مماثلة لتلك التي طالبت بها “إسرائيل” تجاه سكان القطاع مع تفوق القرار الأخير بشأن المساعدات الإنسانية كحاجة ملحة للظروف الإنسانية القاهرة في القطاع التي تهدد بانتشار المجاعة والوباء.
في المقابل، جاء قرار المحكمة بشأن اتخاذ تدابير احترازية متعلقة بالقضية التي رفعتها أوكرانيا 2022 ضد روسيا تتهمها فيها بارتكاب جريمة إبادة جماعية على أرضها أكثر مباشرة وصراحة وقد طالب الحكومة الروسية بوقف فوري لإطلاق النار وإنهاء العملية العسكرية على الأراضي الأوكرانية وضمان عدم انخراط قواتها العسكرية ومن هم تحت سلطتها بأي فعل من شأنه انتهاك اتفاقية جريمة الإبادة الجماعية.
وقد حظي هذان المطلبان بتصويت 13 قاضيًا لصالحهما مقابل معارضة قاضيين من جنسية روسية والآخر صينية، بينما توافق القضاة الـ15 على فقرة تتعلق بمطالبة طرفي الصراع بوقف كل الأعمال العسكرية في أراضيهما.
وجهة نظر المتفائلين
المتفائلون بالقرار يرون أن ما خلصت إليه محكمة العدل الدولية من قبول لأساس الدعوى وعدم ردها شكلًا بدعوى عدم الاختصاص يعد بذاته انتصارًا للعدالة. يتعلق هذا المنظور بالاختصاص الحصري لمحكمة العدل الدولية بنظر جريمة الإبادة الجماعية وفقًا لنص المادة التاسعة من اتفاقية منع الجريمة بخلاف الاختصاص الأوسع لمحكمة الجنايات الدولية التي يمكنها نظر قضايا لجرائم تقصر عن وصف الإبادة وتندرج تحت مفهوم جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو جريمة عدوان وبالطبع جريمة الإبادة وفقًا لنص المادة 5 من ميثاق روما المؤسس للمحكمة 1998.
وقد ركز فريق الدفاع الإسرائيلي في أثناء مرافعته أمام هيئة المحكمة يوم 12 يناير/كانون الثاني الحاليّ على مسألة الاختصاص وكون المحكمة غير مختصة بنظر القضية لأن الانتهاكات الإسرائيلية الواقعة في القطاع قد تشكل جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، لكنها لا ترقى لجريمة الإبادة الجماعية.
وبالتالي فإن قبول المحكمة القضية شكلًا واعتبارها مختصة في مواصلة النظر فيها يعني أن المحكمة وجدت أساسًا معقولًا بإمكانية وقوع انتهاكات للاتفاقية بما يشكل أفعالًا قد ترقى إلى جريمة الإبادة الجماعية، لكن هذا لا يعني أن المحكمة ستحكم قطعًا بوقوع هذه الانتهاكات، فالمحكمة كانت قد قررت في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها البوسنة والهرسك ضد صربيا عام 1993 تتهمها بارتكاب جرائم إبادة جماعية للمسلمين فيها وبعد نظر القضية لـ14 عامًا، بأن صربيا لم ترتكب جريمة الإبادة ولم تشارك حتى في ارتكابها، بل كان جلّ ما فعلته أنها انتهكت المواد المتعلقة بأخذ التدابير والإجراءات التي تحول دون وقوع هذه الجريمة في الأراضي المعنية.
يأتي التفاؤل أيضًا من نقطة متصلة بما سبق، فقد ركزت هيئة المحكمة في أثناء تلاوة منطوق القرار المتعلق بالتدابير المؤقتة الحاليّة على مسؤولية الدول أعضاء المجتمع الدولي وخاصة تلك المصادقة على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، ليس فقط بضمان عدم الانخراط بانتهاكات مباشرة من ناحيتها، لكن أيضًا منع إمكانية ارتكابها والحيلولة دون أن تقوم دول أعضاء أخرى بارتكابها وما يترتب على الدول من واجب تطبيق القرار الصادر تنفيذًا لالتزاماتها تلك.
وهذا التأكيد يعني أن الدول الداعمة والمؤيدة للانتهاكات الإسرائيلية في قطاع غزة أصبحت في مصاف الدول المهددة بتهمة مساعدة وتأييد ما يمكن أن يشكل جريمة إبادة جماعية، وعلى الرغم من أن هذا الاستخلاص لا يعني أن هذه الدول ستقف بشكل فوري ومباشر في قفص الاتهام جوار “إسرائيل” أمام المحكمة، لكنه يعني أن تهديدًا فعليًا بمحاكمتها على تواطؤها صار ممكنًا وقريبًا أكثر من أي وقت مضى، كما يعني زيادة الضغط الدولي على هذه الدول في علاقاتها المتبادلة مع بقية الدول داخل منظومة الأمم المتحدة وخارجها لوقف التواطؤ والتعاون غير القانوني بالمقتلة المستمرة على أرض القطاع.
من ناحية أخرى يدافع هذا الفريق عن فكرة عدم الإشارة بشكل مباشر وواضح لوقف إطلاق النار من منطلق أن هذا البند يتجاوز حدود سلطة المحكمة من ناحية أن طرفي الدعوى غير منخرطين في نزاع مسلح ثنائي، بمعنى أن النزاع المسلح ليس بين جنوب إفريقيا و”إسرائيل” وأن المقاومة الفلسطينية ليست طرفًا في الدعوى وبالتالي لا تستطيع المحكمة إلزامها بوقف إطلاق النار، وقد أشارت حركة حماس قبل يوم من النطق بالحكم إلى كونها مستعدة للالتزام بوقف إطلاق النار إذا ما صدر القرار بذلك والتزمت به “إسرائيل”.
السيناريوهات المحتملة
مرة أخرى تحمل اللغة الضبابية لقرار المحكمة تساؤلات بشأن آلية تنفيذ القرار ومعنى أن تفي “إسرائيل” بالتزامها بعدم انتهاك أحكام اتفاقية الإبادة الجماعية. غير أن السيناريوهات التالية محتملة الآن بعد أن صدر قرار العدل الدولية:
- أن تلتزم “إسرائيل” جزئيًا وظاهريًا بالقرار خاصة فيما يتعلق بإدخال المساعدات الإنسانية ومن ثم تتحايل على جوهره، فتوفر للمحكمة التقرير المطلوب بعد شهر من الآن وتراوغ فيه بالإجراءات التي اتخذتها لحماية المدنيين وتقليل معاناتهم وإدخال المساعدات وتكيّف انتهاكاتها بمبادئ الضرورة العسكرية والظروف الميدانية، ما يفتح المجال مرة أخرى للتداول والتباحث بشأن التزام “إسرائيل” بالقرار بشكل كافٍ وسيكون بالطبع هناك توثيق ومتابعة من جهات حقوقية ورسمية عديدة على مستويات دولية ووطنية وإقليمية.
- أن ترفض “إسرائيل” الانصياع لقرار محكمة العدل الدولية، ومن ثم تتجه جنوب إفريقيا إلى مجلس الأمن لاتخاذ إجراءات تنفيذية بالخصوص تضمن التزام “إسرائيل” بتنفيذ القرار، ومن غير المعلوم حتى اللحظة إذا كانت الولايات المتحدة ستستخدم حق النقض الفيتو في قرار كهذا.
- في حال لم تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية حق النقض الفيتو ضد تحرك مجلس الأمن لإنفاذ قرار المحكمة، لا يرجح أن يلجأ المجلس إلى فرض عقوبات منع وردع ضد “إسرائيل” وفقًا لنص المادتين 41 و42 من الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة بما يتضمن قطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية وفرض عقوبات عسكرية بما يشمل حظر حركة طيران وحظر توريد الأسلحة لـ”إسرائيل”، لكن يمكن أن يتخذ المجلس قرارًا يطالب “إسرائيل” بالالتزام بتنفيذ قرار المحكمة دون سبيل واضح لذلك، كما هو الحال في القرارات العديدة التي انتهت حبرًا على ورق دون أثر واضح على أرض الواقع.
- في حال استخدمت الولايات المتحدة حق النقض الفيتو للحيلولة دون إصدار مجلس الأمن لقرار يلزم “إسرائيل” بتنفيذ قرار المحكمة، يمكن أن تتوجه جنوب إفريقيا إلى الجمعية العامة لإصدار قرارات بالخصوص، وهي التي تعد تعبيرًا جمعيًا عن إرادة المجتمع الدولي كونها تمثل عموم دول العالم، ورغم أن قراراتها ليست ذات طبيعة إلزامية بشكل عام يمكن أن تتجاوز جنوب إفريقيا هذا بالدعوة لتفعيل قرار الاتحاد من أجل السلام 1950 الذي يعطي للجمعية العامة سلطة اتخاذ قرارات ملزمة في حال فشل مجلس الأمن في أداء مهامه بحفظ السلم والأمن الدوليين، كما يمكن أن تتخذ الجمعية العامة قرارات تكون إطارًا ومنطلقًا قانونيًا لعمل الدول فرادى وجماعات تلتزم بها بمحض إرادتها.
- من ناحيتها ستكمل المحكمة نظر القضية التي ستحتاج على الأرجح إلى سنوات طويلة حتى الوصول إلى قرار، والقرار النهائي موجّه بشكل أساسي للدولة ولا يحمل صبغة جنائية لمحاسبة الأفراد الضالعين في الجرائم، خلافًا لسلطة المحكمة الجنائية الدولية.
فرص وإمكانات
رغم أن القرار يشوبه عدد من الإشكاليات، فإنه يفتح الباب واسعًا للعمل الحقوقي والدبلوماسي لمناصرة الحق الفلسطيني على المستويات الدولية والإقليمية والوطنية، ومن أهم الفرص التي يتيحها القرار الذي سيعمل كأساس وإطار قانوني لعمل الحكومات والمنظمات الحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني:
- تَحرّك الملف الفلسطيني أمام محكمة الجنايات الدولية: تعد محكمة الجنايات الدولية الجسم الأمثل لنظر قضايا الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ذلك أن لها ولاية عامة على الجرائم التي تقع ضمن اختصاصها الموضوعي أيًا كانت درجتها سواء جرائم حرب أم جرائم ضد الإنسانية أم جرائم عدوان أم جرائم إبادة، أضف إلى ذلك أن المحكمة تملك صلاحية محاكمة الأفراد المسؤولين عن الأفعال الجرمية وإحقاق العدالة بإيقاع عقوبات فردية عليهم. بعد السابع من أكتوبر تعرض مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لضغوطات عدة للتحرك في الملف الفلسطيني القابع على مكتبه منذ ما قبل توليه لمنصبه 2021، ورغم ذلك قاوم المدعي العام تلك الضغوط ولم يتحرك حتى اللحظة تحركًا جديًا في الملف رغم أن عددًا من الدول الأعضاء في المحكمة أحالت إليه قضية الانتهاكات المرتكبة في قطاع غزة ومنها المكسيك وتشيلي وجنوب إفريقيا وبنغلادش وجيبوتي وجزر القمر. صدور قرار محكمة العدل الذي يقبل النظر في قضية الإبادة ويعتبر أن هناك أساسًا معقولًا لوقوع جريمة إبادة جماعية محتملة في القطاع يشكل المزيد من الضغط على مكتب المدعي العام للتحرك في الملف.
- تشجيع دول أخرى للانضمام للقضية أمام العدل الدولية، الآن وقد قبلت المحكمة نظر القضية موضوعًا صار بإمكان دول أخرى الانضمام لجنوب إفريقيا في دعواها أمام محكمة العدل الدولية ما يشكل ضغطًا دوليًا ومحاصرة لـ”إسرائيل” على مستوى الدول، كما أن الانضمام للقضية يعني ضمنًا أن الدول المنضمة مستعدة لاتخاذ إجراءات فردية تحاسب فيها “إسرائيل” على جرائمها ومنها قطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بينها وبين “إسرائيل”.
- توفير الإطار الأعم لعمل المحاكم الوطنية للدول تحت مبدأ الاختصاص العالمي الذي يتيح لها سلطة نظر انتهاكات جسيمة لاتفاقيات جنيف 1949 بموجب المادة 146 من الاتفاقية الرابعة المعنية بحماية المدنيين في أوقات النزاع المسلح بصرف النظر عن مكان وقوع الجريمة وشخوصها، وقد بُنيت عليها الشكوى التي تحركت ضد الرئيس الإسرائيلي في سويسرا بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة. كما يتيح القرار أيضًا مزيدًا من الموارد والتوافق الدولي والسلطة العليا للمحاكم المحلية التي تنظر قضايا مشابهة وفقًا لقوانينها الداخلية مثل المحكمة الفيدرالية الأمريكية التي تنظر حاليًا قضية رفعتها مراكز حقوقية أمريكية وفلسطينية على إدارة بايدن تتهمها بالمساهمة في جريمة الإبادة الجماعية الإسرائيلية في قطاع غزة في مخالفة للقانون الأمريكي الذي يحظر إدارة البيت الأبيض من الانخراط في جرائم إبادة جماعية بأي شكل.
- تقوية أساس عمل حركة المقاطعة “بي دي إس” والتحركات المماثلة على مستوى المجتمع المدني الذي سيضغط باتجاه محاصرة ومقاطعة المؤسسات والأفراد الإسرائيليين وقد صاروا رسميًا في قفص الاتهام أمام المحكمة العالمية التي تملك الكلمة العليا في القانون الذي من المفترض أنه يحكم المجتمع الدولي.
لم يكن متوقعًا من وجهة نظر قانونيين متخصصين من العدل الدولية أفضل مما قدّمت، ذلك أن القانون الدولي تقيده الكثير من المحددات يتعلق شق منها بالتقنيات والتفاسير وحدود الاختصاص، بينما يقع شقها الأخطر في آليات التنفيذ وصعوبة ترجمة القرارات الدولية بما يضمن إيقافًا فوريًا لشلال الدم واحترامًا لقدسية الحياة الإنسانية وإحقاقًا لقيم الحق والعدالة.
يقصر القرار الصادر عن إيقاف المقتلة وتعويض الضحايا وإعادة إعمار القطاع المدمر تدميرًا أفرغه من ممكنات الحياة، وعليه فهو لا يرقى للحظة القائمة خاصة أن الوقت يعني الدم، والتلكؤ في التنفيذ لحين الفصل في المعنى والوسيلة يعني مزيدًا من المجازر، إلا أن القرار لا يخلو من الأهمية على المديين المتوسط والبعيد لتأطير الحق الفلسطيني في المحافل الدولية والعمل على تجاوز النظام الدولي الاستعماري في قنوات عمل مجتمعية ودبلوماسية وسياسية بديلة أكثر واقعيةً وتأثيرًا.
ختامًا، فإن منبع إحباط وخيبة أمل الكثيرين ممن انتظروا قرارًا حاسمًا من محكمة العدل الدولية ترقى للمصاب الجلل والظلم التاريخي الذي وقع على الشعب الفلسطيني يرجع أساسًا لفهم خاطئ لطبيعة القضية الفلسطينية، فالسؤال الفلسطيني ليس سؤالًا قانونيًا بالدرجة الأولى بل هو سؤال سياسي استعماري، وبالتالي فإن البحث عن إجابات في ردهات المؤسسات الدولية ونصوص القانون الدولي، على ما تعانيه من علل وشُبه استعمارية، لن يكون يومًا كافيًا، ولن يرقى للحظة القائمة ولن يحقن دمًا أو يحرر شبرًا من أرض.
هذا المسار مهم في العالم القائم، لكنه جانبي ومرادف وليس الأهم أو الأساس. اعتقادنا أن هذه المنظومة القاصرة ستنصفنا فيه تضييع للحق الفلسطيني ووضع للبيض في غير سلته وتفويت للعمل الحقيقي المؤثر.