ترجمة وتحرير نون بوست
يُعد إنشاء أول مجتمع رياضيات متقدم في فلسطين بمثابة حلم بالنسبة للطالب السابق في المدرسة الثانوية الفرنسية في القدس، الذي درس في إحدى الأقسام التحضيرية للرياضيات في مدرسة تولوز، والحائز على دكتوراه في جوسيو في ظل تأطير من قبل أساتذة أمريكيين وفرنسيين عظيمين، ساري غانم. وفي إطار سعيه لتحقيق طموحاته، نجح هذا الفلسطيني، المقدسي تحديدا، في تنظيم مخيمات صيفية للرياضيات في كل من بلدة بيت لحم وبيت جالا المتجاورتان، للمرة الثانية على التوالي.
في الأثناء، شارك فتيان وفتيات، تتراوح أعمارهم بين 12 و 14 سنة في دورة هذه السنة، التي امتدت من الثاني من الشهر الجاري إلى الخامس عشر من الشهر عينه. ويتضمن برنامج هذه الدورة ست ساعات يوميا من دروس الرياضيات، تتخللها ثلاث وجبات يتناولها التلاميذ والمعلمين سويا. وإثر العشاء، يعود التلاميذ مرة أخرى إلى أجواء الرياضيات وذلك من خلال بعض النشاطات في هذا المجال على غرار تنظيم ألعاب، أو خوض مناقشات، أو عرض فيلم وثائقي.
الدكتور سامي غانم مؤسس مخيم الرياضيات للأطفال
علاوة على ذلك، يعد برنامج يومي العطلة، الجمعة والأحد، مزدحما أيضا، حيث تُنظم خلالها أنشطة ثقافية، على غرار زيارة متحف الرياضيات في جامعة القدس في أبو ديس، إحدى الضواحي التي تقع شرق القدس، أو السفر إلى الخليل لاكتشاف مصنع لتصنيع الزجاج، أو حضور حفل موسيقى كلاسيكية أو جاز.
الرياضيات علم جميل كما أنه منطقي، حيث لا أهمية للصحيح أو الخطأ، وإنما للبرهان والتعليل
في الواقع، لم تكن كلمة “سعيد” كفيلة بوصف مشاعر معتز، الذي صرح قائلا:” أنا سعيد جدا لوجودي هنا، وذلك نظرا لأننا ندرس الرياضيات، وهذا أمر رائع للغاية. ولكن لا يقتصر الأمر على هذا الميدان، حيث يشمل تعلم التاريخ والجغرافيا، من خلال قراءة الخرائط، فضلا عن الموسيقى. لقد اكتشفت بيتهوفن والبيانو وموسيقى الجاز في هذه الدورة. بالإضافة إلى ذلك، قمت بزيارة مناطق في فلسطين لم أكن أعرفها في السابق. أنا أحب ذلك كثيرا”.
من جهة أخرى، تتسم تاليا، التي تعشق الرياضيات، بالحماس تماما مثل معتز. وفي هذا الصدد، صرحت تاليا أن “الرياضيات علم جميل كما أنه منطقي، حيث لا أهمية للصحيح أو الخطأ، وإنما للبرهان والتعليل. ومقارنة بالمدرسة، تُعد الدراسة هنا، وخاصة منهجية التعليم، أمرا عظيما حقا! وفي هذا المكان، نتعلم الموسيقى أيضا. أنا عازفة قيثارة، وبفضل إقامتي هنا، اكتشفت العلاقة بين الرياضيات والموسيقى. ففي حال كنت جيدا في الرياضيات، فيمكنك أن تُتقن الموسيقى أيضا … “.
اختيار عن طريق مناظرة
على بعد بضعة كيلومترات من بلدة بيت لحم، وتحديدا في بيت جالا، فتح مخيم الرياضيات الآخر أبوابه منذ فترة قصيرة، حيث يتم اعتماد البرنامج نفسه تماما مثل المخيم الأول. في المقابل، تتراوح أعمار المشاركين، الذين بلغ عددهم 15 شابا وفتاة، بين 14 و16 سنة. في فترة ما بعد الظهر، كان هؤلاء المراهقون يخوضون في مسائل تتعلق بالمنطق. وفي الأثناء، يخيم التركيز بدرجات عالية على هذا المخيم، في ظل غياب كل ما من شأنه أن يُكدر صفو هذه الأجواء. فالأمر لا يتعلق إلا بمجموعة بسيطة من الأشخاص، الذين يسعون للتمكن من أحد مناهج الرياضيات.
وتجدر الإشارة إلى أنه قد وقع اختيار المشاركين في هذه الدورة منذ شهر أيار/مايو المنقضي، خلال أولمبياد الرياضيات الفلسطيني الذي نظمه ساري غانم. وبفضل نظام الملصقات (التي نُشر منها 1500 ملصق في كل من رام الله وبيت لحم) فضلا عن تداول الخبر في أعقاب أول مخيم من هذا النوع في آب/أغسطس من السنة المنقضية، تقدم 493 تلميذا من المدارس الفلسطينية، الحكومية والخاصة، لاجتياز مناظرة الدخول لهذه الدورة. وفي نهاية المطاف، تم اختيار ستة وعشرين عضوا.
يتميز هؤلاء التلاميذ بالشغف إزاء الرياضيات نظرا لأنها تسليهم. ففي المساء وحين أمُر على غرفهم لإعلان موعد الخلود إلى النوم، أجدهم بصدد العمل أيضا
كانت مشاركة هؤلاء التلاميذ في هذا المخيم الصيفي مجانية تماما، وذلك بفضل نظام المنح الدراسية التي قدمها “معهد الخوارزمي-نويثر”. ويعد هذا المعهد جمعية غير ربحية فرنسية أنشأها ساري غانم ومارينا فيل، وهي مختصة في علم الرياضيات أيضا، خلال السنة الماضية. ويخضع هذا المعهد لقيادة ثنائية ذات صبغة تطوعية.
بالإضافة إلى ساري غانم، تتكون هيئة التدريس من ثلاثة أعضاء فرنسيين، وهم ماثيو (من المدرسة المتعددة التكنولوجية) وسيمون وفنسنت (من المدرسة العليا للأساتذة)، فضلا عن برانكو، وهو شاب ألماني يبلغ من العمر ثمانية عشر سنة. وقد أنهى برانكو لتوه المدرسة الثانوية في برلين، مع العلم أنه قد فاز بالميدالية البرونزية في الأولمبياد الدولية للرياضيات في سنتي 2016 و2017.
في سن الثالثة والعشرين، اكتسب ماثيو خبرة هامة في ميدان العمل التطوعي، حيث نظم وشارك في العديد من مسابقات الرياضيات لعدة سنوات. والجدير بالذكر أنه ، وفي إطار فعاليات الأولمبياد الدولية للشباب في مادة الرياضيات في سانت بطرسبورغ في سنة 2016، فاز الفريق الفرنسي الذي يقوده هذا الشاب بالمركز الأول. وخلال الدورة الحالية، يعد ماثيو أحد أصغر المدرسين في بيت لحم.
فيما يتعلق بأجواء هذه الدورة، صرح ماثيو أنه “في البداية، عندما قدم تلاميذ الصفين السادس والخامس، كانوا خائفين بعض الشيء، إلا أنهم سرعان ما تعرفوا على بعضهم البعض. وقد نجحوا في العمل على اعتبارهم فريقا متكاملا. حقيقة، يتميز هؤلاء التلاميذ بالشغف إزاء الرياضيات نظرا لأنها تسليهم. ففي المساء وحين أمُر على غرفهم لإعلان موعد الخلود إلى النوم، أجدهم بصدد العمل أيضا… أنا حقا لا أرى أي فرق بينهم وبين الأطفال الفرنسيين الذين أُشرف على تدريبهم. الحماس ذاته! والعطاء عينه!”
“أحياء، ومبتهجون، ورائعون”
من جانبه، يُشارك برانكو الانطباع ذاته تماما مثل ماثيو، حيث أورد أن “الطلاب الفلسطينيون جيدون. وعلى الرغم من أن الطلاب الأوروبيين يتفوقون عليهم في بعض الجوانب، إلا أنهم لا يختلفون البتة عندما يتعلق الأمر بفهم المسائل والتعليل. والجدير بالذكر أن التلاميذ الفلسطينيين لم يتلقوا تكوينا مماثلا، باستثناء المخيم الصيفي للسنة الماضية”.
يُؤمن ساري غانم بمشروعه. وقد شدد غانم على أنه “في حال قرر مشاركان اثنان فقط، بفضل هذه المخيمات الصيفية، أن يصبحا عالمان رفيعا المستوى على الصعيد الدولي في مجال الرياضيات”
فضلا عن لقائهما بهؤلاء الشباب الفلسطينيين، يُغذي الشعور بخوض مغامرة جديدة ترمي إلى تعزيز مكانة الرياضيات في فلسطين حماس كل من ماثيو وبرانكو. ويُعد هذا الأمر تحديا حقيقيا في مجتمع فلسطيني لا تولى فيه أهمية كبرى لعلم الرياضيات. من جانبه، يرفض ساري غانم، الذي لم ينس الاحساس بالانبهار خلال الأسابيع الأولى من دروس القسم التحضيري للرياضيات في مدرسة تولوز، أن يتم تهميش هذا العلم في بلاده. وبالتالي، قرر تكريس نفسه للبحث في الرياضيات البحتة. وقد جعلت مسيرة ثلاثة وثلاثين سنة من التصميم والعمل الشاق، من هذا الشاب باحثا معترفا به على الصعيد الدولي.
في الحقيقة، يرغب ساري غانم أن يوظف تجربته الشخصية هذه ويسمح للطلاب الفلسطينيين بمشاركته شغفه. ولكن، يدرك غانم جيدا أن إنشاء مجتمع رياضيات في فلسطين لن يكون أمرا سهلا أبدا، نظرا لكثرة العقبات السياسية، والثقافية، والمالية. فالمانحون لا يستحسنون مسألة تمويل هذه الفكرة، علما وأن دورة السنة الحالية كانت مدعومة بمساهمة مادية خاصة، تم إيداعها في اللحظة الأخيرة. كما ساهمت عملية دفع القنصلية الفرنسية في القدس لمعلوم أربعة تذاكر جوية في عقد دورة سنة 2017.
عموما، ، يُؤمن ساري غانم بمشروعه. وقد شدد غانم على أنه “في حال قرر مشاركان اثنان فقط، بفضل هذه المخيمات الصيفية، أن يصبحا عالمان رفيعا المستوى على الصعيد الدولي في مجال الرياضيات، فسأكون قد كسبت الرهان. وفي حال لم يصبح ثلاثة آخرين باحثين بل معلمين جيدين، قادرين على إيصال هذا العلم، بما يحتويه من طريقة لفهم الكون، إلى الطلاب، فإن ذلك سيكون جيدا جدا أيضا”.
بالنسبة لساري غانم، وكما كُتب في “الملزمات” التي وُزعت على الطلبة وأوليائهم بخصوص برنامج المخيم الصيفي للرياضيات لسنة 2017، “فإننا نظل أحياء، ومبتهجين ورائعين من خلال المشاركة والمساهمة في الثقافة البشرية. فقد أصبحت الرياضيات اليوم أكثر الطرق فاعلية في وصف وفهم الكون…”، ولكن يجب الحصول على الإمكانيات الضرورية لتنظيم مخيمات الرياضيات لسنة 2018.
المصدر: لوبوان