بعد نحو شهر من التوجه لمحكمة العدل الدولية، تلت رئيسة المحكمة القاضية الأمريكية جوان إي دونوغو، قرارًا بشأن طلب دولة جنوب إفريقيا إلزام الاحتلال بتدابير مؤقتة “لمنع الإبادة الجماعية” في قطاع غزة، وفيه وافقت المحكمة على اتخاذ بعض التدابير التي اقترحتها الدولة الإفريقية بموافقة 15 عضوًا في لجنة القضاة المكونة من 17 قاضيًا.
ومن التدابير التي فرضتها المحكمة أن على “إسرائيل” الالتزام بتجنب كل ما يتعلق بالقتل والاعتداء والتدمير بحق سكان غزة، وأن تضمن توفير الاحتياجات الإنسانية الملحة في القطاع بشكل فوري، ورفع تقرير إلى المحكمة في غضون شهر بشأن كل التدابير المؤقتة، وأوكلت إلى حكومة الاحتلال الإسرائيلي التأكد فورًا من أن جيشها لا يرتكب الانتهاكات المذكورة.
وبينما كانت الأنظار تتجه إلى جلسة المحكمة يوم الجمعة 26 يناير/كانون الثاني 2024، باعتبارها آخر المعاقل الممكنة لإنصاف المجتمع الدولي لفلسطين وتحقيق عدالته، اصطدمت التدابير التي طرحتها المحكمة بسقف وقف إطلاق النار والحرب الإسرائيلية بشكل كامل على قطاع غزة، وهو أول التدابير التي طلبتها جنوب إفريقيا خلال جلسة الاستماع في المحكمة.
روسيا وأوكرانيا.. ضحايا أقل ووقف إطلاق نار فوري
بعد شهر من الحرب، قالت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أنياس كالامار: “المعسكر الغربي يطالبنا بالمسارعة للدفاع عن أوكرانيا وهو حقًا ما يجب أن نفعله، لأن أوكرانيا تعرضت لاعتداء من روسيا، لكن في نفس الوقت يقول لنا (المعسكر الغربي) لا تتحركوا قيد أنملة، ونحن نرى القصف المستمر والمعاناة الفظيعة لشعب غزة، إن ازدواجية المعايير لدى تلك الحكومات تهدد حقوق الإنسان”.
ولو تجاوزنا تصريحات قادة المعسكر الغربي الذين مدّوا الاحتلال بالسلاح والدعم السياسي والعسكري خلال عدوانه المستمر على قطاع غزة، بل وسنوا قوانين في بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا تحظر أي مظاهر دعم لفلسطين، لوجدنا ازدواجية المعايير تتكرر مرة أخرى في أروقة محكمة العدل الدولية.
فعام 2022، أصدرت المحكمة قرارًا طالب روسيا بتعليق فوري للعمليات العسكرية ضد أوكرانيا، ردًا على دعوى اتهمت فيها كييف موسكو بالتلاعب بمفهوم الإبادة الجماعية لتبرير عدوانها العسكري.
المحكمة التي استشهدت بتصريحات لوزراء في حكومة الاحتلال كمبررات ومسوغات لقرارها بشأن اتخاذ تدابير مؤقتة، عهدت إلى الحكومة ذاتها – بوزرائها – منع ارتكاب الإبادة.
وعند إصدار الحكم، أشارت رئيسة المحكمة جوان إي دونوغو إلى استيفاء الشروط اللازمة لإعطاء محكمة العدل الدولية الصلاحية للحكم بالتدابير المؤقتة، وقالت “في الواقع، فإن أي عملية عسكرية، خاصة على النطاق الذي ينفذه الاتحاد الروسي على أراضي أوكرانيا، تؤدي حتمًا إلى خسائر في الأرواح، وإلحاق أضرار نفسية وجسدية، وإلحاق أضرار بالممتلكات والبيئة”.
وتشابه حينها مع خطابها بشأن دعوى جنوب إفريقيا ضد الاحتلال، فقالت في الدعوى الأوكرانية الروسية: “السكان المدنيون المتضررون من النزاع الحاليّ أكثر عرضة للخطر”، مضيفة أن العدوان الروسي تسبب في وقوع “العديد من القتلى والجرحى من المدنيين.. وألحق أضرارًا مادية كبيرة، بما في ذلك تدمير المباني والبنية التحتية”.
وأضافت القاضية جوان قائلة – في الحالة الروسية الأوكرانية -: “الهجمات مستمرة وتخلق ظروفًا معيشية صعبة بشكل متزايد للسكان المدنيين. لا يحصل الكثير من الناس على أبسط المواد الغذائية أو مياه الشرب أو الكهرباء أو الأدوية الأساسية أو التدفئة. يحاول عدد كبير جدًا من الأشخاص الفرار من المدن الأكثر تضررًا في ظل ظروف غير آمنة للغاية”.
ولم ترَ محكمة العدل الدولية أن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة يتطلب وقف إطلاق نار بشكلٍ فوري، لكنها رأت الحالة تستدعي في الحرب الروسية الأوكرانية، رغم أن أعداد القتلى وصل نحو 10 آلاف قتيل خلال عامين من الحرب، في وقت تسبب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وحتى لحظة كتابة هذه المادة، بأكثر من 26083 شهيدًا، فيما وصل عدد المصابين إلى 64487، 70% من الضحايا هم من النساء والأطفال.
“إسرائيل” المجرمة والحكم في عُرف المحكمة
دعت محكمة العدل الدولية، في قرارها حكومة “إسرائيل” إلى مراقبة جيشها، والتأكد من عدم ارتكابه جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة، وضمان إدخال المساعدات إلى القطاع، وكأنها بذلك فصلت ما بين الاحتلال حكومة وجيشًا، ونفت عن قادتها السياسيين مسؤولية الإبادة.
في عودة إلى أسطر قليلة سبقت قرار المحكمة في كلمة القاضية الأمريكية، تجد الشيء وضده في قرار “العدل الدولية”، فالمحكمة التي استشهدت بتصريحات لوزراء في حكومة الاحتلال كمبررات ومسوغات لقرارها بشأن اتخاذ تدابير مؤقتة، عهدت إلى الحكومة ذاتها – بوزرائها – منع ارتكاب الإبادة.
وقد استشهدت المحكمة، بتصريحات وزير حرب الاحتلال يوآف غالانت، في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أمر فيها بفرض “حصار كامل” على مدينة غزة وأنه لن يكون هناك كهرباء ولا طعام ولا وقود، وإلى تصريحات رئيس الاحتلال إسحاق هرتسوغ في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قال فيها: “نحن نعمل عسكريًا وفقًا لقواعد القانون الدولي، بشكل لا لبس فيه، إنها أمة بأكملها هي المسؤولة، وليس صحيحًا هذا الخطاب عن مدنيين لا علم لهم وليسوا متورطين، هذا ليس صحيحًا على الإطلاق، كان من الممكن أن يرفضوا.. لكننا في حالة حرب، وسنقاتل حتى نكسر عمودهم الفقري”.
واستدلت القاضية الأمريكية أيضًا، بتغريدة على موقع X لوزير خارجية الاحتلال الحاليّ يسرائيل كاتس، بتاريخ 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وكان حينها يتقلد منصب وزير الطاقة والبنية التحتية، كتب فيها: “سنقاتل منظمة حماس الإرهابية وندمرها، أُمر جميع السكان المدنيين في غزة بالمغادرة فورًا. سنربح، لن تصلهم قطرة ماء ولا بطارية واحدة حتى يرحلوا عن الدنيا”.
الخطاب الأمريكي في صورة محكمة العدل
المحكمة التي ترأسها ذات القاضية الأمريكية في هذه الدورة، تشابهت في قراراتها مع خطاب السياسة الأمريكية في الفترة الأخيرة التي دعت الاحتلال إلى تخفيض أعداد الضحايا المدنيين في قطاع غزة، واستخدام قنابل أصغر في عدوانه على غزة لتقليل عدد الشهداء، أي دعوة لاستمرار الحرب على غزة، وهو ما وصفه الفلسطينيون بأنه تحقيق لـ”إبادة جماعية بصورة مُحسّنة”.
بصورة واقعية، لا يمكن تطبيق جميع التدابير المؤقتة التي أقرتها المحكمة دون وقف كامل للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة
وقالت القاضية الأمريكية، إن المحكمة “يساورها قلق بالغ بشأن مصير الرهائن الذين اختطفوا خلال الهجوم الذي وقع في “إسرائيل” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 واحتجزتهم حماس والجماعات المسلحة الأخرى منذ ذلك الحين، وتدعو إلى إطلاق سراحهم الفوري وغير المشروط، وهو ذات الخطاب الأمريكي خصوصًا والغربي عمومًا، دون التطرق لأكثر 6305 حالات اعتقال نفذها الاحتلال بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، ونحو 9000 أسير فلسطيني ما زالوا معتقلين في سجون الاحتلال، بعضهم تجاوزت فترة اعتقاله 30 عامًا.
كما تبنت محكمة العدل الدولي، الاتجاه الغربي لمحو 75 عامًا من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والجرائم الممتدة على طول هذه المدة، وجرائم التطهير العرقي بحق الفلسطينيين، التي دوّنها الإسرائيليون أنفسهم في كتبهم، لكنها فضّلت أن تبدأ خطابها بمصطلح “وبعد الهجوم الذي شنته حركة حماس..”.
لماذا الترحيب إذًا؟
ورغم أن محكمة العدل الدولية لم تصدر قرارًا بوقف إطلاق النار بشكل فوري، فإن قرارها قوبل بترحيب فلسطيني وعربي، حتى من حركة المقاومة الإسلامية “حماس” ودولة جنوب إفريقيا، فلماذا الترحيب رغم الانحياز؟
من وجهة نظر قانونية وحقوقية، فإن العدالة انتصرت جزئيًا، لأن صدور هذه التدابير من محكمة العدل تأكيد لاختصاصها في نظر الدعوى، ويضع “إسرائيل” رسميًا كمتهمة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، أي انتهاكها اتفاقية الإبادة، وقد يُفهم من قرار المحكمة بشكل غير معلن أنه يجوز لـ”إسرائيل” مواصلة عملياتها العسكرية ضد غزة، لكن عليها التأكد من أن أي وحدات عسكرية أو غير نظامية مسلحة لا تنتهك التزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.
وبصورة واقعية، لا يمكن تطبيق جميع التدابير المؤقتة التي أقرتها المحكمة دون وقف كامل للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، فضلًا عن أن التدابير المؤقتة تضمنت منع “إسرائيل” من التدمير وضمان الحفاظ على الأدلة المتعلقة بالجرائم المحتملة التي تسعى لتدميرها، عدا عن توفير الاحتياجات الإنسانية بشكل فوري للسكان المدنيين في القطاع.