منذ عام 2013 بدأت “إسرائيل” في اتباع إستراتيجية جديدة لاستهداف الوجود الإيراني في سوريا، عرفت باسم “المعركة بين الحروب”، وهي تهدف بحسب العسكريين الإسرائيليين إلى منع إيران من ترسيخ وجودها وتحصين وكلائها الخارجيين، ونشر أسلحة متطورة، وتحويل مرتفعات الجولان إلى جبهة لضرب “إسرائيل”.
تسير هذه الإستراتيجية في عدة اتجاهات، كان من أبرزها خلال السنوات الماضية استهداف شحنات الأسلحة، خصوصًا أنظمة الدفاع الجوي التي تعمل طهران على تركيبها ضمن قواعد في الأراضي السورية، وتتبع للمليشيات المرتبطة بإيران، إذ كان يتم استهداف هذه الشحنات القادمة برًا من إيران إلى سوريا عبر العراق، أو عبر مطاري دمشق وحلب اللذين تحولا في الآونة الأخيرة إلى هدف شبه يومي للطيران الإسرائيلي، إضافة إلى ضرب كل ما له علاقة بمشروع المفاعل النووي الإيراني، وما يترتب عليه من مخابر ومحطات ومراكز بحوث.
تغيير في الإستراتيجية
إلا أن هذه الإستراتيجية الإسرائيلية شهدت تحولًا في طبيعة استهداف المشروع الإيراني في سوريا بعد عملية “طوفان الأقصى”، تجلى ذلك بعمليات قصف موجهة أفضت إلى اغتيال شخصيات عسكرية مؤثرة في الحرس الثوري الإيراني، أو في الميليشيات التابعة لإيران، خاصة تلك الشخصيات المتخصصة بنقل الأسلحة إلى سوريا ولبنان وفلسطين، أو التي تضطلع بالتنسيق الاستخباراتي بين إيران وأذرعها من ميليشيات وأنظمة في المنطقة العربية.
ذروة هذه الاستهدافات الإسرائيلية تمثلت في اغتيال رضي موسوي بمنطقة السيدة زينب بالعاصمة دمشق في 25 ديسمبر/كانون الأول الماضي، ويلقب أيضًا بـ”السيد رضي”، وهو ثاني أعلى رتبة عسكرية في إيران تُقتل خارج الحدود بعد قائد “فيلق القدس” سابقًا قاسم سليماني، الذي قضى بضربة أمريكية قرب مطار بغداد، مطلع عام 2020.
ووفقًا للمتحدث باسم الحرس الثوري الإيراني، العميد رمضان شريف، فإن موسوي كان مسؤولًا عن تقديم المشورة والدعم لمحور المقاومة في سوريا ولبنان منذ أكثر من 25 عامًا.
وبعد هذا الاستهداف بأقل من شهر وجهت “إسرائيل” ضربة كبيرة لطهران باستهداف وحدة استخبارات الحرس الثوري الإيراني في سوريا، بمنطقة المزة بدمشق، وكان من أبرز المستهدفين قائد استخبارات فيلق القدس في سوريا العميد أوميد زاده الملقب بـ”حاج صادق” ونائبه غلام الحاج محرم، إضافة إلى اثنين من قيادات الحرس الثوري.
لتنقل بعد ذلك وسائل إعلام رسمية عن الحرس الثوري الإيراني قوله إن خامس القتلى هو عضو في قوة النخبة توفي متأثرًا بإصابته في هجوم صاروخي إسرائيلي.
وفي ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي أعلن الحرس الثوري الإيراني، مقتل اثنين من عناصره في هجوم إسرائيلي بسوريا، مشيرًا إلى أنهما كانا يؤدّيان “مهمة استشارية”.
وعن سبب تكثيف هذه العمليات بعد عملية طوفان الأقصى، يقول الباحث في الدراسات الإيرانية عبد القادر فايز عبر صفحته بمنصة “إكس” إن هدف “إسرائيل” هو استعادة الردع بمعناه الإقليمي، فلدى “إسرائيل” قناعة بأن استعادة هذا الردع لن تكون ممكنة في حال حصرت المواجهة الراهنة فقط مع حركة حماس وبقية فصائل المقاومة في غزة أو مع حزب الله في لبنان، وبأنه لا بد من تحرك عنيف ومباشر تجاه تموضع إيران العسكري في المنطقة المتمثل بالحرس الثوري ونخبته العسكرية في فيلق القدس.
إيران و”طوفان الأقصى”
على الرغم من تأكيد حركة حماس أن عملية طوفان الأقصى كانت بقرار فلسطيني خالص، وتأكيد إيران وأذرعها الإقليمية وعلى رأسهم “حزب الله” اللبناني أن لا علاقة لهم بالعملية، لا بالتوقيت ولا بالتخطيط، فإن “إسرائيل” تشير بطريقة غير مباشرة إلى أياد إيرانية كان لها الدور الفاعل بما جرى يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول.
وهذا ما يشير إليه الباحث عبد القادر فايز بقوله إن “إسرائيل” تقرأ السياق كله كحالة تراكمية وليس كأحداث معزولة عن بعضها البعض، فهي في عقلها المركزي وتقييمها الإستراتيجي لا ترى عملية طوفان الأقصى معزولة ومفصولة عن إيران وتموضعها الإقليمي، حتى لو حاول العالم بما في ذلك أمريكا إقناعها بعكس ذلك.
من ناحيته يرى الباحث المختص بالدراسات الإيرانية وجدان عبد الرحمن أن الاغتيالات التي أتت بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول كانت بسبب مشاركة هذه القيادات في إدارة المعارك ضد الكيان الصهيوني، سواء من خلال دعم حماس والجهاد الإسلامي في غزة، أم دعم حزب الله، أم حتى دعم الحوثيين في اليمن، لذلك يتم استهدافهم بسبب هذا النشاط.
ويكمل الباحث في الشأن الإيراني حديثه لموقع “نون بوست” قائلًا إن هناك معلومات تؤكد وجود مستشارين إيرانيين وعناصر من “حزب الله” في الداخل اليمني، من أجل تدريب الحوثيين لاستهداف السفن الإسرائيلية والأمريكية في البحر الأحمر، لذلك تتم تصفيتهم.
ما علاقة استهداف القواعد الأمريكية؟
منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى بدأت إيران في تحريك أذرعها بالمنطقة، لاستهداف القواعد الأمريكية في سوريا والعراق، لتثبيت نظرية “محور المقاومة” ووحدة الساحات، إذ كثيرًا ما تعلن “المقاومة الإسلامية في العراق” عن استهداف قاعدة عين الأسد في العراق، أو القواعد العسكرية في شمال شرقي سوريا.
وفي هذا السياق أعلن البنتاغون أن قواته في العراق وسوريا تعرضت، الإثنين الماضي، لهجمات جديدة بالصواريخ والمسيّرات دون وقوع إصابات، مشيرًا إلى إحصاء أكثر من 150 هجومًا منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ولعل الهجوم بطائرة مسيرة على قاعدة أمريكية في الأردن أمس الأحد 28 يناير/كانون الثاني 2023، وأسفر عن مقتل 3 جنود أمريكيين وإصابة 34 آخرين، أحدث وأخطر تلك الهجمات. واتهمت واشنطن مجموعات مسلحة مدعومة من إيران بالوقوف وراء الهجوم وتوعدت بالرد عليه، ونفت طهران صلتها بالهجوم الذي تبنته مليشيات “المقاومة الإسلامية في العراق” الموالية لإيران، وقال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية: “قوات المقاومة في المنطقة لا تتلقى الأوامر منا وتتخذ قراراتها بشكل مستقل”.
وعن علاقة ذلك باستهداف القيادات الإيرانية في سوريا يرى الباحث وجدان عبد الرحمن أن هناك علاقة مباشرة لهذا الموضوع باغتيال القيادات والخبرات الإيرانية في سوريا، ويوضح الباحث الإيراني تلك العلاقة بالقول: “إيران لا تستطيع استهداف الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مباشر أو حتى استهداف إسرائيل بشكل مباشر، رغم ادعاء إيران الانتقام من إسرائيل وأمريكا، لذلك يحركون عناصرهم من الميليشيات لاستهداف هذه القواعد، إذ يتم التنسيق والتخطيط بين إيران وهذه الميليشيات عن طريق هذه القيادات”.
“تسعى إيران من خلال ضرب هذه القواعد إلى الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية في عدة ملفات، منها الملف النووي وملف حرب غزة وما تبني عليه إيران من ادعائها تمثيل محور المقاومة”، يضيف الباحث وجدان.
وكانت صحيفة “واشنطن بوست” قد أكدت في تقرير نشرته قبل أشهر أن العميد أوميد زاده، الذي اغتالته “إسرائيل” مؤخرًا في دمشق كان مسؤولًا عن تحديد الأهداف الأمريكية التي يجب مهاجمتها في سوريا، وكان يقدم المشورة في عمليات استهداف القوات الأمريكية.
هل يحد ذلك من النفوذ الإيراني؟
رغم أن الضربات الإسرائيلية للقوات الإيرانية ليست جديدة على الساحة السورية، فإن تصعيد وتيرة هذه الضربات وتركيزها على شخصيات عسكرية وأمنية كبيرة يطرح تساؤلًا عن مدى تأثير هذه الاستهدافات على النفوذ الإيراني في سوريا والمنطقة بشكل عام.
الكاتب المختص بالشأن الإيراني مصطفى النعيمي يوضح أن تلك الغارات لن تحد من حجم تموضع إيران في سوريا بأي شكل من الأشكال، لأن إيران لديها مشروع يتمثل في تعزيز قدراتها العسكرية في الجغرافيا السورية التي تعتبرها وتدًا لمشروعها باتجاه البحر الأبيض المتوسط.
إلى جانب ذلك تعمل إيران على استثمار هذا المركز بحيث يحدث اشتباك مع الجانب الاسرائيلي وذلك لرفع سقف التفاوض في ملفات إيران العالقة النووية والبالستية والمسيرات، وبالتالي إيران لن تتخلى عن تلك المكاسب رغم أنها تدفع ثمنًا باهظًا لهذا التموضع، بحسب حديث النعيمي لـ”نون بوست”.
ويتوقع النعيمي أن “إسرائيل” ستستخدم تكتيكات مختلفة، منها يدها الطولى المتمثلة بسلاح الجو، في تنفيذ المزيد من عمليات الاغتيالات، لتضمن بذلك الحد من تأثير إيران على المدى الإستراتيجي.