يتنزل لفظ “ديمقراطية” ضمن أبجديات المعجم السياسي الكوني، لئن يميل الوعي الجمعي للمجتمعات حول العالم بوضع تعريف حصري واحدٍ لكلمة ديمقراطية وذلك نظرًا لانتمائها لسجل اجتماعي، في هذا السياق الشعبي يكون تعريف المصطلح “حكم الشعب”، فالمصطلح في الواقع لا يمكنه أن يعني الشيء ذاته في كل الأنظمة الاجتماعية أو السياقات التاريخية المختلفة.
في واقع القرن الواحد والعشرين تحاول القوى الليبرالية فرض مفهوم معين للديمقراطية، وقد يتعدى فرض هذا المفهوم حدود محاولات التعميم الودية إلى التدخل العسكري للإيهام “بنشر الديمقراطية”، إن المقصود حاليًا بالمصطلح السائد هو الديمقراطية التمثيلية، والتي تعد حسب الأطروحات الليبرالية والنيوليبرالية الشكل الأمثل للحكم والأنموذج الصالح لكل المجمتعات البشرية.
التعريف السائد البسيط هو التعريف الذي ينطبق مع النوع الأول وهو الديمقراطية الأثينية القديمة، النوع الثاني هو الديمقراطية التمثيلية، وأخيرًا الديمقراطية التشاركية اللتي ترتكز على “خلق نخبة محلية من المواطنين العاديين لهم القدرة على طرح الحلول الملائمة للمشاكل المطروحة ولمواجهة النخبة المهيمنة محليًا والمتكونة من القوى الضاغطة والفاعلين في الحقل المحلي أساسًا”.
عيوب الديمقراطية
الديمقراطيات الناشئة:
إن العيش في نظام ديمقراطي حديث العهد بعد فترةٍ طويلة من القمع لا يعني أن مشاكل ذلك المجتمع سوف تحل تلقائيًا وبشكل سحري سريع عقب نهاية الحرب أو عقب اندلاع ثورة، بل قد تتحول الأمور إلى صراعات طبقية ودينية بين مكونات المجتمع الواحد وذلك إما تلقائيًا أو تبع مصالح أطراف تستغل فرصة الفراغ السياسي للتدخل حسب مصالحها، غالبًا، ستمر تلك المجتمعات بفترة اضطرابٍ بسبب سوء الإدارة السياسية، وأزمات اقتصادية متعاقبة، مما يؤدي تدريجيًا إلى خيبة أمل واسعة من الديمقراطية المرتجاة، والواقع أن الديمقراطية تحتاج وقتًا وصبرًا ووفاقًا، إنها عملية إرساء معقدة لديمقراطية “حقيقية” على المدى البعيد.
سفينة الحمقى
في الجزء السادس من كتاب الجمهورية، يصف أفلاطون على لسان سقراط في حواره مع أديمانتوس، الديمقراطية بسفينة الحمقى، يقول الفيلسوف الإغريقي إن الديمقراطية نظام يتجاهل الفروق العلمية لأفراد المجتمع ويتجاهل قيمتهم بفرض نوع من المساواة غير المشروطة بينهم، أي أن مصير السفينة لن تحدده النخبة العالمة، بل الأغلبية الجاهلة، أي الحمقى الذين لا دراية لهم بكيفية قيادة السفينة.
الديمقراطية إذًا تفضل الكم على الكيف لأنها تطبق مبدأ سيادة الأغلبية/حكم الأغلبية، بينما الحالة الطبيعية تقتضي تفاوت الناس في الكفاءات والمعلومات وقد تكون الأغلبية جاهلة مغيبة الوعي وتتحول الديمقراطية إلى نقمة.
المساواة أم العدل؟
يقول آرنولد توينبي: “الديمقراطية مجرد شعار من دخان، لإخفاء الصراع الحقيقي بين مبدأي الإنصاف والمساواة”.
تحولت الديمقراطية بشكل سريعٍ من حكم الأغلبية إلى المستوى التمثيلي الذي يعني حكم الأقلية السياسية
تقوم الديمقراطية أساسًا على مبدأ المساواة، المساواة هي رفع أحد الطرفين إلى مكانة الآخر، بينما العدل إعطاء كل ذي حق حقه، انطلاقًا من هذا التعريف، بدأ الجدل عن نجاعة مبدأ المساواة مقابل طرح مبدأ العدل أو الإنصاف.
الديمقراطية المزيفة تعتمد حصرًا على مفهوم المساواة في حين أن النظام الديمقراطي المشروع هو الذي يعتمد العدالة الاجتماعية ثم المساواة القانونية ثم الإنصاف كقواعد تنظيمية للعلاقات بين الأفراد.
العيوب المزمنة
تحولت الديمقراطية بشكل سريعٍ من حكم الأغلبية إلى المستوى التمثيلي الذي يعني حكم الأقلية السياسية، اتسعت إذًا الفجوة بين الديمقراطية النظرية والديمقراطية العملية، لو حققت الديمقراطية حكم الأغلبية، التي ستنقاد وراء ممثليها، فيكون الرأي في ظاهره رأي الشعب، أما في حقيقته فهو رأي قلة من الشعب تمكنت من السيطرة على الحكم.
كما أن عنصر التمثيل يفرض عدم وجود علاقة دائمة بين النائب ومرشحيه مما يصعب دفاع النائب عن حقوق مرشحيه وتفرده برأي ذاتي بحجة أنه يمثل ويعبر عن مصالح الشعب بشرعية التمثيل والنيابة، تكثر في النظام الديمقراطي إجراء الانتخابات، وقصر مدة الحكم مما يؤدي إلى عدم الاستمرار في التزام سياسة واحدة مدة كافية لتحقيق نتائجها وتغير سياسات الحكم قد يخلق جوًا من الفوضى خصوصًا على الصعيد الخارجي وسياسات الدولة مع نظيراتها.
أوقات الأزمات يختل التوازن بين القوى السياسية، في هذه الظروف يضعف العنصر الديمقراطي ويقوى على حسابه العنصر الفردي، تأخذ السلطة التنفيذية من البرلمان جزءًا من صلاحياته التشريعية، الشعب ليس شخصًا معنويًا بالمعنى الكلاسيكي لذا لا يمكن أن تكون هناك إرادة عامة حقيقية سوى إرادة الأغلبية، ودائمًا ما يفضي الأمر إلى إهمال إرادة الأقليات.
إن النظام الديمقراطي رغم ذلك يبقى أقرب من النظام الديكتاتوري إلى آمال الشعوب وتصوراتهم لقيم العدالة والخير، فهل الديمقراطية نهاية التاريخ؟ فيما يجزم الفيلسوف المادي الجدلي كارل ماركس في أن التاريخ الحقيقي للبشر لم يبدأ بعد حتى يقال إنه انتهى، يقول الفيلسوف المعاصر فرانسيس فوكوياما في مقاله الشهير “نهاية التاريخ” إن ما نشهده الآن ليس نهاية للحرب الباردة أو مرور فترة معينة لمرحلة ما بعد الحرب، وإنما نهاية للتاريخ، بوضع حد للأفكار الأيدلوجية في التاريخ الإنساني وانتشار قيم الليبرالية الديمقراطية، أمثل نظامٍ للحكم وأرقى ما توصل إليه العقل البشري.
الإعلام التونسي أصبح مساحة حرة لكنه – مع تنامي عدد القنوات والإذاعات الخاصة – أصبح مخترقًا من قبل أطرافٍ سياسية تسعى لجعله منبر لمكيجة قادتها
وردًا على نظرية فوكوياما كثر الحديث عن البدائل الإيدولوجية للديمقراطية، ولعل أشهر المنظرين جوردون جراهام – الملقب باللاسلطوي – وهو من أكثر المفكرين نقدًا للديمقراطية، على اعتبار أنها أحد أنظمة الحكم وترسخ كمثيلاتها مفهوم الدولة، بينما منظرو اللاسلطوية يعتبرون أن الدولة مصدر للشرور ويسعون إلى مجتمعات دون حكام.
لكن البدائل الإيدولوجية للنظم الديمقراطية موجودة بالفعل ولها مناصروها، لعل جوردون جراهام أكثر المفكرين نقدًا للديمقراطية، على اعتبار أنها أحد أنظمة الحكم وترسخ كمثيلاتها مفهوم الدولة، بينما منظرو اللاسلطوية يعتبرون أن الدولة مصدر للشرور ويسعون إلى مجتمعات بدون حكام.
التجربة التونسية
ديمقراطية هشة:
من بدايات 2011 إلى اليوم، استجمعت الديمقراطية التونسية الفتية شروطها الدنيا لانطلاقةٍ – متعثرة لكن واضحة الهدف – نحو استكمال أهداف الثورة، إذ تعد تونس البلد العربي الوحيد الذي نجح نسبيًا في عملية الانتقال الديمقراطي.
تمت الانتخابات الرئاسية سنة 2014 تحت شعار إنهاء المرحلة الانتقالية “التأسيسية” ودخول المرحلة السياسية الدائمة، مرحلة الاستقرار الديمقراطي، وفيما أشاد العالم بالتجربة التونسية، انتقل التونسيون من حالة “احتفال شعبي” وترحاب مجتمعي بالأحزاب باعتبارها من أدوات الديمقراطية التي يطمحون إليها، إلى شيطنة كلية للأحزاب والعمل السياسي، ودخول المجتمع التونسي في حالة من الإحباط الجماعي ومقاطعة الشأن السياسي واليأس من الديمقراطية المنشودة.
أدى قمع مظاهر التدين واحتكار ابن علي للمجال الديني إلى ظهور قوى دينية فاعلة بعد الثورة، وفتحت الديمقراطية الباب لهذه المجموعات الراديكالية لنشر أفكارها وتجنيد أعضاء جدد في صفوف الشباب
من أكثر الأسباب التي جعلت التونسيين يزدرون السياسة، اغتيال الزعيمين شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي ثم فترة اليأس والخوف التي تلت مع توالي العمليات الإرهابية البشعة، فسرعان ما زرع الإرهاب في قلب العملية السياسية الجديدة الناشئة وتعالت الأصوات المنادية إلى تأجيل الديمقراطية والتفرغ لمواجهة الإرهاب الذي يستهدف الدولة لا الأشخاص وعادت معادلة الأمن مقابل الحرية إلى الواجهة.
ديمقراطية العجائز؟
كثرة الأحزاب واحتكار حزبين للسلطة يؤكد غياب تكافؤ القوى وهو ما يعكس واقعًا سياسيًا هشًا، يغيب عنه الصوت الشبابي، فقد نجحت دعوات التأييس من السياسة في امتصاص زخم الحماس لحرية العمل السياسي وفقدت نسبة كبرى من الشباب الذين لولاهم لما كانت الثورة، الشباب، هم الفئة العمرية الطاغية في تونس، ومع ذلك الفئة الأقل مشاركة في عملية الانتقال الديمقراطي والأقل وجودًا على الساحة السياسية.
المال السياسي
مع أن الإعلام التونسي أصبح مساحة حرة لكنه – مع تنامي عدد القنوات والإذاعات الخاصة – أصبح مخترقًا من قبل أطرافٍ سياسية تسعى لجعله منبر لمكيجة قادتها، تعدت لوبيات المال التمويلات المشبوهة للأحزاب وحملاتها الانتخابية و”الاستثمار في السياسة” إلى اختراق المشهد السياسي والإعلامي على مدى سنوات.
التطرف الديني
أدى قمع مظاهر التدين واحتكار ابن علي للمجال الديني إلى ظهور قوى دينية فاعلة بعد الثورة، وفتحت الديمقراطية الباب لهذه المجموعات الراديكالية لنشر أفكارها وتجنيد أعضاء جدد في صفوف الشباب المحرومين موازاة مع صعود الإسلاميين الى الحكم وفتح المجال أمام تنظيماتٍ تكفيرية كأنصار الشريعة.
المعارك الجانبية
أتاحت الديمقراطية للقوى المتضررة من الثورة كأزلام النظام أن تنطلق في مسار مضادٍ تخريبي، إضافة إلى معارك إيديولجية عبثية، فإلى جانب الارتباك البرلماني والصراعات بين الحكومة واتحاد الشغل، تمر أحزاب الحكم بأزمات داخلية عميقة، فبينما شهد حزب نداء تونس تفككًا هيكليًا وانقسامًا، تمر حركة النهضة بمرحلة إعادة تأسيس وصراعاتٍ هوية داخلية خاصة بعد المؤتمر الأخير.
الديمقراطية في الوطن العربي أولوية ملحة، لكن الواقع العربي ما انفك يعادي مسألة إرساء الديمقراطية
نداء تونس: بعد أن تعطلت هياكل الحزب القيادية وانخراط مؤسسية في حرب مواقع وتوزع بين مناصب حكومية ورئاسية، توقع الكثير نهاية الحزب وانشغل الرأي العام التونسي والإعلام بصراعاته الداخلية مقابل إهماله للمشاكل الحقيقية للشعب، أزمة الحكم المفاجئ أصابت الحزب بالشلل الكلي في فترة ما، لكنه مع ذلك من المتوقع أن يكتسح نتائج الانتخابات البلدية القادمة.
حركة النهضة: إن الحركة في وضع مربك، الحزب ذو قاعدة اجتماعية متحركة وغير متجانسة، أفقها النظري ملتبس بين المتشبثين بجانبها الدعوي الأصلي والملتزمين بالمرجعية الإسلامية، ودعاة الحداثة والمدنية.
لا شك أن الديمقراطية في الوطن العربي أولوية ملحة، لكن الواقع العربي ما انفك يعادي مسألة إرساء الديمقراطية، وتتعلق أغلب العراقيل بطبيعة الثقافة السياسية، العلاقة بين الحاكم والمحكوم قائمة على طاعةٍ عمياء ومبايعة إلزامية دون مراجعة أو نقد، ثم إنها تقوم على تمجيد الزعيم، لكن الواقع العربي الجديد سيفتح الباب على مصراعيه لإعادة النظر في كل المفاهيم والمصطلحات القائمة.