خلافًا للتوصيف الذي تطلقه عليه الحكومة السودانية ووسائل إعلامها، فإن شركات طيران عديدة ومواقع عالمية تُلحق بمطار الخرطوم صفة “المدني” ليكون الاسم باللغة الانجليزية (Khartoum Civil Airport)، ويجزم مواطنون سودانيون، ناهيك عن الأجانب، أن صفة “دولي” لا تنطبق بأي حال من الأحوال على مطار الخرطوم.
المطار الذي يفترض أنه الواجهة الحضارية للبلد يمثل إحدى صور التراجع والتخلف الذي يشهده السودان في الآونة الأخيرة، إذ لم تشفع له أقدميته وسط المطارات الإفريقية ولا إرث السودان في مجال الطيران، فقد أُسس في العام 1947م عندما كان السودان تحت التاج البريطاني، وخضع المطار لعمليات توسعة من قبل الحكومات الوطنية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي عندما كانت الخطوط الجوية السودانية (سودانير) من أضخم شركات الطيران الإفريقية، قبل أن تنهار كما انهارت العديد من المؤسسات والمشروعات التي كان يفاخر بها السودان مثل السكك الحديدية والخطوط البحرية ومشروع الجزيرة وغيرها.
ونظرًا لتجاوز النمو العمراني الموقع الحالي لمطار الخرطوم الذي أصبح يشكل عائقًا للحركة العمرانية في المنطقة، فضلًا عن أنه يهدد مقاييس السلامة الجوية لوقوعه في قلب العاصمة وأكثر شوارعها ازدحامًا، قررت الحكومة إنشاء المطار الجديد الذي تأجل عدة مرات بسبب عجز الحكومة عن إيجاد تمويل لبنائه رغم أنها أهدرت مليارات الدولارات في مشروعات أخرى فاشلة مثل سد مروي والنفرة الزراعية وتوطين العلاج بالداخل، فمنذ العام 2006 وضعت الحكومة السودانية حجر الأساس للمطار الجديد الذي لم ير النور حتى الآن.
شرطة الجوزات في السودان لا تزال تستخدم الطرق البدائية في تسجيل القادمين والمغادرين عن طريق استمارة تملأ بخط اليد يختم عليها ضابط الصف، بالإضافة إلى ختمه على جواز السفر
تبدو مظاهر التخلف والكآبة في مطار الخرطوم الحالي واضحة للعيان منذ الوهلة الأولى للقادمين إلى البلاد، فعند لحظات الهبوط يلاحظ المسافر ارتجاج الطائرة الشديد عندما تلامس عجلاتها أرضية المطار، ثم يرى أكوام وهياكل الطائرات القديمة التي ترابط في الساحات على مد البصر، بعدها تبدأ الصدمات الحقيقية عند وصول المسافر إلى صالة الجوازات حيث يجد في انتظاره ضابط الصف بوجهه المكفهر المتجهم “إلا من رحم ربي”.
وهنا نشير إلى أن شرطة الجوزات في السودان لا تزال تستخدم الطرق البدائية في تسجيل القادمين والمغادرين عن طريق استمارة تملأ بخط اليد يختم عليها ضابط الصف، بالإضافة إلى ختمه على جواز السفر، بعد أن تغادر الجوازات تجد نفسك تمر تلقائيًا بشاب آخر يرتدي ثيابًا مدنية يسألك عن جواز سفرك لينظر إليه بسرعة ثم يعيده إليك، هذا هو ممثل جهاز الأمن والمخابرات.
وفيما يتعلق بالحقائب فذلك شأن آخر، يجب عليك كمسافر أن تنتظر إلى ما شاء الله، حيث لا يحق لك أن تتذمر أو تبدي احتجاجًا على تأخر وصولها، فبعد أن يتكرم أمن المطار والجمارك بإلقاء النظرة على الحقائب تأتي إليك عبر “سير” قديم مزر، لترفعها بعد ذلك عبر حامل الأمتعة المتهالك والذي لم يجدد منذ فترة طويلة، عندئذ تتبقى لك الخطوة الأخيرة في طريقك إلى خارج المطار وهي مقابلة شاب أو فتاة تسألك بترفع عن الحقائب والأمتعة التي بحوزتك ومطابقتها للأرقام المرفقة مع بطاقة الصعود الخاصة بك.
هذا بالنسبة للقادمين إلى السودان عبر مطار الخرطوم، أما المغادرون فمعاناتهم ليست أقل ولا هم بأفضل حال، إذ سيقابلهم في البداية أمن المطار يسألهم بذات الغرور عن الوجهة وشركة الطيران، ثم يجدون في انتظارهم شبابًا صغار السن هم ممثلو الخدمة الوطنية وللأمانة فإن غالبيتهم يمتازون باللطف وحسن التعامل، ليتوجه المسافر بعد ذلك لإكمال إجراءات بطاقة الصعود في الصالة الصغيرة والتي تكون مكتظة على الدوام لضيقها وعدم قدرتها على استيعاب أعداد كبيرة من الناس، ثم على المسافر تعبئة الاستمارة البدائية التي تستفسر من جديد عن وجهتك والناقلة والغرض من السفر، بعد ذلك تمر على مندوب جهاز الأمن ليتأكد من عدم وجود موانع “سياسية” تحول دون سفرك، ومن ثم صالة مراقبة الجوازات لتجد المناظر ذاتها التي تحدثنا عنها أعلاه.
تصنيف شركات طيران عالمية لمطار الخرطوم بأنه مطار مدني تصنيف صحيح تمامًا فكلمة “دولي” يفتقر إلى أبسط مقوماتها، وهي النظافة والكوادر المؤهلة التي تعرف كيفية التعامل مع المسافرين
شماعة الإمكانيات ليست مبررًا للتردي الموجود في مطار الخرطوم، فرسم الابتسامة وحسن التعامل مع الجمهور لا يكلف مالًا إذا ما تابعت الجهات المعنية سلوك موظفي المطار عبر كاميرات المراقبة أو بأي آلية أخرى، كما أن تنظيف المرافق ودورات المياه ليس بالأمر الصعب حتى لو تطلب الأمر إنشاء مرافق جديدة، فضلًا عن ضرورة صيانة مدرج المطار (Runway)، بل لماذا لا تُنشئ إدارة المطار مدرجًا آخر يمكن أن يكون احتياطيًا في حال حدوث طارئ كما حصل الأسبوع الماضي مع الطائرة السورية التي انزلقت وكادت أن تتسبب في حدوث كارثة لولا لطف الله؟
نعلم أن حركة الطائرات في مطار الخرطوم محدودة بعد خروج عدد من الشركات العالمية مثل الألمانية “لوفتهانزا” والهولندية “KLM” و”هينان” الصينية وغيرها، لكن من المعيب أن يكون لمطار الخرطوم مدرج وحيد بسببه تتنظر الطائرات المغادرة حتى تهبط طائرة قادمة إذا تصادف وصولها في التوقيت نفسه وبالعكس.
إن تصنيف شركات طيران عالمية لمطار الخرطوم بأنه مطار مدني تصنيف صحيح تمامًا فكلمة “دولي” يفتقر إلى أبسط مقوماتها، وهي النظافة والكوادر المؤهلة التي تعرف كيفية التعامل مع المسافرين إلى جانب الترتيب والنظام، وهي ميزات متوفرة في مطارات سودانية يفترض أنها صغيرة مثل مطار بورتسودان الذي يفوق مطار الخرطوم بكثير حسب رأي مستخدميه.
هناك أيضًا ما يسمى بتأشيرة الخروج، وهي بدعة سودانية خالصة لا توجد في أي من مطارات العالم، حيث إن المسافر من السودان أيًا كان مواطنًا أو أجنبيًا مُطالَب بالحصول على هذه التأشيرة بمقابل مادي حتى يستطيع المغادرة من البلد وأصبحت تشكل هاجسًا كبيرًا للجميع، لأن الشخص قد لا يتمكن من إنجازها في الوقت المناسب قبل الرحلة، وإذا أراد أن يقوم بإجرائها في المطار لربما يفاجأ بانقطاع التيار الكهربائي أو بالجملة الجاهزة “السيستم داون”.
إذا لم تولِ الحكومة السودانية مطار الخرطوم اهتمامها، فإننا نخشى أن يأتي يوم تهرب فيه ما تبقى من شركات الطيران الخارجية وتلغي رحلاتها من وإلى السودان
أما وقد تبخرت عائدات النفط المقدرة بـ70 أو 80 مليار دولار، ولم يُستثمر جزء قليل منها في إنشاء مطار يليق بالسودان وأهله وزواره، وفشلت الحكومة كذلك في توفير قرض صيني للمطار الجديد بعد تراكم مديونيات بكين لدى الخرطوم، فلماذا لا تقوم حكومة بكري حسن صالح باتخاذ قرارين شجاعين، أولهما إجراء صيانة عاجلة في صالات ومبنى المطار الحالي وتأهيل منسوبيه ثم تسلميه إلى شركة ذات كفاءة عالية لتقوم بإدارته والمحافظة عليه.
وثانيهما بحث إمكانية التعاقد مع شركة أو مؤسسة دولية لبناء المطار الجديد بنظام حق الانتفاع، إذ إن مطار نيروبي على سبيل المثال يرفد الاقتصاد الكيني بنحو 2.5 مليار دولار سنويًا، وإذا أخذنا في الاعتبار موقع السودان الذي يتميز عن كينيا نجد أن الفائدة ستكون أكبر، خصوصًا أن هناك دراسة أجرتها الخطوط الألمانية “لوفتهانزا” توقعت فيها أن تبلغ حركة البضائع في مطار الخرطوم الجديد مليار دولار سنويًا، غير أن الخطوط الألمانية نفسها انسحبت من الخرطوم مطلع 2014 بسبب مشاكل في تحويل أرباحها بسبب شح النقد الأجنبي لدى بنك السودان المركزي، وسبقتها الخطوط الهولندية وشركات أخرى بريطانية وصينية.
إذا لم تولِ الحكومة السودانية مطار الخرطوم اهتمامها، فإننا نخشى أن يأتي يوم تهرب فيه ما تبقى من شركات الطيران الخارجية وتلغي رحلاتها من وإلى السودان، وهو أمر وارد بدت إرهاصاته في تقليص طيران الاتحاد الإماراتية رحلاته بين الخرطوم وأبوظبي إلى 4 رحلات أسبوعية بدلًا من 6.