حين تقرر الشروع في شراء منزلك، فإن غالبًا ما تختار تفاصيله وفق إمكانياتك وأحلامك بالاستقرار في “بيت العمر”، لكن هذه الأمنية لا تنطبق على الفلسطينيين الذين تهجروا ولا زالوا من أراضيهم ومنازلهم قسرًا منذ عقود مضت.
تتكرر النكبة في كل المدن والقرى الفلسطينية من وقت لآخر، وتكمن قسوتها بأنك ترحل عن بيتك وذكرياتك رغمًا عنك كما يجري اليوم في قطاع غزة منذ بداية حرب طوفان الأقصى، فقد بات الجيل الجديد يدرك جيدًا ما عاشه الأجداد آنذاك، لكن بطريقة أشد قسوة، ففي قطاع غزة لم يترك الاحتلال بيتًا إلا وأصابه بالدمار والحرق والقصف، بل حوّل مربعات سكنية بأكملها إلى ساحات ركام.
وفق إحصائية أخيرة للمكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، فإن نحو 69 ألف وحدة سكنية هدمها الاحتلال بشكل كلي ولم تعد صالحة للسكن، و290 ألف وحدة تضررت بشكل جزئي.
تدمير البيوت ومحو الذكريات
لم يتوقف الاحتلال الإسرائيلي عن ترحيل الفلسطيني من بيته أو قطع علاقته بالحجر الذي بناه ليعيش حياة مستقرة مع عائلته، بل يحرص على حرمان الفلسطيني من الاستقرار ومن حقه في تقرير المصير.
اليوم يرفض الغزي كل ما يتردد عبر وسائل الإعلام العبرية من سيناريوهات لتهجيره إلى سيناء أو دول أوروبية، فلا يريد تكرار المأساة كما أجداده الذين أجبروا آنذاك على اللجوء إلى دول الجوار أو لمناطق أخرى داخل فلسطين، وسط صمت المجتمع الدولي الذي عجز عن فرض قرارته لا سيما القرار 194 الذي يؤكد على حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم الأصلية، واستعادة الممتلكات والتعويض وفق القانون الدولي ومبادئ العدالة.
قصص النزوح خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة تحتاج إلى مجلدات لتدوينها، إذ تذكر نرمين سالم أنها عاشت مدة 10 سنوات بعد الزواج في غرفة صغيرة، وحين تمكن زوجها من تشييد بيت لها، لم تمكث فيه أكثر من أسبوع حتى جاءت الحرب ونسفته لتمحي كل شيء، فهي لم تهنأ بمنزلها الذي جلبته وزوجها بعد سنوات من العمل الشاق.
تقول لـ”نون بوست”: “لا أريد تصديق أي صورة تأتيني لمنزلي في مدينة غزة وتحوله إلى ركام، لم نستطع إخراج أي شيء منه، كل البيت حرق ثم نسفته الدبابات (..) الحجر غالي ولا قيمة للأشياء التي سأعوض بها بعد الحرب من الجهات الرسمية”.
وأكثر ما يزعجها هو عدم قدرتها على إجابة صغارها عن موعد انتهاء الحرب والعودة إلى البيت، فصغيرتها زينة دومًا تسألها: “ماما ألعابي حرقوها اليهود؟ ماما هل سأجد بيت عروستي الباربي؟”.
اليوم تقيم نرمين في خيمة بمدينة رفح، وتضطر وزوجها ليلًا وسط البرد القارص إلى اصطحاب صغارهم لدورة المياه التي تبعد عن الخيمة عشرات الأمتار.
أما في منطقة الزوايدة، تنزح السيدة سمية فرج – 63 عامًا – برفقة عائلتها المكونة من 40 شخصًا، جميعهم يقيم في “شاليه” بعدما تركوا بيوتهم في حي الرمال قسرًا بعد شهر من الحرب، ينصبون الخيام داخل الشاليه ويرفعون الرايات البيضاء في إشارة إلى أنهم “مدنيون”.
كل يوم تستيقظ فيه تتمنى أن تفتح عينيها وتكون في بيتها، تحكي أنها نادمة كثيرًا لخروجهم من البيت، تقول: “ليتنا موتنا في بيتنا ولم نخرج (..) القصف والدمار في كل مكان حتى هنا حيث نقيم تسقط علينا شظايا الصواريخ وقذائف الزوارق الحربية”.
وتضيف لـ”نون بوست”: “اشتقنا لحياتنا قبل الحرب كثيرًا، البيت ليس حجارة فقط بل ذكريات، فكل ركن فيه حكاية مميزة أو مشكلة وقعت بين الأبناء وتراضون فيها (..) فهمنا جيدًا معنى النكبة والأيام التي عاشها أهالينا سنة 1948”.
ينصت إليها والدها المسن أبو سعد الذي يبلغ من العمر 88 عامًا، ويدرك كل شيء حوله لكنه يفضل البقاء صامتًا، فقط ذكر أن “هذه الحرب لا تشبه وقت هجرتنا (..) هذه الحرب بشعة أفقدتني ابني وعائلته”.
لتقاطعه ابنته سمية: “نريد انتهاء الحرب لنبكي من فقدنا، هذه المرة لا وقت للحزن فقط نعيش اليوم لتأمين أنفسنا”.
الدمار.. هدف الاحتلال الأول
في السنوات الأخيرة لجأ آلاف الغزيين إلى حيل لتأمين أنفسهم في بيوت علها تبقى وتحفظ ذكرياتهم وتفاصيل حياتهم، فهربوا إلى الأبراج السكنية ظنًا بأن “إسرائيل” لن تطاردهم فيها، لكن ما حدث كان العكس، فكانت الأبراج صيدًا ثمينًا للاحتلال لإشباع رغبته بالانتصار، فتعمد قصفها وتشريد من فيها، كحال السيد أشرف الشوا الذي عاد من غربته وقرر شراء بيت في برج سكني بحي تل الهوا غرب مدينة غزة.
سكن الرجل بيته في عام 2012 بعدما عاد من السعودية ليستقر وسط عائلته، لكن في حرب 2014 قصف البرج ومسحت شقته، وقبل 3 سنوات أعيد تشييد البرج، ليسقط البرج مرة أخرى بعد شهر واحد من الحرب الأخيرة.
يقول بحسرة وألم لـ”نون بوست”: “أن يصلك فيديو والبرج الذي تسكنه يسقط أرضًا، تشعر كأن قلبك يخلع، كل شقاء العمر يذهب بلمح البصر (..) حتى النوم على سريرك وارتداء ملابسك وشرب القهوة في فنجانك ربما هي أشياء عادية، لكن لمن فرض عليه النزوح حلم كبير سيتحقق بانتهاء الحرب”، معلقًا: “سأعمر بيتي من جديد ولن أرحل عن غزة حتى آخر نفس”.
أما السيدة أم شادي وهي مصرية الأصل تعيش في مدينة غزة منذ عقدين، لا تزال في بيتها برفقة أبنائها ومعارفهم الذين نزحوا من الأبراج شمال القطاع، في كل مرة يشتد القصف ويحاول أحد النازحين الخروج إلى خيمة ترفض حفاظًا على حياتهم، فهناك في الخيام الحياة قاسية كما يروي من يأوي إليها خاصة في ظل البرد الشديد.
وحين يذكر أحدهم أمامها محاولته التنسيق للسفر عبر معبر رفح ودفع مبلغ كبير من المال يصل إلى 8 آلاف دولار تقف في وجهه قائلة “فين رايحين؟ دي فلسطين لمين حتتركوها”.
وفي إحدى المرات قرر أبناؤها الخروج بعدما اشتد القصف حول منطقة سكناهم، صرخت في وجههم “ده بيتي مش حطلع مني” وراحت تنظر لكل زوايا المنزل الذي شيدته وزوجها بعد سنوات طويلة من الغربة، قائلة: “مش حطلع من بيتي لو هدموه فوق رأسي”.
يكتم الرجال دمعتهم، بينما تراقب النساء ممالكهن تنهار أمام أعينهن، فهذا السكن الأمان والأسرة التي يتعمد الاحتلال تدميرها لتشتيت العائلة التي تحرص ربة البيت على لملمتها.
لا تزال عملية حرمان الفلسطيني من حقه في السكن مستمرة، ومع زيادة وطأتها في السنوات الأخيرة في الضفة المحتلة والقدس كحال غزة، إذا أقدم أحدهم على تنفيذ عملية بطولية، لكن مع كل ضربة يعتقد الاحتلال أنها ستزحزح الفلسطيني عن بلده وتدفعه للهجرة بحثًا عن الاستقرار، تكون النتيجة عكسية فيتمسك بأرضه وإعادة مسكنه من جديد حتى لو هدم ألف مرة.