“أصدرنا تأشيرات الدخول لأعضاء الوفود من الطرفين، وننتظر اتخاذ الخطوات الأخيرة حتى يتمكن الدبلوماسيون من تفقد السفارات والقنصليات للعودة إليها”، بهذه الكلمات أجاب وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، سؤالًا بشأن عودة العلاقات الدبلوماسية بين بلاده والمملكة العربية السعودية خلال حوار له مع وكالة الطلبة الإيرانية “إسنا”.
ظريف كشف عن استئناف الزيارات الرسمية بين طهران والرياض في الأسبوع الأول من سبتمبر القادم عقب انتهاء موسم الحج، تمهيدًا لإعادة فتح السفارات بين البلدين، في إشارة تحمل بين ثناياها إمكانية تحسن العلاقات في ضوء الجهود الدبلوماسية المبذولة من الطرفين خلال الآونة الأخيرة.
تصريحات وزير الخارجية الإيراني جاءت بعد أيام قليلة مما نشرته مجلة “أتلانتيك” الأمريكية بشأن نية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الإطاحة بعادل الجبير – صاحب النهج الصارم ضد طهران – من وزارة الخارجية، وتعيين شقيقه الأمير خالد بن سلمان سفير المملكة في واشنطن، بدلًا منه، وهو ما أثار العديد من التساؤلات حينها، فهل تضحي الرياض بالجبير لأجل عيون إيران؟
اختيار الصدر والأعرجي – المقربين من إيران – على وجه الخصوص لتوجيه دعوة الزيارة للمملكة يحمل رسالة واضحة تكشف نية السعودية في التقارب مع طهران
الرياض تخطب الود
المستجدات الإقليمية الراهنة التي فرضت نفسها على المشهد السعودي الداخلي دفعت الرياض إلى تدشين مرحلة جديدة من التقارب مع إيران عبر بابها الخلفي في العراق، وذلك حين شعرت بانسداد الأفق في اليمن في ضوء ما تتكبده من خسائر مادية وبشرية، فضلًا عن تراجع دورها في الملف السوري وتوتر العلاقات مع جارتها قطر، بالإضافة إلى التوتر الناجم عن تصعيد محمد بن سلمان لخلافة والده في أعقاب الإطاحة بولي العهد السابق محمد بن نايف.
تغير ملامح الخارطة السياسية في المنطقة وانحسار الدور السعودي الإقليمي كان الدافع الأبرز أمام ولي العهد لإعادة النظر في السياسة الخارجية لبلاده وحزمة التحالفات التقليدية ومعاييرها المعتمدة والمتعارف عليها من قبل الرياض طيلة العقود الأخيرة، ومن ثم كان مواربة الباب مع طهران أمرًا غاية في الأهمية.
ولم يكن باستطاعة المملكة طرق أبواب نظام الملالي إلا عن طريق وسطائه في المنطقة، ومن هنا كان التقارب مع العراق، فبعيدًا عن مساعي إعادة بلاد الرافدين إلى الدفء العربي مرة أخرى كأحد أبرز الدوافع السعودية من وراء التقارب مع العراق، إلا أن تسمية الشخصيات العراقية التي وجهت لها الدعوة لزيارة المملكة (مقتدى الصدر وقاسم الأعرجي) يحمل بين ثناياه دلالات وإشارات واضحة المعالم.
فالصدر لم يعرف عنه تقاربه مع الرياض، بل له مواقف عدائية واضحة ضد المملكة، فهو من طالب بإغلاق السفارة السعودية في بغداد احتجاجًا على إعدام الشيخ السعودي نمر النمر داعيًا السعوديين إلى التظاهر، كما أنه صاحب التهديد باجتياح المملكة حال جرى المس بالمرجع آية الله الشيخ عيسى قاسم في البحرين، إضافة إلى وصفه آل سعود بـ”الظالمين” وحكومتهم بـ”الإرهابية” خلال تعليقه على تدخل القوات السعودية في قمع المتظاهرين البحرينيين.
إيران اتخذت العديد من الخطوات المطلوبة لتخفيف حدة التوتر مع السعودية وجاء دور الأخيرة لتقوم بذات الخطوات
علاوة على ذلك فإن وزير الداخلية الأعرجي أحد أبرز الداعمين لقوات الحشد الشعبي المدعومة إيرانيًا في العراق، والذي كشف منذ أيام عن طلب السعودية منه الوساطة بينها وبين إيران بغية تخفيف حدة التوتر وفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.
وبحسب الخبراء فإن اختيار الصدر والأعرجي – المقربين من إيران – على وجه الخصوص لتوجيه دعوة الزيارة للمملكة يحمل رسالة واضحة تكشف عن نية السعودية في التقارب مع طهران، حتى وإن نفت ذلك الخارجية السعودية فيما بعد من باب الدفاع عن مرتكزاتها السياسية في المنطقة، وهو ما تعززه بعض الشواهد الأخرى على رأسها زيادة أعداد الحجيج الإيرانيين هذا العام، والتعهد بتوفير سبل الراحة والحماية لهم، كذلك السماح لهم بزيارة مقابر البقيع في المدينة المنورة.
“نون بوست” في تقرير له، كشف عن 5 أهداف وراء خطوات التقارب الدبلوماسي مع إيران عبر بوابة العراق في الفترة الأخيرة هي: العودة للمشهد العراقي مرة أخرى بعد انسحاب دام ما يقرب من 14 عامًا منذ 2003 وحتى الآن، مناهضة النفوذ الإيراني عراقيًا بعد سيطرة شبه كاملة على خارطة بلاد الرافدين السياسية والأمنية، محاولة الخروج من المأزق اليمني بعد أكثر من عامين من الحرب تكبدت فيها السعودية خسائر مادية وبشرية هائلة، تخفيف حدة التوتر في المنطقة الشرقية بسبب المواجهات بين الشيعة وقوات الأمن، وأخيرًا التمهيد لولي العهد محمد بن سلمان كما سيرد تفصيله لاحقًا.
خلال وصول مقتدى الصدر الأراضي السعودية
وطهران ترحب
حمل حوار وزير الخارجية الإيراني مع وكالة “إسنا” رسالة ترحيب للرياض بشأن استعداد طهران المضي قدمًا نحو تخفيف حدة التوتر في العلاقات بين البلدين، مؤكدًا أن الزيارات الدبلوماسية الرسمية ستنطلق عقب انتهاء موسم الحج لبحث التفاصيل المتعلقة بفتح السفارات وإنهاء تأشيرات الدبلوماسيين هنا وهناك.
ظريف في تعليقه على ما صرح به المتحدث باسم الخارجية بهرام قاسمي، من أن إيران اتخذت العديد من الخطوات المطلوبة لتخفيف حدة التوتر مع السعودية وجاء دور الأخيرة لتقوم بذات الخطوات، أشار إلى استعداد بلاده للحوار مع السعودية وبذل الجهود كافة من أجل التوصل إلى حل سياسي لتسوية الأزمات في المنطقة، مطالبًا المملكة بالسير في هذا الطريق بعيدًا عن البحث عن مصالحها عبر إثارة التوترات، كما هو الحال في اليمن وسوريا على حد قوله.
لم يكن باستطاعة المملكة طرق أبواب نظام الملالي إلا عن طريق وسطائه في المنطقة، ومن هنا كان التقارب مع العراق
وردًا على ما أثاره وزير الخارجية العراقي قاسم الأعرجي، بخصوص طلب الرياض من السلطات العراقية التوسط بين البلدين قال: “لا يجب أن نحبس أنفسنا فی سجن التصریحات السیاسیة وتحدیدًا حینما تطرح فی الإعلام وتکون غیر دقیقة”، ملفتًا إلى إجرائه عدد من المحادثات الهاتفية مع المسؤولين العراقيين الذين زاروا المملكة مؤخرًا وخلص إلى أن ما يثار في الإعلام كلام غير دقيق، وإن كانت طهران ترحب بأي حوار بناء مع الرياض.
وزيرا خارجية السعودية وإيران على هامش اجتماع منظمة المؤتمر الإسلامي في إسطنبول الشهر الحالي
فهل يكون الجبير الضحية؟
بعض المحللين ذهبوا إلى أن وزير الخارجية السعودي الحالي عادل الجبير، يمثل حجر زاوية أساسي في تعميق الفجوة بين الرياض وطهران، في ضوء ما يتبناه من موقف عدائي صارم ضد إيران، وهو ما تجسده بعض التصريحات التي خرجت عنه في الآونة الأخيرة آخرها قوله إن إيران الراعي الرسمي المنفرد للإرهاب في العالم، وذلك خلال كلمته بمؤتمر ميونيخ للأمن الذي عقد في ألمانيا فبراير الماضي، والذي طالب من خلالها المجتمع الدولي بوضع خطوط حمراء لوقف تصرفات إيران.
ووفق هذا الموقف الصارم يتوقع أنصار هذا الفريق أن إطاحة الرياض بالجبير من على عرش الدبلوماسية السعودية خطوة تغازل بها طهران في إطار مساعي التقارب وتحسين مستوى العلاقات بين الجانبين، كما فعلت مع ثامر السبهان سفير المملكة الأسبق في بغداد، حين بات مصدر قلق للعراقيين مهددًا مستقبل العلاقات بين البلدين، مما دفع العاهل السعودي لاستدعائه وعزله من منصبه، وإن عينه بعد ذلك وزيرًا لشؤون الخليج.
الإطاحة بشخص مخضرم دبلوماسيًا مثل الجبير ليس عملية سهلة كما يقول مركز ستراتفورد الأمريكي، لكنه في الوقت ذاته كشف عن وجود المبررات الداعمة لقرار مثل هذا حال حدوثه
أنصار هذا الرأي يستندون إلى ما كشفته وكالة “سبوتنيك” نقلًا عن مجلة “أتلانتيك” الأمريكية منذ أيام بشأن نية ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، عزل عادل الجبير الذي يعد ثاني شخص يتولى هذا المنصب دون أن يكون عضوًا في الأسرة الحاكمة، وتعيين شقيقه الأصغر السفير السعودي في الولايات المتحدة خالد بن سلمان بدلًا عنه كوزير مقبل للخارجية السعودية.
إلا أن هناك فريق آخر يقلل من هذه التصريحات كونها جاءت في إطار الصراع الدبلوماسي الذي لا يعكس حقيقة البرودة في العلاقات بين البلدين، وهو ما تعززه مصافحة وزيري خارجية البلدين، الجبير وظريف، وعناقهما على هامش الاجتماع الطارئ لمنظمة التعاون الإسلامي الذي عقد في إسطنبول بداية الشهر الحالى من أجل دراسة التطورات المتعلقة بالقدس المحتلة والمسجد الأقصى.
أنباء تشير إلى عزم ولي العهد تعيين شقيقه الأصغر وزيرًا للخارجية
لتعزيز نفوذ ابن سلمان
الإطاحة بشخص مخضرم دبلوماسيًا مثل الجبير ليس عملية سهلة كما يقول مركز ستراتفورد الأمريكي حسبما نقل “هاف بوست”، لكنه في الوقت ذاته كشف وجود المبررات الداعمة لقرار مثل هذا حال حدوثه، على رأسها اتهامه باتباع نهج صارم للغاية ضد إيران، مما يعرض أمن المملكة للخطر خاصة في ظل المستجدات الراهنة التي تغيرت فيها ملامح النفوذ السعودي في المنطقة، مقارنة بالخطوات المتقدمة الملموسة التي تحققها طهران سواء في اليمن أو سوريا، مما يجعل من التقارب معها خطوة استراتيجية لالتقاط الأنفاس على الأقل في هذه المرحلة.
وربما تقود هذه الخطوة إلى تعزيز نفوذ أبناء سلمان بصورة كبيرة، خاصة لو صحت المعلومات التي كشفت عنها مجلة “أتلانتك” الأمريكية بتعيين خالد بن سلمان وزيرًا للخارجية، وبهذا يسيطر أبناء سلمان على معظم مفاتيح المملكة الاستراتيجية: ولاية العهد، الخارجية والنشاط الدبلوماسي، النفط ومصادر الطاقة عن طريق الشقيق الثالث الأمير عبد العزيز بن سلمان بن عبد العزيز والذي عين وزير لشؤون الطاقة والمعادن خلال حزمة الأوامر الملكية الصادرة في أبريل الماضي.
وزير الخارجية السعودي الحالي عادل الجبير، يمثل حجر زاوية أساسي في تعميق الفجوة بين الرياض وطهران، في ضوء ما يتبناه من موقف عدائي صارم ضد إيران
وبعد تخلص محمد بن سلمان من المنافس الأشرس له على العرش، عمه الأمير محمد بن نايف، ومراكز القوى الداعمة له داخل القصر وخارجها، وإحكام قبضته على المنظومة الأمنية، فضلًا عن سيطرته على خارطة العلاقات الخارجية والنشاط الدبلوماسي وتعزيز ذلك بفرض الهيمنة على الاقتصاد المتمثل في الطاقة والنفط، يصبح الطريق ممهدًا بصورة غير مسبوقة أمام ولي العهد نحو خلافة والده، وهو المطلوب إثباته.
ورغم ما تحمله خطوة تبادل الزيارات الدبلوماسية من دلالات إيجابية بشأن مستقبل ودي أقل حدة بين البلدين، فإنها ربما لم تكن كافية لتهدئة وطمأنة طهران والرياض حيال كل منهما الآخر، لا سيما في ظل صراع النفوذ في اليمن وسوريا فضلًا عما يمثله التقارب الإيراني التركي من مصدر القلق للمملكة.
ومن ثم فإن كانت المؤشرات تسير نحو فتح صفحة جديدة في العلاقات بين الطرفين ربما تدفع السعودية إلى الإطاحة بوزير خارجيتها صاحب المنهج الصارم ضد إيران في خطوة كشفت بعض المصادر احتمالية حدوثها في إطار السياسة الجديدة التي يتبناها ابن سلمان، إلا أن الأمور ربما تحتاج إلى مزيد من الوقت للبرهنة عليها في إطار ما تذهب إليه الحقائق الجيوسياسية المتواصلة في المنطقة والتي ترجح أن يظل التنافس بين القوتين لسنوات قادمة.