غالبًا ما يعتقد البعض أن الحديث عن اليهود العرب أو اليهود الذي يسكنون دول إسلامية أمرًا مثيرًا للاهتمام والاستغراب في آن واحد، والسبب في ذلك حالة التناقض الشديدة بين عقائد كل فئة والخلفية الثقافية والاجتماعية وحتى التاريخية لكلا الطرفين.
وبناءً على مصادر الوكالة اليهودية لعام 1946 فقد وصلت أعداد اليهود في البلاد العربية إلى 700 ألف يهودي أي 6% من مجموع اليهود في العالم والذي كان يبلغ آنذاك 16 مليون يهودي، لكن هذه الأعداد تلاشت لأسباب اقتصادية واجتماعية والسبب الرئيسي أيضًا لتراجع عددهم هجرتهم إلى فلسطين المحتلة في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي.
وعند الرجوع للتاريخ، فيمكننا معرفة أن اليهود يعتبرون من أقدم الشعوب والجاليات على الأرض ويقال إن يهود اليمن أقدم يهود العالم ليتبعهم يهود الفرس الذين يعود عهدهم إلى أكثر من 2400 سنة أي في القرن الخامس قبل الميلاد.
قبل قيام الثورة الإسلامية في إيران كان عدد اليهود بها 100 ألف يهودي، أما بعد عام 1979 وهو عام الثورة وصل عددهم إلى نحو 23 ألف يهودي إيراني ويتوزعون في عدة مدن إيرانية فلقد وصل عددهم في طهران إلى أكثر من 50% وقرابة الـ 10% في أصفهان و30% منهم في شيراز وهمدان، ولديهم مدارس خاصة بهم ومطاعم “كوشير” تقدم الطعام اليهودي، إضافة إلى امتلاكهم مكتبة ومقبرة ودار عجزة خاصة بهم، لتكون إيران أكبر مجمع للجالية اليهودية في الشرق الأوسط بعد “إسرائيل”، ويصل عدد معابدهم إلى 25.
تاريخ اليهود في إيران
وصل اليهود إلى بلاد فارس بعد استيلاء الملك بخت نصر على القدس وقيامه بسبي الآلاف من اليهود ونقلهم إلى بلاد ما بين النهرين ومن بابل إلى إيران، وبعدها استطاع اليهود التأقلم في هذه البقعة الجديدة، ويسمى يهود إيران بـ”الطيالسة” نسبة إلى رداء أبيض اللون يرتدونه على رؤوسهم وأكتافهم.
خلال فترة إقامة اليهود في بابل، قدمت هذه الجماعات المساعدة للفرس الذين احتلوا العراق في ذاك الوقت ونقلوا لهم المعلومات المهمة عن الجيش والتحصينات لتسقط المدينة عام 539 قبل الميلاد، ومقابل مساعدتهم للفرس سمح لهم الملك كورش مؤسس الإمبراطورية الفارسية، بالمغادرة إلى أي مكان يريدونه وجزء كبير منهم فضل البقاء في إيران.
كتب المؤرخ والكاتب الأمريكي مايكل هارت في كتابه “الخالدون المئة” عن الملك كورش وقال: “عظمة كورش لا ترجع فقط إلى معاركه الضخمة ولا إلى توحيد هذه الدول المتنافرة، إنما ترجع أهميته إلى إنجازاته التي كانت نقطة تحول في التاريخ السياسي للعالم القديم، ولذلك فهو واحد من الذين غيروا مجرى التاريخ”.
وبالتالي تعتبر إيران أرض كورش الذي حررهم وفتح لهم الأبواب للحرية، ولذلك يعتز اليهود بهذه القصة التي تعبر عن البقاء ونجاة اليهود من الموت في زمن الإمبراطورية الفارسية، وغالبًا ما تسرد هذه الحكاية خلال احتفالاتهم تقديسًا لهذا الملك الذي جعل بعض اليهود يرتبطون بإيران أكثر من ارتباطهم بـ”إسرائيل”.
نتيجة لشجاعة أستير، فلقد زادت أهميتها الدينية والتاريخية لدى اليهود بسبب إنقاذها لشعبها من الموت والمجازفة بحياتها عندما اعترفت بيهوديتها لزوجها
ومن أشهر الأماكن التي تمثل قيمة عظيمة بالنسبة لليهود في إيران ضريح أستير ومردخاي وهما يهوديان من عظماء الشأن في بلاد فرس في القدم، فلقد كانت أستير ملكة وابن عمها مردخاي هو الثاني بعد الملك في السلطة والذي كان يسمى أحشويروش والذي تزوج أستير فيما بعد دون أن تعترف لزوجها بجنسها أو شعبها وفقًا لوصية مردخاي.
تقول القصة إن أحشويروش أمر بقتل اليهود في بلاد فارس بسبب وزيره هامان الذي كان ينقل له أخبارًا عن أفعال اليهود المشينة في البلاد، وعند علم مردخاي بهذه الحادثة يعلم ابنة عمه أستير ويطلب منها التحدث لزوجها حتى تحمي نفسها وشعبها من الهلاك، وبالفعل تحدثت أستير مع زوجها وأخبرته أن هناك من يعد لقتلي وقتل أهلي حتى يغضب الملك لسماع هذا وخاصة عندما يعلم أن زوجته يهودية الأصل وأن وزيره هامان كان يدبر لهلاكها.
ونتيجة لشجاعة أستير، فلقد زادت أهميتها الدينية والتاريخية لدى اليهود بسبب إنقاذها لشعبها من الموت والمجازفة بحياتها عندما اعترفت بيهوديتها لزوجها، كما يذكر أن اليهود يحتفلون كل عام بهذا اليوم ويسمونه بعيد المساخر أو “البوريم” كذكرى لخلاص اليهود من مؤامرة الإبادة.
وقبل هذا العيد يصوم اليهود ويسمى هذا اليوم بيوم “أستيرا” اقتداءً بصيام الملكة أستيرا والشعب اليهودي في اليوم الذي طلبت فيه الملكة من زوجها إلغاء قراراه بالتخلص من اليهود في بلاد فارس.
كيف يعيش يهود إيران في ظل حكم الدولة الإسلامية؟
لأكثر من 35 سنة واليهود في إيران يعيشون تحت ظل الأحكام الإسلامية، وتبدو هذه المسألة مشوقة لمعرفة كيف كانت أوضاعهم وأحوالهم في هذه الفترة وما حقوقهم وما العواقب التي يعيشونها داخل بلدهم الأم إيران؟
يقول أحد أعضاء مجلس إدارة المعبد اليهودي روبرت خالدر: “الثورة الإسلامية عام 1979 كانت خطوة مهمة في حياة يهود إيران، لأن هذه الثورة منحتنا حقوقنا الكاملة في ممارسة عقائدنا وشعائرنا، كما أنها جعلت الشعب اليهودي في إيران أكثر تدينًا وتمسًكا بعقائدهم بسبب الحرية الدينية والثقافية التي منحت لهم”.
وتأكيدًا على الوضع السلمي الذي يعيشه يهود إيران، فمن المهم ذكر أن لليهود مستشفى خيري في جنوب طهران وهو واحد من أربع مستشفيات خيرية لليهود في العالم، وتعليقًا على الأمن الاجتماعي الذي يعيشه مسلمو ويهود إيران تقول مسؤولة إدارة المستشفى فارنغيس حاسيدم: “عندما يأتي مريض للمعالجة فإننا نسأله بماذا يشعر وما الذي يؤلمه، ولا نسأله ما دينه وما عقيدته، 95% من مرضانا وطاقمنا الطبي غيروا يهود”.
في حال اعتنق اليهود الديني الإسلامي فإن أملاكه تورث للحكومة وليس لعائلته، إضافة إلى أنهم لا يستطيعون تبوء مراكز رفيعة في الاستخبارات أو القوات المسلحة، كما أنهم لا يحصلون على ترقية في إدارة الدوائر الحكومية.
جدير بالذكر، أن هذا المستشفى يعتمد بشكل أساسي على التبرعات التي يقدمها يهود إيران أو الخارج، لكن في السنوات الأخيرة قام الرئيس أحمدي نجاد بتقديم تمويل مادي لهذا المستشفى بمبلغ 32 ألف دولار أسترالي، والذي اعتبر رسالة إيجابية جدًا من الحكومة لليهود والتي كان لها مكانة وأهمية معنوية عظيمة، هذا بحسب ما قاله المدير العام للمستشفى سياماك مورسيديغ.
الوجه الآخر للحقيقة
من أشهر مواقف إيران السياسية الخارجية معاداتها لـ”إسرائيل” وعدم اعترافها بها، هنا أيضًا موقف شهير للرئيس أحمدي نجاد الذي وصف المحرقة اليهودية بـ”الخرافة” والتي أثارت غضب وامتعاض الجالية اليهودية في إيران، فلقد عبر ممثل اليهود في البرلمان الإيراني موريس معتمد في فيلم وثائقي عن يهود إيران، عن رأيه قائلًا: “عندما نفى السيد نجاد حقيقة الهولوكوست في فترة استلامه الحكم، قمت أنا بإصدار تصريح معترضًا على خطابه ولقد لقي هذا الاعتراض صدى كبير في دول العالم المختلفة والتي زاد تعاطفها مع الشعب اليهودي الذي شعر بالإهانة بسبب وجهة نظر الرئيس”.
وعندما تم سؤاله إن شعر المجتمع اليهودي في إيران بالتهديد بسبب هذا التصريح المعادي للسامية قال معتمد: “لحسن الحظ، لم نشعر بأي تهديد، فالسياسية العامة للحكومة الإيرانية لم تكن معادية للسامية”، إلا أنه أشار إلى التمييز الذي يعيشه اليهود في إيران والذي يعملون ليضعوا حدًا له، ومن الأمثلة على هذا التميز هو وجود قانون يقول في حال اعتنق اليهود الديني الإسلامي فإن أملاكه تورث للحكومة وليس لعائلته، إضافة إلى أنهم لا يستطيعون تبوء مراكز رفيعة في الاستخبارات أو القوات المسلحة، كما أنهم لا يحصلون على ترقية في إدارة الدوائر الحكومية.
في حوار خاص لنون بوست مع رجل أعمال إيراني يهودي في مدينة إسطنبول وهو واحد من الأشخاص الذين هاجرت عائلتهم من إيران إلى روسيا قبل الثورة الإسلامية بسبب الاضطهاد والوضع الاقتصادي الردئ ومن ثم هاجروا إلى تركيا التي بدت لهم مقصدًا اقتصاديًا جذابًا خاصة أن تركيا تعتبر ملاذًا تجاريًا مناسبًا لليهود يقول سيمون سيموني: “هاجر أجدادي من زمن بعيد إلى روسيا لينتهي طريقنا نحن الجيل الجديد في إسطنبول”.
ويتابع معبرًا عن الوضع المعيشي في تركيا: “أشعر براحة كبيرة في العيش هنا ولا أعاني من مشاكل اجتماعية مع جيراني أو عملائي الأتراك، لقد هاجر الكثير منا إلى “إسرائيل” لتحسين وضعهم الاقتصادي لكنني فضلت البقاء هنا حيث يكون عملي ومالي”، وعند سؤاله عن لغتهم وعاداتهم للحفاظ على وجودهم الذي يقل يومًا بعد آخر قال: “لليهود في إيران لغة خاصة بهم، لكنني لم أتعلمها ولم يتعلمها والدي أيضًا وأنا أعتقد أن هذه اللغة ستزول قريبًا أو أنها انتهت بالفعل، رغم هذا فأنا ما زلت أملك بعض الكتب والقواميس للغتنا وللغة الإيرانية أيضًا وأحب أن أضعها على رفوف المكتبات في الفنادق التي أملكها”.
لا نستطيع أن نتعدى على السياسة الإيرانية، فإيران مسقط رأسنا
أما بالنسبة لعاداتهم الاجتماعية فيقول: “عندما يأتي الأمر للزواج فإنه يكون في غاية الصعوبة لأننا نصر على الزواج من مجتمعنا اليهودي حتى نحافظ عليه من الزوال ولأننا نملك تعاطفًا كبيرًا لتاريخنا المشترك ولديننا”.
في نهاية الحديث طلب نون بوست مرافقتهم لكنيس أو معبد يهودي في إسطنبول وبهذا الشأن قال: “لا يمكن لأي حد دخول معابدنا دون إذن من مؤسسة الحاخامات اليهودية، حتى البطاقة الشخصية التي توضح أن ديانتي يهودية لا تكفي، هناك قوانين صارمة جدًا بشأن زيارة هذه المعابد لأنها دائمًا معرضة للتخريب والتدمير، كما أن أعدادها في إسطنبول لا تزيد على 6 معابد فقط وأشهرها في منطقة عثمان بي”.
وعند سؤاله عن موقفه الشخصي بشأن “إسرائيل” فضل التحفظ على الإجابة لينهي حديثه بهذه العبارة: “في جميع الأحوال، نحن لا نستطيع أن نتعدى على السياسة الإيرانية، فإيران مسقط رأسنا”.