ليس منا من لم ينشأ في طفولته في حي للأنبياء، وأيا كان اسم هذا الحي: حي الضباط، حي الأمل، حي الزهور، إلى آخر تلك الأسماء التي لا تعبر بالضرورة عن شكل هذا الحي (إذ لم أر زهرة واحدة في حي الزهور)، فكان لا بد من نبي ما.
هناك.. بين أزقة ذلك الحي
عن نفسي، لم أكف يومًا عن اعتبار العم “عادل” في حينا مجرد حداد، أراه وهو يمتهن صنعة نبي الله داوود، يقلب الحديد بقفازيه ويعرض جزءًا منه للحرارة العالية فيصهره ليسهل تشكيله بين يديه فيما بعد، كانت هذه ميزة سيدنا داوود عليه السلام {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}.
العم “حبيب” في نظري ليس مجرد نجار فحسب، إذ إنه يختزل تاريخ بداية هذه الحرفة منذ امتهنها نبي الله نوح بعد صناعته للسفينة ذات الألواح والدسر (المسامير).
العم “هادي” الخياط، حلقة أخرى في سلسلة لا متناهية بدأها نبي الله إدريس كأول من خاط الثياب، وكان الناس قبله يلبسون ثيابهم من جلد الحيوانات.
وفي التاريخ، نجد أن آدم كان فلاحًا، إدريس كان خياطًا، نوح كان نجارًا، داوود كان حدادًا، إسماعيل كان قناصًا، محمد كجده الأول إبراهيم كان تاجرًا.
العرب قبل الإسلام كانوا يحتقرون بشدة الأعمال اليدوية، بل ويأنفون منها ويعدونها أعمالاً تخص العبيد والرقيق
وفي حينا، دائمًا ما اعتبرت هذه المهن امتدادًا لمهنهم عليهم السلام، تلك المهن التي لا نحتاج إلى أن نلغم مقالنا هذا بأرقام وإحصاءات تثبت تراجع نسب الإقبال عليها بشكل ملفت.
وهنا أتساءل: ترى كيف سيغدو مشهد حينا بعد 20 أو 30 سنة قادمة؟ لا يسعني أن أتخيل الحي الذي أطلقتُ عليه اسم “حي الأنبياء” خالٍ من كل نبي! وبدل ورشهم وحوانيتهم العتيقة التي تستنشق فيها عبق الماضي، تأتي مغازات ومحلات فارهة جدًا، لامعة جدًا، مليئة بالخيرات، مفرغة من كل معنى للحياة.. للعراقة!
ماذا لو رُمنا في المستقبل تغيير قفل أو إصلاح نافذة أو لصق جنبات سرير؟! ماذا لو تمزق حذاؤك أو احتاج لدق بعض المسامير، أتراك ستعثر على إسكافي؟ ماذا لو حدث تسرب في ماسورة ما في بيتك واحتجتَ سباكًا، من أين لكَ به يومها؟
كل يوم نشهد تطورًا جديدًا في أحيائنا، إغلاق الورش واستبدالها بنوعين من المحلات: الأكلات السريعة أو المقاهي، ربما تجد محلاً لإصلاح الهواتف وقاعة للألعاب كنوع من التغيير، لكن المبدأ هو نفسه، تلاشي الحرف اليدوية شيئًا فشيئًا.
يدوية؟ آآه.. الآن أفهم
منذ متى كان العرب أساسًا يميلون للمهن اليدوية؟
نعلم جيدًا أن العرب قبل الإسلام كانوا يحتقرون بشدة الأعمال اليدوية، بل ويأنفون منها ويعدونها أعمالاً تخص العبيد والرقيق، حتى إن وجهاء القوم يعيرون من تزوج بامرأة أبيها حداد أو نجار أو خياط، لفظة “مهنة” نفسها ارتبط جذرها الأصلي بالهوان والمهانة والإهانة.
ولعلنا نذكر آخر ما قاله أبو جهل قبل أن يقتله أحد الأكارين في غزوة بدر، إذ هتف: “لو غير أكار قتلني”! والأكار لغة هو الحراث الذي يحرث الأرض، أي أنه المزارع والفلاح، فالسيد القرشي إنما أراد احتقاره واستنقاصه عبر معايرته بعمله اليدوي، فمعنى عبارته: “لو كان الذي قتلني غير أكار لكان أحب إلي وأعظم لشأني”! تمنى لو كان موته على يد قرشي مثله، وكراهية العرب للزراعة معروفة أيضًا منذ فجر التاريخ.
الحلول لمشكلة البطالة موجودة أمام أعيننا غير أننا نستهزء بها ونتجاهلها ولا نقيم لها وزنا
وعليه، ليس غريبًا أن يكون شبابنا اليوم عازفًا عن هذه المهن التي هي أساس بناء أي حضارة واستمرارها، العمل كصاحب “ياقة بيضاء” في الإدارات والمكاتب المكيفة بات اليوم هاجسًا مجتمعيًا، وأمام هذا الإصرار، لا أدري ما يمنع الحرفيين من ارتداء هذه الياقة البيضاء اللعينة، ليصبحوا بدورهم من أصحاب “الياقات البيضاء” (يقابل هذا المصطلح أصحاب “الياقات الزرقاء” وهم طبقة العمال تحديدًا)
في تونس مثلا كنا نسمع عن الشواشين، العطارين، السراجين، القلالين، الدباغين، الصباغين، السكاجين، الحصايرية، البلاغجية، الحرايرية، وهي كلها حرف يدوية تقليدية، نجحت في أن تكون ركيزة من ركائز الاقتصاد التونسي في فترة ما بعد الاستقلال، واليوم يُطلق أهلها صرخة فزع لعدم توفر اليد العاملة لهذه الصناعات، ما من شأنه أن يجعلها تنقرض.
لَعَمري إن الحلول لمشكلة البطالة موجودة أمام أعيننا غير أننا نستهزء بها ونتجاهلها ولا نقيم لها وزنًا، ويوم نكف عن الاستخفاف بـ”مَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس” و”بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِم”، مع التأكيد على أنها “الأيدي” هنا هي التي تكسب، حينها فقط، يمكن أن تعيدوا لي حيي بورثته الجدد.
ورثة الأنبياء في حي الأنبياء، ولا أرضى بأقل من ذلك!