تحت هذه اليافطة نقدم دروسًا لطلبتنا في علم اجتماع التنمية، فنصل بهم إلى خلاصة بسيطة قصدًا وهي أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية ليست بالضرورة ثمرة الثروات الكبرى التي تمتلكها دول كبرى، بل هي حسن استغلال الموارد المتاحة في كل بلد طبقًا لأنظمة تشغيل وتوزيع عادلة وشفافة، وهي أطروحة لا تحتج بالقياس الكمي لمردود العمليات الاقتصادية التي تديرها دولة ما بقدر ما تركز على المؤشرات النوعية كشعور الفرد بالرضى عن نفسه ضمن سياق عام خال من الإكراهات.
من هذه الزاوية عندما نتحدث عن هدر الإمكانيات نشير إلى أن الديكتاتورية السياسية باب لهدر الإمكانيات، ليس فقط بسوء إدارة الثورة إنتاجًا وتوزيعًا بل بدفع الساكنين إلى ما دون المواطنة وإرغامهم على الطاعة والخضوع القاتل للشخصية وللتطلعات الإنسانية الأولية، فالإمكانية الحقيقة في كل تنمية هي الإنسان حيث تصير السعادة إمكانية متاحًا لا أمنية مستحيلة.
عندما فتح باب الجدل بشأن قوانين الميراث في تونس كان واضحًا أن النقاش لن يخرج عن شروطه التي دار فيها منذ بداية الدولة ما بعد الكولونيالية أو كما نحب أن نسميها تفاؤلاً بدولة الاستقلال، حيث تلاعب السلطة الساكنين بقضاياهم المصيرية دافعة إياهم إلى الاحتراب الأهلي غير المنتج لحلول جذرية مستعملة في ذلك نخبة فاسدة، وقد انتهى النقاش تقريبًا إلى هذه الزاوية وضم كل فريق حججه في إضبارته الخاصة منتظرًا عودة النقاش في مناسبة سياسية أخرى تنتج مواقف جاهزة في السياسة الحينية لا في الفكر التأصيلي ولا الاجتماع المستقر.
الطرح الانتخابي لقضايا مصيرية
الإمكانية النظرية المتاحة هي طرح مسألة العدالة والمساواة للنقاش العام، بحيث تشمل عمل الدولة المطعون فيه منذ التأسيس وتنفتح على تفريعات كثيرة تحكم العقول القانونية والتشريعية والثقافية لساكني البلد ومنها مسألة تقادم قوانين الميراث الإسلامية في زمن لم تعد القوامة فيه واجبًا على الرجل ولا واقعًا معيشًا.
واقع المجتمع التونسي يتغير وبسرعة خارقة نتيجة عوامل كثيرة منها الانفتاح الكبير على البلدان الغربية بحكم الهجرة والعمل والتبادل الثقافي المقنن والعفوي
الهدر الجاري هو استقطاع مسألة مفردة من سياق جور سياسي وتنموي وثقافي وفرضها بلغة القانون وقوة السلطة وفي مناسبة انتخابية أنتج فيها الاستقطاب أصالة ضد حداثة غنمًا انتخابيًا للموقفين.
مثير المسألة يربح على أساسها بحكم أن رافض القانون يربح بالمحافظة عليه، وهنا تهدر إمكانية كبيرة للنقاش الجذري والتأصيلي وهو ما تم فعلاً وانتهى إلى ما أشرنا إليه طمر الملف في لجنة بعد أن تأكد تلاحم الصفين المتقابلين بشأن موقفهما الأزلي، أما مسألة العدالة الشاملة فتاهت بين الموقفين.
الواقع المتحرك والأصوليات الجامدة
تونس نموذج لبلدان كثيرة عربية خاصة تمسك بخناقها أيديولوجيات أصولية متكلسة (هل توجد أصولية غير متكلسة؟) وهذا التكلس فعال جدًا في باب هدر الإمكانيات، فواقع المجتمع التونسي يتغير وبسرعة خارقة نتيجة عوامل كثيرة منها الانفتاح الكبير على البلدان الغربية بحكم الهجرة والعمل والتبادل الثقافي المقنن والعفوي.
ما يحدث في الغرب يحدث عندنا منه الكثير ولا راد له، لكن الفكر الأصولي ينغلق أمام حركة الواقع لأنها تفرض عليه مراجعات عميقة واجتهادات في الأسس وهو عمل مضن وشاق كما أن أعلام الأيديولوجيا وشيوخها يخسرون في كل عملية مراجعة، بما يجعل التكلس منهج عمل ينتج منفعة دائمة لأصحابه.
لذلك يظل الواقع يتطور وحده بلا منهج بل باجتهادات الأفراد الباحثين عن حلول لقضاياهم الفردية خارج كل مسلمات الأيديولوجيا ونواهيها المقدسة (الأصول التجارية للقادة).
وسأقدم أمثلة، في بداية القرن العشرين حرض المستعمر الفرنسي التونسيين على التجنيس (امتلاك جنسية البلد المحتل) دون تغيير المعتقد، فضجت المساجد بفتوى التحريم ووقعت مذبحة (أحداث مقبرة الجلاز 1911) في صفوف العامة نتيجة التظاهر ضد دفن المتجنسين في مقابر المسلمين باعتبارهم كفرة تخلوا عن الملّة رغم أنهم ماتوا على الإسلام، في نهاية القرن العشرين وصل الأمر بالمواطن التونسي إلى الاحتفال وتقديم الأضاحي بمناسبة حصوله على جنسية بلد غربي وسكتت الفتوى.
طرح مسألة زواج المسلمة من غير المسلم أثيرت سابقًا(في السبعينيات) لتقنين وضع بعض بنات الذوات اللاتي درسن في فرنسا وعدن بالشهادات العليا وبأزواج أجانب
ما الذي تغيّر بين بداية القرن وآخره؟ لقد أهدرت الدولة مواطنيها هدرًا منهجيًا فصار جواز السفر الأجنبي وسيلة نجاة من الدولة، أما الفتوى فلم تعد قادرة على منع الناس ولم تعد تجد منصتًا يعتبر بما تراه، لقد تجاوز الناس نواهي الدولة ونواهي الفتيا وبحثوا عن حلولهم الفردية، كيف وهم يرون طبقة سياسية كاملة تحكمهم بجنسيتين أهمهما جنسية البلد المحتل سابقًا.
ونوسع الرؤية، كان الزواج من امرأة أجنبية (غربية) بابًا للنجاة من هدر الدولة لمقدراتها البشرية، لقد استفاد الذكر من ذكورته وحولها مكسبًا وزورق عبور إلى عمل وسكن وحياة حرة، وظل الأمر لفترة من الزمن حكرًا على الذكور ثم تنوع إلى الزواج بالجيل الثاني من البنات المولودات في الهجرة حيث كانت أسرهم المحافظة تعيدهن إلى الوطن للزواج برجل مسلم (قد لا يكون له من الإسلام إلا ذكره المختون)، ومنذ سنوات قليلة (بعد الألفين) بدأ بعض البنات يجرؤن على الزواج بأجنبي لنفس الغاية غالبًا وكان الأمر يتم بإجراء شكلي لا يخلو من نفاق ديني، إذ يجبر الزوج غير المسلم على نطق الشهادتين أمام شهود ليصبح عقد زواجه من التونسية المسلمة حلالاً.
لماذا وصل الناس إلى هذه المرحلة؟ هل هو تحرر عقلاني من نواهي الدين وانخراط في الحداثة الغربية بوعي؟
الأمر أبعد ما يكون عن ذلك لو تصفحنا سير الهاربين عبر الزواج فهم من عامة مفقرة لم تعد تجد غير أجسادها للبيع بصيغ قانونية إن أمكن أو بغيرها وهو كثير (في مجال السياحة الجنسية تونس وجهة مفضلة)، ولكن أين الفقهاء وأعني فقهاء الحداثة وفقهاء الإسلام؟ ها هم يتقاتلون.
دعوة كاذبة للحرية
طرح مسألة زواج المسلمة من غير المسلم أثيرت سابقًا (في السبعينيات) لتقنين وضع بعض بنات الذوات اللاتي درسن في فرنسا وعدن بالشهادات العليا وبأزواج أجانب، ومن غيرهن كان قادرًا على الدراسة في الخارج وظل المنشور مغمورًا (رغم أنه باطل بطلانًا قانونيًا لمخالفته دستور 1959) حتى هذه الأيام وأثير بداعي الحرية المكفولة بالدستور الجديد.
الفتاة التونسية غير ملزمة قانونًا بأداء واجب الخدمة العسكرية لمدة سنة مفروضة على الذكور، وهي غير ملزمة حتى بالخضوع لواجب الخدمة المدنية الذي تم سنه في زمن ابن علي
مثيرات إلغاء المنشور يتحججن بالحرية ولكنهن ينسين أنهن مارسن قمع الحريات المكفولة بالدستور عبر فرضهن تطبيق المنشور 108 المانع للبس الحجاب الإسلامي بصفته زيًا طائفيًا، وهو أيضًا منشور باطل بطلانًا مطلقًا.
لقد كن يطردن طالباتهن المحجبات من الفصول الدراسية ويحرمنهن النجاح والعمل والسير في الطريق إذا لبسنه ويحرضن النظام السياسي (البوليسي في الجوهر) في كل مناسبة على التشدد خاصة كلما رأين منه مناورة لتهدئة أو تجاوز الحصار النفسي والمادي المسلط على المحجبات.
وتعتبر السيدة بشري بالحاج حميدة زعيمة نساء ديمقراطيات والنائبة الحالية عن النداء بطلة تطبيق المنشور 108 وهي التي تتزعم الآن إلغاء منشور 73 بدعوى الحرية المكفولة دستوريًا، إنها نموذج صارخ للتكاذب الأيديولوجي المؤدي إلى هدر الإمكانيات باسم القانون وباسم الحرية، بما يجعل عملية الهدر مشتركة بين الدولة ونخبتها، ولا تخرج إثارتها للموضوع الآن عن نفس سياق عملها الأيديولوجي بما يفقد قولها في الحرية كل مصداقية ويسقط حجتها بتتبع تطورات الواقع التونسي.
نخبة الهدر تهدر شعبًا مهدرًا
الفتاة التونسية غير ملزمة قانونًا بأداء واجب الخدمة العسكرية لمدة سنة مفروضة على الذكور، وهي غير ملزمة حتى بالخضوع لواجب الخدمة المدنية الذي تم سنه في زمن ابن علي والذي يقتضي أن يدفع الذكر الملزم بالواجب العسكري ثلثي راتبه (إذا كان عاملاً) لوزارة الدفاع مقابل عدم الخضوع لتدريب عسكري، صورة المؤسسة العسكرية الذكورية لم تزعج الداعيات لتعديل قوانين المواريث.
تعديل الأحوال الشخصية في باب النفقة الذي سنه ابن علي لم يلزم الزوجة بواجب الإنفاق وإنما تركه تطوعًا ومشاركة وأبقى لها حق النفقة عند الطلاق أو غيبة الزوج، والنفقة مربوطة بفكرة القوامة الرجالية وهي من صلب التشريع الإسلامي، وقوانين المواريث تكملها لا تؤسسها ولكن هذا أيضًا لم يزعج الداعيات لتعديل المواريث والسبب لا يحتاج ذكاءً كبيرًا، إن إثارة الاشتراك في النفقة أو إلزام الفتاة بالواجب العسكري غير منتج انتخابياً من جهتين.
الصراع ليس حقيقيًا من أجل المجتمع ومن أجل المرأة كجزء مكين منه بل حرب استنزاف انتخابي حدودها الصندوق ليس أكثر
الأولى أنه يزعج القاعدة الانتخابية النسوية التي تراود بالزيادة في مواريثها والثانية أن النص الشرعي فيها قابل للاجتهاد بما يجعل الخصم الأصولي الإسلامي يقبلها ويمررها فيفقد الصراع الانتخابي زخمه ولا ينتج الصندوق غنيمة سياسية.
هنا تهدر الإمكانيات جميعها، الصراع ليس حقيقيًا من أجل المجتمع ومن أجل المرأة كجزء مكين منه بل حرب استنزاف انتخابي حدودها الصندوق ليس أكثر، ولذلك نتوقع أن تصمت اللجنة المكلفة بإعداد بديل تشريعي للمواريث حتى انتخابات 2019 (بالنسبة للبلديات تكفي إثارة الموضوع فقد حصل ما يكفي من الاستقطاب) ثم تظهر اللجنة قبل التشريعية لنجد أنفسنا في نفس الحفرة السياسية.
هل يمكن إيقاف هذه الحرب؟ الإجابة بلا دون تفصيل كثير، فالشعب المهدر يحتاج وعيًا بالهدر الذي يتعرض له، ومجريات الإثارة التي مرت أمامنا هذه الأيام تكشف أن وعي الهدر لم يصل إلى خلق الرغبة في إنهائه، الكائن التونسي (عسر عليّ أن أقول المواطن) الذي ركز وعيه على فساد ابن علي فأسقطه لم ينتبه بعد إلى فساد نخبته ليسقطها، لذلك سيعاني الهدر طويلاً قبل 17 من ديسمبر ضد نخبة ابن علي، في الأثناء فإن أحد أعلام النخبة وجد حلاً عبقريًا لمسألة انحباس الأمطار لقد قرر الزيارة في كلفة مياه الشرب.