سئل ابن عباس رضي الله عنه عن تفسير آية فأبى أن يفسرها، فلما أصر السائل على التفسير قال له: “ما يؤمنك لو أنني أعطيتك تفسيرها فتكفر”؟
كان ابن عباس يدرك جيدًا أن العلم سلاح ذو حدين، منه ما يفيد الناس فيُقَدَمُ لهم فقهًا وتفسيرًا للنص ومنه ما يُقدَمُ بلين وتعميم وتشبيه ومقاربة أحيانًا أو يُكتمُ خيرًا من أن يكون كُفرًا للمتقبل أو تكفيرًا لصاحب العلم، وبما أن الإنسان عدو ما يجهل فإن العقل إذا تجاوزته الفكرة لجأ مباشرة إلى التهمة، وتهمة مسائل الدين هي الكُفر، لذلك تجد أن الألباب التي يتعسر عليها التفكير تمضي مباشرة إلى التكفير.
لقد أوتي ابن عباس من العلم الكثير والكثير ولكنه لم يُسم بترجمان الأمة بسبب العلم الذي حصله أو الكم الذي حفظه واستأثر به من سر الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما لأنه يترجم النص على الواقع، وهنا مربط الفرس في الأزمة الفقهية التي تعاني منها الأمة الإسلامية اليوم أشد معاناة.
ولأن الباحث عن الحقيقة تُعيقه الأصنام دائمًا كما أعاقت إبراهيم عليه السلام في سبيل رسالته إلى قومه بعد بحثه عن الحقيقة في ملكوت السماوات والأرض، فإن أول خطوة وجب عليه القيام بها هي كسر الصنم ووضع الحجة والبرهان على عنق الصنم نفسه، وهي خطوة تحتاج للقيام بها إيمانًا جريئًا بالعقيدة وكفرًا بالواقع المخالف لها إلى حد التحدي واكتساب قلب عرف معنى التسليم للحق وصدر يتسع لكل تهم التخوين والخروج عن المألوف، ومن خلال ضرب هذا المثال فإننا لو بحثنا اليوم عن الصنم الذي يمنع بلوغ الفقه للألباب والإيمان للقلوب ويحول بين النص والواقع سنجد أن الصنم هو النص ذاته.
فنحن اليوم أمام منظومة فقهية صنمية فاسدة تنتهج نهج الكنيسة في أواسط الألفية الماضية وتستأثر النص وفقهه وتحيطه بهُبل الفكرة ولات السلوك وعُزة المظهر
فالنص تحول بمفعول الفقه القاصر لمن ينصبون أنفسهم حماة للدين والعقيدة إلى نص مقولب يحمل بضعة معاني انحصرت في حدود فهمهم السطحي للمقاصد، وكلمات تكلست على شاكلة فكرة متحجرة لا تتمرن مع الزمن تُقام لها مناسكها السلوكية والمظهرية ولا تُمس إلا من قبل ذويها إذا ارتأوا أن فيها عوجًا يعريه الزمن المحمل بالأزمات الكاشفة لفساد الفقه والفكر.
فنحن اليوم أمام منظومة فقهية صنمية فاسدة تنتهج نهج الكنيسة في أواسط الألفية الماضية وتستأثر النص وفقهه وتحيطه بهُبل الفكرة ولات السلوك وعُزة المظهر، منظومة محمية بهالة لاهوتية فكما حُمي هُبل ويعوق من قبله بأحاديث اللعنة يُحمى اليوم أصنام الفقه بحديث اللحوم المسمومة.
ولأن النص هو الصنم، فالنص كذلك هو الحل والمفتاح والحجة والسلطان المبين وعليه نعلق فأس كسر الفكرة الفاسدة التي أحاطت به، بل النص هو الفأس الكاسر، ولعل تهمة الوقاحة والضلال التي يُجابه بها كل من انتقد علماء اللحى وأحكامهم وأفكارهم تحيلنا إلى البحث عن سند وقح يدعم وقاحتنا حسب ما وصفوه هم، ولكن حاشى للنص أن يكون وقحًا إنما النص يتضمن في الكثير من سياقاته الضاربة لصنعة الأصنام جرأة حكيمة لا مثيل لها تصف منتهكي العلم حق توصيفهم، فالنص هو من قال عمن زعموا أنهم علماء بنو إسرائيل بحفظهم للتورات {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}، والنص هو من قال عمن انسلخ من الآيات وغوى ولم يُرفع بها وأخلد إلى الأرض {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} فهل في النص وقاحة وأكل للحوم يا ترى؟ أم أن النص يكشف أننا نفتقد الجرأة والشجاعة اللازمة لاكتشافه وحمله والاجتهاد فيه وبه والعمل بعلمه.
لا بد من جيل يدرك جيدًا أن القرآن ليس نصًا تكفيريًا وأن قدوة الأمة صلى الله عليه وسلم لم يقل يومًا لشخص “يا كافر” ولم يوجه خطاب دعوته الخالدة لقوم بالقول لهم “يا كفرة”
إننا اليوم أمام هذه الغشاوة التي وُضعت بيننا وبين النص في حاجة ماسة إلى حركة ثورية تشق طريقها نحو العلم والفقه، حركة يرودها جيل يمضغ اللحوم المسمومة ويكسر أصنام الفقه الفاسدة ويضع الإنسانية نصب عينيه لتقود من بعده أجيال تستنير بعلمها الأرض، جيل يتجرأ على النص ويكسر عنه الأغلال التي صُفدت بها معانيه العظمى في أزمنة سقوط الدين تحت ظلمة الأنظمة الطاغية بسقوط المبدأ، أزمنة ظهرت بها طفيليات الفكر لتملأ الفراغ، واليوم وجب أن يُملأ هذا الفراغ بمن هم أحق بملئه، جيل يُدرك أن القرآن نص حث على الاجتهاد لا على تبني القوالب الجاهزة.
جيل يفهم أن النص الذي قال عن الإنسان إنه خُلق جهولًا هو ذاته النص الذي قدم للإنسان أمر “اقرأ” وعلمه بالقلم ما لم يعلم، والنص الذي قال عن الإنسان أنه خُلق عجولًا هو ذاته النص الذي جاء بموعظة “لا تعجل” ومد الإنسان بذخيرة التريث والتعامل مع الناس بصبر وإدلاء الموعظة عليهم “على مُكث”، والنص الذي وصف الإنسان بالقتور هو الذي قدم له قيمة الصدقة في مثل السنابل وهو الذي علمه ألا يبسط يده كل البسط ولا يغل يده إلى رقبته في منهج اقتصادي عظيم.
لا بد من جيل يدرك جيدًا أن القرآن ليس نصًا تكفيريًا وأن قدوة الأمة صلى الله عليه وسلم لم يقل يومًا لشخص “يا كافر” ولم يوجه خطاب دعوته الخالدة لقوم بالقول لهم “يا كفرة”، إنما هو قائد مُعلم لمناهج العلم ومتمم لمكارم الأخلاق تعامل مع نص مُعلم حكيم لا ريب فيه، نص محرك للألباب على مدى العصور.
لا بد من جيل يعيد السبيل إلى صراطه ويقتفي ما لزمانه وواقعه من علم ويترك ما ليس لهما.