ترجمة وتحرير نون بوست
بعد أن نقلت محكمة العدل الدولية شهادات مختلفة لرؤساء الأمم المتحدة تفصل حجم الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، عرضت يوم الجمعة حكمها في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد “إسرائيل”.
وطالب الحكم باتخاذ “إسرائيل” إجراءات مؤقتة على الفور، بما في ذلك رفع الحصار عن سكان غزة، وجاء في حكم محكمة العدل الدولية: “يجب على إسرائيل أن تتخذ إجراءات فورية وفعالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها لمعالجة الظروف المعيشية المتعسرة التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة”.
ومنذ بداية الحرب؛ رفضت الحكومة الإسرائيلية والمسؤولون العسكريون قبول المسؤولية عن الأزمة الإنسانية المتكشفة وانتشار الجوع والمرض في غزة، وفي بعض الأحيان أنكروا الأزمة برمتها، وفي إحدى المرات ألقوا باللوم على مصر.
وخلال رد شفهي استمر ثلاث ساعات على اتهامات جنوب أفريقيا بارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة، أدلى ممثلو “إسرائيل” القانونيون ببيان أثار غضبًا شعبيًا في جميع أنحاء مصر، مشيرين إلى أن “الدخول من مصر إلى غزة يخضع لسيطرة مصر”، وكان الغضب موجهًا بالتساوي نحو التجويع الإسرائيلي المتعمد لغزة، والتواطؤ المصري.
إن هذا البيان، الذي يشير إلى معبر رفح الذي يربط سيناء المصرية بغزة – المعبر الحدودي الوحيد الذي لا يخضع للسيطرة العسكرية الإسرائيلية الفعلية – تم الإدلاء به إلى جانب العديد من التصريحات الأخرى لإنكار مسؤولية “إسرائيل” عن تجويع سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، واتهم مصر بشكل مباشر بمنع المساعدات لغزة، أو كما قال العديد من المصريين على وسائل التواصل الاجتماعي: “لقد وضعت إسرائيل مصر في واجهة المدفع”.
ومنذ أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي حصارًا كاملًا على غزة في 9 تشرين الأول/أكتوبر، خضعت مصر للضغوط الإسرائيلية لإبقاء معبر رفح مغلقًا، في حين خضعت جميع شحنات المساعدات “للتفتيش” الإسرائيلي، وقد منع هذا فعليًا مصر من تنسيق المساعدات بشكل مباشر مع السلطات الفلسطينية في غزة.
ويقول الخبراء إن عملية التفتيش الإسرائيلية على المساعدات الدولية هي جوهر الأزمة الإنسانية المتصاعدة في غزة.
وقالت لهيب هيجل، أحد كبار المحللين في مجموعة الأزمات الدولية، لموقع ميدل إيست آي: “السبب الرئيسي هو أن إجراءات التفتيش لا تزال مرهقة وأن العديد من السلع يتم رفضها بناءً على إمكانية استخدامها المزدوج”، ويشمل هذا “أي نوع من المواد المعدنية التي يمكن إعادة استخدامها كمكونات للأسلحة”.
لكن ثبت أن ادعاء “إسرائيل” حظر البضائع ذات الاستخدام المزدوج فقط هو مجرد مهزلة، فهي تحتفظ بسيطرة كلية على ما يدخل إلى غزة ومتى، ووصفت ديبورا هارينجتون، وهي طبيبة بريطانية عادت مؤخرًا من غزة، في روايتها المروعة لشبكة “سي إن إن” كيف رفضت السلطات الإسرائيلية شاحنة تحمل حفاضات أطفال.
ومنذ بداية الحرب، طبقت “إسرائيل” نفس النظام الخانق على جميع أنواع المساعدات، بما في ذلك الغذاء والدواء والوقود والمياه الصالحة للشرب.
حرمان متعمد
وأعلنت قطر الأسبوع الماضي أنها توسطت بنجاح في اتفاق بين حماس و”إسرائيل” للسماح بشحنات الأدوية وغيرها من المساعدات إلى غزة، مقابل تسليم الأدوية إلى الرهائن الذين تحتجزهم حماس، وهذا في حد ذاته دليل على أن إسرائيل تنخرط في إستراتيجية الحرمان المتعمد، مما يسمح للمساعدات بالوصول إلى المنطقة على أساس إستراتيجيتها وحساباتها الخاصة، إنها حالة كلاسيكية لاستخدام الجوع والمرض كسلاح.
وأشارت قطر إلى أن هذه المساعدات ستمر عبر مصر، بينما نفت الحكومة المصرية “نفيًا قاطعًا” تأكيدات إسرائيل بأن القاهرة تلعب أي دور في منع دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة عبر معبر رفح.
لكن رامي شعث، الناشط الفلسطيني المصري البارز الذي جُرّد من جنسيته المصرية بعد أن أمضى أكثر من عامين في السجن، يقول إن مصر “متواطئة بنسبة 100 بالمائة في هذه الأزمة”، ويصفها شعث بأنها استمرار لسياسات الرئيس عبد الفتاح السيسي تجاه غزة منذ عام 2013، والتي أبقت المنطقة بالكامل “تحت السيطرة الإسرائيلية”.
وقال شعث لموقع ميدل إيست آي: “مصر وخضوعها يمكّنان إسرائيل، لأن رفح هي الحدود الوحيدة التي تسمح لـ”إسرائيل” بالقول إننا لا نحاصر غزة، لكن الحقيقة هي أن حدود مصر لا تزال تحت السيطرة الإسرائيلية”.
ويدعم موقفه مقارنة رد فعل مصر اليوم بموقف القاهرة من الحرب بين “إسرائيل” وغزة في سنة 2012، قبل عام واحد من وصول السيسي إلى السلطة في انقلاب عسكري أطاح بالرئيس السابق محمد مرسي، ومنذ ذلك الحين، حدث تحول جذري في موقف مصر تجاه غزة.
فقد أرسل مرسي في تلك السنة رئيس وزرائه إلى غزة، واستدعى السفير المصري من تل أبيب، وسمح لوفد من مئات المصريين بدخول غزة لإظهار التضامن مع السكان الفلسطينيين، في حين ظل معبر رفح مفتوحًا أمام المساعدات والمسافرين.
وقد أثيرت أسئلة إضافية حول موقف مصر بعد أن قال الفريق القانوني الإسرائيلي لمحكمة العدل الدولية هذا الشهر إن”غرفة عمليات مشتركة تضم إسرائيل ومصر والولايات المتحدة والأمم المتحدة تعمل يوميًا لحل الصعوبات اللوجستية في الوقت الفعلي”، وكان هذا مؤشرًا آخر على عدم رغبة مصر، وليس عدم قدرتها، في مواجهة التجويع الإسرائيلي المتعمد للفلسطينيين في غزة.
التواطؤ المصري
في أول ظهور مباشر له منذ بداية الحرب، تحدث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن الكارثة الإنسانية في غزة، ومع ذلك، لم تكن تصريحات السيسي دفاعًا عن سكان غزة الذين يعانون من الجوع أو إدانة للحصار الإسرائيلي، بل كانت محاولة صارخة لإنكار أن مصر تعاني من أزمة اقتصادية مذهلة ناجمة عن سياساته على مدى العقد الماضي.
وقال السيسي: “أعطانا الله مثالًا حيًّا لأناس لا نعرف كيف يمكن أن ندخل لهم طعامًا.. منذ أربعة شهور”، واعتبر المصريون هذا التصريح بمثابة رسالة أخرى غير مباشرة تعطي المصريين إنذارًا نهائيًا: إما أن تتحملوا حكمي وسياساتي الاقتصادية أو أن تتضوروا جوعًا مثل غزة.
ومن ناحية أخرى؛ فإن التحول الذي أجرته مصر في أقصى شرقها المتاخم لغزة على مدى العقد الماضي، مع سيطرة عسكرية وأمنية محكمة، يجعلها قادرة بشكل كامل على التنفيذ والإشراف الفعال على العمليات المطلوبة لتلبية الاحتياجات الإنسانية في غزة.
لقد سلط وصول زعماء العالم ورؤساء الأمم المتحدة ورؤساء المنظمات الدولية إلى معبر رفح الضوء على حجم الأزمة في غزة والحاجة إلى اتخاذ إجراءات فورية، لكن نظام السيسي لم يُظهر سوى رغبة ضئيلة أو معدومة في اتخاذ أي إجراء مباشر لإنقاذ غزة، أو الضغط على “إسرائيل” لتغيير سياستها المتمثلة في استخدام الجوع والمرض كسلاح.
وبحسب حسام الحملاوي، الباحث المصري والخبير في الشؤون السياسية والأمنية فإنه “لا شك أن إسرائيل متورطة في التطهير العرقي للفلسطينيين”، وقال الحملاوي لموقع ميدل إيست آي إن العديد من التصريحات الصادرة عن كبار المسؤولين الحكوميين والعسكريين الإسرائيليين أوضحت أن الهدف هو “جميع سكان غزة، وليس حماس فقط”.
وقال الحملاوي إن حيلة “إسرائيل” في محكمة العدل الدولية كانت “خطوة ماكرة لمحاولة إلقاء اللوم على طرف آخر”، لكنه أكد أن النظام المصري متواطئ في منع المساعدات، مشيرا إلى أنه يفعل ذلك منذ سنوات، لكن الحروب الماضية أثبتت أيضاً أن مصر قادرة – عندما تريد ذلك – على تقديم المساعدات دون “انتظار الضوء الأخضر من إسرائيل”.
وأضاف الحملاوي: “[حجة مصر] بأنهم لا يستطيعون ضمان سلامة قوافل المساعدات بمجرد دخولها غزة مجرد أمر مثير للسخرية”.
ومع مطالبة الحكم في لاهاي “إسرائيل” بتمكين الوصول الفوري للمساعدات إلى غزة، لا تستطيع مصر أن تتهرب من دورها في الحصار.
المصدر: ميدل إيست آي