أعطت الدولة الضوء الأخضر للإعلام لانتقاد الحكومة علانيةً بعدما كان ذلك من المحرمات، بحسب ما أعلن الإعلامي المحسوب على النظام خالد أبو بكر في منشور له عبر “فيسبوك”، كتب فيه: “أجهزة الدولة بدأت في رفع القيود عن الإعلام والبرلمان في مراقبة الحكومة، في بداية لطريق كان مقطوعًا اسمه الديمقراطية”.
ما قاله خالد أبو بكر عن الحرية الإعلامية المزعومة يمكن أن تلمسه في كل القنوات الإعلامية المملوكة للشركة المتحدة التي تديرها أجهزة المخابرات، وعبر أجهزة الأمن، حتى إن الإعلامي والبرلماني المقرب من النظام مصطفى بكري، تحدث في برنامجه عن حاجة الناس للتغيير الحكومي في أقرب وقت، وأن الناس يسألونه دومًا عن تغيير الحكومة.
الأمر لم يتوقف عند الإعلام، بل وصل إلى البرلمان الذي كان يلعب دور “خيال المآتة” باقتدار في السنوات الأخيرة، لكنه استأسد في الآونة الأخيرة، واستجوب وزير التموين علي المصيلحي، وكان الأمر أشبه بمسرح شكسبيري استعرض فيه كل نائب قدرته على البلاغة لتكييل الاتهامات للوزير، الذي وقف لا حول له ولا قوة أمام استجواب البرلمان، وقال في كلمات منكسرة: “وُصفت في الماضي بوزير الغلابة، والآن الناس بتدعي عليا وتتهمني بإني أصدَّر لها أزمات”.
لكن خالد أبو بكر عاد وهاجم البرلمان لأنه انتقد وزير التموين وقال: “لا يجوز لنائب بالبرلمان أن يقول للحكومة ورونا عرض كتافكم، مع إن دور مجلس النواب أن ينتقد الوزراء ويحاسبهم إذا قصروا”.
إجماع على التغيير
سيؤدي الرئيس الرئيس عبد الفتاح السيسي اليمين الدستورية للفترة الرئاسية الثالثة له في شهر أبريل/نيسان القادم، ولم يلزمة الدستور بتغيير حكومي مع بداية ولايته الجديدة، لكن أصوات مقربة من النظام أعلنت عن تغيير حكومي قادم، منهم الإعلامية قصواء الخلالي التي نقلت عن مصادر مصرية رفيعة المستوى أن وزراء التموين والصناعة والسياحة سيتم تغييرهم في القريب العاجل، وذلك خلال برنامجها “المساء مع قصواء”.
مدبولي الذي كلَّفه السيسي بتشكيل الحكومة في يونيو/حزيران 2018، أصبح الهدف الأسهل لتوجيه النقد واللوم من الإعلام والبرلمان، خاصة مع ارتفاع معدلات التضخم التي تأكل الأخضر واليابس في مصر، وتجعل الأسعار ترتفع يوميًا في ظل موجة غلاء غير مسبوقة، فيما يُعرف بـ”حرق” وزارة مدبولي إعلاميًا قبل تغييرها بحكومة ذات أولويات اقتصادية.
فكرة تغيير حكومة مدبولي وصفها الكاتب الصحفي المصري بلال فضل بـ”عديمة القيمة”، وقال لـ”نون بوست”: “أي تغيير في الوجوه الحكومية التي تدير ملفات السياسة الداخلية والاقتصاد كان يمكن أن يجدي لو كانت الوجوه الحالية والقديمة لها دور فعلًا في التفكير والتخطيط والتنفيذ، لكن حين يتفاخر رئيس الدولة في أكثر من مناسبة أمام وزرائه ومسؤوليه أنه يتدخل في أدنى التفاصيل، وأنه يقترح كل شيء وأنه يحدد حتى مواعيد تسليم المشروعات ولمن يتم إسنادها، فالتغيير الوحيد الذي يمكن أن يتسبب في إيقاف تدهور البلد هو في تغيير الرئيس نفسه”.
وأضاف فضل “المشكلة أن هذا التغيير متروك لطرفين لا ثالث لهما: الشعب وعزرائيل، والطرفان غير مهتمين بتغيير الرئيس حاليًّا، لذلك سيترك خيالات المآتة القدامى المكان لخيالات مآتة جدد، مع كل التقدير لخيالات المآتة التي هي أكثر جدوى في الحقيقة”، حسب وصفه.
أستاذ اقتصاديات التمويل بجامعة القاهرة حسن الصادي، الذي ينشط في انتقاد الحكومة والقرارات الاقتصادية على قنوات الدولة في الآونة الأخيرة، يحمل وجهة نظر لاذعة أيضًا، ويرى أن “تغيير الحكومة ليس حلًا اقتصاديًا، لأن الأمر يحتاج حلًا سياسيًا وأفكارًا إبداعيةً”، وصرح في وسائل إعلام محلية أن الحل لما تمر به مصر الآن لا بد أن يكون سياسيًا بتغيير السياسات التي تنتهجها مصر اقتصاديًا وخروج الدولة ممثلة في الجيش من الاقتصاد، وأن يكون دور الدولة تنظيميًا ليس إلا، وهو نفس الأمر الذي صرح به الاقتصادي وخبير أسواق المال وائل النحاس في حوار لـ”بي بي سي نيوز عربي”.
وانتقد الصادي فكرة إصدار حكومة مدبولي لما يعرف بـ”وثيقة ملامح التوجهات الإستراتيجية للاقتصاد المصري”، واصفًا توقيت صدورها بـ”التوقيت غير السليم” لأن العالم أجمع ينتظر تغيير حكومي في مصر، موضحًا “لا يجب أن تضع المجموعة الاقتصادية الحكومية وثيقة بها حلول لأزمات الاقتصاد المصري، وهي نفس المجموعة التي سببت هذه الأزمات الاقتصادية، ومن يطالب الخبراء بتغييرهم، فكيف يكونون هم جزء من الحل”.
ولفت الصادي إلى أن دولة خليجية كبيرة طلبت تغيير وزراء المجموعة الاقتصادية لضمان تدفق الأموال في مصر، لامتصاص سلبيات الاقتصاد المصري، خاصة مع مطالبات جهات دولية بتغيير المجموعة الاقتصادية حتى تستطيع هذه الجهات التعامل مع عقول أخرى في مصر بعد ثبوت فشل هذه المجموعة اقتصاديًا.
البحث عن البديل المحتمل أو هل تغيير الحكومة هو الحل؟
الإعلامي المصري عمرو أديب ناقش في برنامج “الحكاية”، فكرة تغيير الحكومة، وطرح محمود محيي الدين ومحمد العريان كأسماء مقترحة لتحل محل مدبولي، وقال أديب: “الإدارة السياسية شايفة إن مصطفى مدبولي عامل أداء جيد، لكن المزاج العام في مصر يميل لوزارة جديدة بسبب الأزمات المتلاحقة التي يعيشها المواطن المصري تحت كنف حكومة مدبولي”، وهو ما يتماشى مع موقف عمرو أديب من النظام المصري في الآونة الأخيرة، خاصة بعد حصوله على الجنسية السعودية، ما جعل بعض أبواق النظام المصري تقول إن أديب ينفذ أجندة سعودية.
وربما يأتي ترشيح هذه الأسماء نتيجة خلفيتها الاقتصادية، فمحمود محيي الدين واحد من أشهر الأسماء الاقتصادية في الآونة الأخيرة بسبب عمله في صندوق النقد الدولي وكذلك خبرته في العمل بالدولاب الحكومي، فقد تولى منصب وزير الاستثمار في مصر في الفترة من يوليو/تموز 2004 وحتى سبتمبر/أيلول 2010.
أما العريان فهو اقتصادي مصري عينه الرئيس الأمريكي باراك أوباما رئيسًا لمجلس الرئيس للتنمية العالمية في ديسمبر/كانون الأول 2012، وعمل في عدد من المجالس واللجان الاقتصادية والمالية والدولية، أبرزها الخزانة الأمريكية ومعهد بيترسون للاقتصاد الدولي والمركزي الدولي للبحوث، بالإضافة إلى أنه عمل باحثًا في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، ويعرف في الأوساط المالية العالمية بـ”حكيم وول ستريت” بعد إدارته “بيمكو” التي تصل استثماراتها لأكثر من تريليون دولار.
كذلك نشرت الإعلامية دينا عبد الفتاح، أول سيدة معينة في مجلس إدارة الشركة المتحدة، عدة مقالات في الصحافة المصرية عن التغيير الحكومي القادم، وعنونت إحدى مقالاتها بعنوان “حكومة ذات مسؤوليات اقتصادية ورئيس وزراء بخلفية مالية دولية”، وهو ما يتماشى مع الأخبار التي نشرتها الصحافة المحلية عن ترشيح محيي الدين المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي لتولي الحكومة في مصر، لكن محيي الدين نفسه رفض التعليق على الأمر في تصريحاته لوسائل الإعلام المصرية.
البعض أيضًا يتوقع أن تتخذ حكومة مدبولي قرار تعويم الجنيه المنتظر منذ مدة ثم يكون هناك تعديل وزاري لتبدأ الوزارة الجديدة عملها بعد التعويم، لكي يتثنى لها ممارسة أعمالها الاقتصادية بعيدًا عن صداع سعر الصرف، الذي أصبح هاجس المصريين خاصة مع وصول الدولار في السوق السوداء لأكثر من 67 جنيهًا، وهو ما يزيد على 100% من سعره في السوق الرسمي.
ما يكشف النقاب عن فكرة تعرية رئيس الوزراء أمام الرأي العام، هو دخوله في ملاسنة مع علاء مبارك نجل الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، عندما قال مدبولي خلال احتفالية تسليم أبراج إدارية بالعاصمة الإدارية الجديدة: “نحن لا نقوم بهذه المشروعات من أجلنا نحن، ولكن لأحفادنا، حتى يجدوا مكانًا سليمًا يعيشون فيه، ولو كان من قبلنا من 30 أو 40 سنة خططوا صح، كانت أجيالنا قد وجدت أماكن على الأقل آمنة ومخططة لأن يعيشوا فيها”.
رد علاء مبارك على تصريحات مدبولي عبر حسابه الشخصي بموقع تويتر قائلًا: “معالي دولة رئيس الوزراء تقصد معاليك أن كل من سبقوك كما تفضلت ما خططوش صح.. وحضرتك اللي بتخطط صح! هل هذا كلام؟”، في رسالة مبطنة بضعف أداء حكومة مدبولي.
لم يرد مدبولي على علاء مبارك، ولم يتعرض الأخير لهجوم وسائل الإعلام كما اعتادت أن تفعل مع أي شخص يغرد خارج السرب أو ينتقد أي مسؤول حكومي، لكن علاء مبارك عاد ونشر مقطع فيديو لرئيس الوزراء وهو يشيد بتخطيط مبارك للمدن الجديدة وقتها، ومقطع آخر ينتقد فيه عدم تخطيط حكومات مبارك، ليعلق علاء على تناقض رئيس الوزراء: “نصدق مين فيكو.. كان فيه تخطيط ولا لأ”، بالإشارة للحديثين المتناقضين لرئيس الوزراء عن تخطيط الحكومات السابقة.
الغريب أن وسائل الإعلام المصرية أبرزت تصريحات علاء مبارك، كأنها تعلن أن أداء مدبولي وشخصه أصبح مستباحًا، وهو الأمر الذي ظهر جليًا في حديث رئيس البرلمان المستشار حنفي الجبالي لوزير العدل عمر مروان عند مناقشة مشروع القانون المقدم من الحكومة بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية.
رئيس البرلمان وجَّه حديثه للوزير قائلًا: “السلطة والسيادة للشعب .. حينما يتم التصويت فلا يوجد خلاف.. هذا أمر غير مقبول من وزير سياسي، وحينما يقوم مجلس النواب بالتصويت النهائي، فلا نقول خلافًا في الرأي، هناك مسلمات لا تحتمل التأويل”، ثم احتد على الوزير: “هل قرأت الدستور؟!”، وهي لغة غير معتادة بين الحكومة والبرلمان طوال السنوات السابقة، والتي اقتصر فيها دور البرلمان على الموافقة على القروض ومشاريع القوانين والتصفيق للوزراء حتى أصبح معروفًا بـ”برلمان نعم”.
يأتي ذلك في الوقت الذي تتضارب فيه تصريحات مدبولي عن الأزمات في مصر، كأنه يرتجل هذه التصريحات أو لا يعلم شيئًا عنها، فعند اندلاع أزمة انقطاع الكهرباء في مصر، صرح مدبولي بأن الأزمة ستنتهى في منتصف أغسطس/آب، ثم صرح أنها ستنتهي في منتصف سبتمبر/أيلول، وبعدها أعلن أن الأزمة مستمرة.
ومنذ أيام صرح “حل الأزمات الاقتصادية في مصر يحتاج إلى عام ونصف تنتهي في منتصف عام 2025″، ثم صرح أن مصر “لن تري حلًا لأزماتها الاقتصادية قبل 2030”.
التضارب في التصريحات يضع رئيس الوزراء، القادم من وزارة الإسكان، والذي عُرف بدقته الرقمية في بداية حكمه، في صورة الرجل الذي لا يعرف شيئًا، وإن كان ذلك لا يختلف كثيرًا عن نهج السيسي الذي تتوالى تصريحاته حاملة بين طياتها الكثير من التناقضات التي لا تخفيها مقاطع الفيديو المتداولة على كل المنصات.
ربما يكون مدبولي “كبش فداء” للتخفيف من حدة الاحتقان التي تغمر الشارع المصري، وإن حدث ذلك، فهل ينعكس التغيير الوزاري على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ ربما تكون الإجابة بنعم، لكن الأكيد أن الأوضاع السياسية والاقتصادية في مصر تشهد توترًا غير مسبوق والأيام حبلى بالكثير، ومكتب رئيس الوزراء الجديد مملوء بالملفات التي توشك أن تنفجر.