لا تزال أصداء وقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينين (الأونروا)، رضوخًا للاتهامات التي كالتها الحكومة الإسرائيلية للوكالة، تخيم على الأجواء وسط تحذيرات من تداعيات تلك الخطوة على الكارثة الإنسانية في قطاع غزة جراء حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال على مدار أكثر من 107 أيام متواصلة.
وكانت كل من بريطانيا وإيطاليا وفنلندا وهولندا والولايات المتحدة وأستراليا وكندا وألمانيا قد قررت على مدار اليومين الماضيين تعليق تمويلها للأونروا، إثر اتهام جيش الاحتلال 12 موظفًا في الوكالة – البالغ عدد موظفيها 30 ألف – بالتورط في عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
تعد الأونروا التي تأسست عام 1948، شريان الحياة الأبرز للاجئين الفلسطينيين، فهي تقدم المساعدة والرعاية لنحو 5 ملايين لاجئ فلسطيني منتشرين في الأردن ولبنان وسوريا والأراضي الفلسطينية المحتلة وقطاع غزة، فيما تحصل على دعمها المادي عبر التبرعات الطوعية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
يمثل استهداف الأونروا عبر وقف مصادر تمويلها – رغم تأكيدها بحث ومناقشة الاتهامات الإسرائيلية – في وقت يعاني فيه القطاع من أوضاع إنسانية خطيرة، وتعريض حياة مئات آلاف الغزيين لخطر الموت جوعًا وعطشًا، عرقلة مباشرة لأداء دورها في هذا التوقيت الحرج.. فما أهداف الكيان المحتل وأعوانه من هذا القرار؟
عقاب جماعي وكارثة إنسانية
في ظل غلق معبر رفح وتشديد الحصار على سكان القطاع منذ الحرب، كانت الأونروا المتنفس الوحيد لإبقاء أكثر من مليوني مواطن على قيد الحياة، وفي حال تجفيف منابع تمويلها فإن الأمر يعني باختصار حكمًا بالإعدام على معظم الأهالي ووضع الجميع على قوائم الموت إما بسبب الجوع وإما بسبب عدم تقديم الرعاية الطبية اللازمة.
“أمر صادم” هكذا علق المفوض العام لوكالة الأونروا، فيليب لازاريني، على قرار تعليق دول عدة تمويلها للوكالة، مستنكرًا في بيان له هذا الموقف “كرد فعل على الادعاءات ضد مجموعة صغيرة من الموظفين”، لا سيما في ضوء التدابير التي اتخذتها الوكالة الأممية، التي “يعتمد عليها أكثر من مليوني شخص من أجل البقاء على قيد الحياة”.
وحذر لازاريني من أن مثل تلك الخطوات من شأنها تهديد العمل الإنساني الجاري حاليًّا في المنطقة خاصة في غزة، معتبرًا أن هذا التحرك في الوقت الحاليّ بمثابة عقاب جماعي لكل سكان القطاع الذين يعانون من واقع إنساني مرير يهدد حياتهم جميعًا.
قرار مجموعة من الدول الغربية بتعليق تمويلها لمنظمة الأونروا @UNRWA ، المسؤولة عن المساعدات الانسانية لأكثر من ٥ مليون لاجئ فلسطينى، بسبب اتهام ١٢من موظفيها ( من بين ٣٠ ألف موظف) بالتورط فى هجمات ٧ اكتوبر هو قرار غير انساني على الإطلاق
توقيت تعليق التمويل اثناء المذابح المستمرة…
— Mohamed ElBaradei (@ElBaradei) January 27, 2024
وتدير المنظمة مراكز إيواء تحتضن أكثر من مليوني شخص وتوفر لهم مقومات الحياة الأساسية من مأكل ومشرب ورعاية طبية، فيما حذرت قبل يومين وزارة الصحة الفلسطينية من أن نحو 600 ألف مواطن شمالي قطاع غزة يواجهون الموت نتيجة المجاعة وانتشار الأمراض والعمليات العسكرية الإسرائيلية.
ووصف مسؤولون أمميون وسياسيون هذا القرار بأنه “انتقام وعقاب جماعي لسكان غزة” كما جاء على لسان مقرر الأمم المتحدة المعني بالحق في السكن، بالاكريشنان راجاغوبال، الذي شدد على أنه لا يمكن معاقبة شعب بسبب أخطاء مزعومة لأفراد في الوكالة، وهو ما أكده وكيل الأمين العام الأممي للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث الذي لفت إلى ما يعاني منه سكان القطاع من أهوال وحرمان لا يمكن تصوره، منوهًا إلى أن الوقت غير مناسب لخذلانهم.
أما زعيم حزب العمال البريطاني السابق جيرمي كوربن، فأكد أن حكومة بلاده يجب أن تشعر بالخجل مما أسماه “انحطاطها الأخلاقي تجاه الشعب الفلسطيني”، واصفًا انضمامها إلى قافلة الدول التي علقت تمويلها للأونروا بأنه مشاركة متعمدة في العقاب الجماعي على سكان غزة.
ضغوط وترهيب
لم تقدم دولة الاحتلال أي أدلة أو وثائق تثبت اتهاماتها بشأن تورط 12 من موظفي الأونروا في عملية طوفان الأقصى، رغم أن موظفي الوكالة يبلغ عددهم 30 ألفًا، يعمل 13 ألفًا منهم قطاع غزة موزعين على أكثر من 300 منشأة، وبالتالي فإن الرقم المذكور لا يتناسب مع حجم القرارات التي من المتوقع أن يتأثر بها عشرات آلاف المدنيين.
رغم ذلك حاول الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش التماهي مع الاتهامات الإسرائيلية وفتح تحقيق داخل الأمم المتحدة، موضحًا أنه قد تم فصل 9 من الأسماء الـ12 الواردة في مزاعم جيش الاحتلال، فيما قُتل آخر، بينما لم يتم التحقق من هوية الاسمين الآخرين، مشددًا على أنه “يجب عدم معاقبة عشرات آلاف الرجال والنساء الذين يعملون لحساب الأونروا، الكثير منهم في بعض من أخطر الظروف للعاملين في المجال الإنساني”.
وفي سياق الترهيب الممنهج اتهم المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية إيلون ليفي الأونروا بأنها واجهة لحماس، وكتب على حسابه بمنصة “إكس” “أنها تغطي حرفيًا على حماس”، فيما غرد وزير خارجية الاحتلال يسرائيل كاتس عبر المنصة ذاتها أن وزارته تهدف إلى ضمان “ألا تكون الأونروا جزءًا من المرحلة” التي تلي الحرب، لافتًا إلى أنه سيسعى للحصول على دعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأطراف مانحة أخرى رئيسية لأجل تحقيق هذا الهدف وأن تحل محلها “وكالات تكرس عملها للسلام والتنمية” على حد قوله.
#عاجل | الرئاسة الفلسطينية: نرفض الحملة الظالمة التي تقودها حكومة الاحتلال ضد الأونروا والتي تهدف لتصفية قضية اللاجئين pic.twitter.com/PSvQvusjoz
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) January 28, 2024
أثارت الوكالة الدولية غضب حكومة الاحتلال حين فضحت عبر عدة تقارير جرائم جيش المحتل في غزة منذ الحرب واستهدافها منشآت مدنية بما في ذلك مدارسها ومراكز الإسعاف، وهي التقارير التي استندت إليها محكمة العدل الدولية في قراراتها الأخيرة التي أدانت فيها دولة الاحتلال، حين أشارت المحكمة إلى تقرير الأونروا الذي قالت فيه “القصف مستمر على غزة وتسبب بنزوح كبير للسكان وأجبروا على مغادرة منازلهم إلى أماكن ليست أكثر أمنًا وتضرر أكثر من مليوني شخص وسيتضررون نفسيًا وبدنيًا والأطفال مرعوبون”، وهو ما وضع الكيان المحتل في مأزق أخلاقي وإنساني وسياسي أمام المجتمع الدولي.
يبدو أن هذا الموقف لم يمر مرور الكرام، فقد قرر الاحتلال وحلفاؤه معاقبة المنظمة والانتقام منها، وذلك من خلال وقف التمويل الذي تعتمد عليه في أنشطتها داخل القطاع وخارجه، فتشكل أمريكا والاتحاد الأوروبي 45% من إجمالي التبرعات التي تحصل عليها الأونروا (أمريكا بـ130 مليون دولار، والاتحاد الأوروبي بـ106 ملايين دولار).
ويعد التمويل أحد أبرز أسلحة الانتقام والمعاقبة التي تستخدمها الدول المانحة ضد المنظمة بسبب مواقفها، فقد سبق أن حجبت الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب 65 مليون دولار عن الوكالة (50% من إجمالي ما تقدمه أمريكا) بسبب ردود الفعل السلبية على قرار إعلان القدس عاصمة للكيان المحتل.
التخلص من الأونروا.. مخطط قديم لتصفية قضية اللاجئين
تعاني العلاقة بين دولة الاحتلال والأونروا من توترات مستدامة، إذ يعتبر المحتل وجود الوكالة مسألة ضارة بأجندته التوسعية الاستيطانية، وتعرقل خطته في استهداف المدنيين والضغط على المقاومة بين الحين والآخر، وينظر إليها على أنها الضلع الأساسي في بقاء قضية اللاجئين على قيد الحياة، لذا حاول مرارًا إنهاء عملها داخل القطاع بأي شكل وثمن.
عام 2018، دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى إنهاء وجود المنظمة، ووضع اللاجئين الفلسطينيين تحت إدارة مفوضية شؤون اللاجئين في الأمم المتحدة، وهي الدعوة التي لم تجد صدى لها عبر المسارات الإقليمية والدولية.
ومع اشتعال الأجواء الفلسطينية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي استغلت تل أبيب المشهد الراهن للتخلص من الوكالة، عبر اتهامها بالتورط في عملية الطوفان، وحث داعمي الصهاينة على وقف تمويلهم لها وتشكيل رأي عام دولي ضدها بزعم تأجيج التحريض ضد كيان الاحتلال، وذلك تمهيدًا لإخراجها من القطاع كخطوة أولى لإخراجها من المنطقة.
وكشفت تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلية هذا المخطط بشكل واضح وعلني حين قال: “لقد كنا نحذر لسنوات من أن الأونروا تديم قضية اللاجئين، وتعرقل السلام، وتعمل كذراع مدنية لحماس في غزة”، مشددًا على أن بلاده ستسعى إلى منع المنظمة من العمل في غزة بعد الحرب.
عاجل | الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين للجزيرة: العمل الإغاثي سينهار برمته في غزة إذا توقفت عمليات الأونروا pic.twitter.com/lIUCASn1cK
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) January 28, 2024
أكد هذا التصعيد غير المبرر من الدول المانحة للأونروا، حجم التناقض والازدواجية التي يعاني منها الغرب إزاء الحرب في غزة، ففي الوقت الذي تنتفض فيه تلك الدول إزاء اتهام غير موثق بشأن ضلوع 12 من 30 ألف موظف بالتورط في عملية طوفان الأقصى، تقف عاجزة أمام جرائم ضد الإنسانية موثقة بالصوت والصورة، بل وتدعم المجرم عسكريًا وسياسيًا ولوجستيًا في مواجهة شعب مدني أعزل، معظم ضحاياه من الأطفال والنساء.
إن لم تحقق دولة الاحتلال هدفها الأكبر بإنهاء عمل الأونروا في القطاع من خلال هذا الترهيب فإنها على الأقل تسعى للضغط على الوكالة من أجل غض الطرف عن الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، وخلو التقارير الصادرة عنها والمحتمل تقديمها لمحكمة العدل الدولية وغيرها من المنصات القضائية الدولية من أي من تلك الانتهاكات، بما يقلل الضغوط المفروضة على الاحتلال ويمنحه المزيد من الحرية في ارتكاب مجازره وجرائم الإبادة التي يشنها دون توثيق أو افتضاح لأمره.
تضع تلك التحركات التي تهدد حياة مئات آلاف الفلسطينيين داخل القطاع، الكرة مجددًا في ملعب الحكومات العربية المطالبة اليوم وليس الغد بتعويض الوكالة عن وقف التمويل الغربي للمنظمة، وذلك لضمان استمرارية عملها من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه في ظل الوضعية الكارثية التي تتفاقم يومًا تلو الآخر.. فهل يستغل العرب الفرصة لغسل سمعتهم الملطخة ببقع النفاق، أم سيواصلون هوايتهم المفضلة في الانبطاح خشية استثارة غضب أمريكا و”إسرائيل” ومن خلفهما؟