لا يعي الشيخ وجدي غنيم، الداعية الإسلامي المنشق عن جماعة الإخوان المسلمين، أن الإفراط بغير منطق يأخذ من المعنى حرمته ومن الكلام احترامه، حتى لو كان مدفوعًا بحرص شخصي لصيانة ما هو معلوم من الدين بالضرورة ـ من وجهة نظره ـ لا سيما أن الكثير من أرائه وتوجهاته منبوذة من بعض أطياف التيار الإسلامي، بل ومن جماعته “الإخوان” التي تبرأت منه على الهواء مباشرة خلال لقاء لمتحدثها الأسبق الدكتور محمود غزلان على قناة الجزيرة مباشر مصر، قبل 5 سنوات، وأكد فيه أن غنيم لا ينتمي إلى الجماعة، إثر هجوم شديد شنه الداعية الإسلامي على سياسات الإخوان، قبل شهرين من انتخاب الدكتور محمد مرسي رئيسًا لمصر.
السب واللعن والتكفير أسلوب حياة
في تسجيل له على قناته الشخصية بموقع يوتيوب، حمل عنوان “صدق الله العظيم وكذب العلمانيون المبدلون لشرع الله في تونس”، هاجم غنيم الباجي قائد السبسي الرئيس التونسي، متهمًا إياه بالارتداد والكفر، بعدما دعا إلى مراجعة قوانين تسمح للمرأة بالحق في الميراث مثل الرجل، والزواج من الأجنبي غير مسلم، زاعمًا أن ذلك لا يتعارض مع الدين والدستور.
وهي القرارات التي أثارات نقاشات موسعة في تونس، وانقسمت الآراء بين من اعتبرها خطوة شجاعة في اتجاه تمكين المرأة من حقوقها كاملة، وآخر يراها إعلان حرب على أحكام الشرع الإسلامي، بينما لم يعرها البعض الزخم المناسب، وقال إنها مجرد زوبعة مفتعلة وحملة انتخابية مبكرة للرئيس السبسي لاستقطاب أصوات النساء لصالحه.
ولم يختص وجدي غنيم الرئيس السبسي وحده بفتاوى التكفير، بل شن هجومًا كاسحًا على البرلمان التونسي وأسماه بـ”مجلس الكفر”، ولم يسلم أحد من طعن الداعية الإخواني في عقيدته وصحيح إسلامه، حتى القيادات الإسلامية بداية من راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الإسلامية، وعبد الفتاح مورو القيادي بالحركة والنائب الأول لرئيس مجلس النواب، الذي اعتبره غنيم “بلياتشو” للغنوشي، كما طالت لعناته الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة مؤسس الجمهورية التونسية.
وجدي غنيم: صدق الله وكذب العلمانيون المبدلون شرع الله في تونس المسلمة
زادت الأزمة اشتعالاً، التصريحات الغاضبة للسفير التركي في تونس عمر فاروق دوغان، والذى قال في بيان صدر رسميًا عن الخارجية التونسية، إن سلطات بلاده شرعت في اتخاذ الإجراءات اللازمة لمقاضاة الداعية المصري وجدي غنيم، موضحًا أنه حضر إلى مقر وزارة الخارجية لإبلاغ الموقف الرسمي التركي من تصريحاته وشدد على أن حكومة بلاده تتقاسم شعور الشعب التونسي إزاء هذه التصريحات، ولن تسمح بأي نشاط أو تصريحات من شأنها تعكير صفو العلاقات بين البلدين.
وجاء ذلك إثر استدعاء الخارجية التونسية للسفير التركي والتعبير عن استنكارها الشديد للتصريحات المشينة الصادرة عن غنيم، معبرة عن استغرابها من استغلاله لإقامته في تركيا للتهجم على الدولة التونسية ورموزها.
خلاف واسع بين الإسلاميين
لم تقف فتنة وجدي غنيم عند حدود الأراضي التونسية والتركية، بل أشعلت حربًا ضارية في صفوف التيار الإسلامي ومواليه إعلاميًا، كان في القلب منهم محمد طلبة رضوان الإعلامي بقناة الشرق، أحد أهم المنافذ الإعلامية الداعمة للجماعة ولشرعية الرئيس الأسبق محمد مرسي في حكم مصر، والذي كتب مقالاً ناريًا يهاجم فيه وجدي غنيم، وقال إنه داعية “إخواني متسلف”، محسوب على مجموعة من الأفكار المتطرفة، غير المقبولة سواء من الدولة المصرية أو من مؤسسة الأزهر الشريف الذي يعتبر أمثاله من الخوارج.
مضيفًا: “هو ليس منا، ولا يمثل الإسلام الوسطي، ولا يمثل الأزهر الشريف المعتدل، وربما لا يمثل الإخوان أنفسهم، كما أنه لا يمثل نفسه، معتبرًا أن الشيخ وجدي فكرة ميتافيزيقية وغير موجود في الحياة من الأساس”.
مقال طلبة والذي حاول تشريح الأزمة المصرية من جوانبها كافة انطلاقًا من “تكفير غنيم”، قابلته الإعلامية آيات العرابي المحسوبة على الجماعة أيضًا، بهجوم كاسح شمل سخرية من اسم طلبة
واعتبر المذيع المقرب من جماعة الإخوان، أن التكفير أصبح سمة للحياة في مصر، سواء التكفير الديني للمخالف في الدين أو العقيدة أو المذهب داخل الدين الواحد أو الرأي داخل المذهب الواحد، والتكفير السياسي لكل من تسول له نفسه أن يرى غير ما يرى السيسي، والتكفير الذي تتبناه الدولة، والتكفير الذي تتبناه الثورة، والتكفير الذي يفقهنه الأزهر، والتكفير الذي يشرعنه الإخوان، والتكفير الذي يباركه المجتمع، معتبرًا أن الفرق بين الجميع في درجة التكفير وليس نوعه.
مقال طلبة والذي حاول تشريح الأزمة المصرية من جوانبها كافة انطلاقًا من “تكفير غنيم”، قابلته الإعلامية آيات العرابي المحسوبة على الجماعة أيضًا، بهجوم كاسح شمل سخرية من اسم طلبة، وزادت الهجوم أضعافًا بعدما استحسن الإعلامي الساخر باسم يوسف مقال طلبة وأعاد نشره على صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.
واعتبرت الإعلامية التي تتبنى هي الأخرى خطابًا متشنجًا أقرب للتطرف، العنوان الذي اختاره يوسف للتعبير عن حجم الدعم الذي تقدمه الفتاوى التكفيرية للإلحاد والملحدين قائلاً: “اللهم أعز الإلحاد بوجدي غنيم”، سخرية مبطنة من حديث للرسول قال فيه: “اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين”، ولم تكتف بذلك بل راحت تطعن في تدين باسم يوسف وإسلامه، مؤكدة ادعاء أي شخص في العصر الحالي أنه مسلم، لا يعد دليلاً على إسلامه.
تساؤلات منطقية من اليسار الإسلامي
بعيدًا عن لغة الشتائم والعنف الموجه من الأطراف كافة، فتح صلاح الدين الجورشي المفكر الإسلامي التونسي وأحد قيادات ما يعرف باليسار الإسلامي حوارًا هادئًا عن الأزمة التي فجرها غنيم، وطالب بضرورة إعلان نوعية العلاقة القائمة بين حركة الإخوان و”مفتيهم” إن صحت الصفة والمكانة، معتبرًا أنه أمر مهم لأنه يوضح الصورة ويحدد المسؤوليات ويرفع اللبس، لا سيما أن غنيم يتعامل مع السياسة بنفس القطعية التي يتعامل بها مع النصوص الدينية.
واعتبر الجورشي أن إشارته بشأن توضيح علاقة غنيم بالجماعة، لا تستمد أهميتها من فهم المسألة التنظيمية لأنها في النهاية تخص الإخوان كتنظيم، وإنما الدلالة الأكبر تكمن في هذه البوابة العريضة المفتوحة بين الإخوان والتيار السلفي، وهي بوابة اتسعت كثيرًا حتى دفعت ببعض الدارسين لحركة الإخوان أن ينحتوا مصطلحًا مهمًا حين استعملوا كلمة “تسليف الإخوان”، وهؤلاء لاحظوا من خلال دراسات ميدانية أن المسافة بين الطرفين قد اقتربت كثيرًا خلال الثلاثين سنة الماضية لصالح التيار السلفي، الذي اكتسح القواعد والمواقع القيادية والجزء الأكبر من مجلس شورى الحركة.
يمكن القول إن علاقة الشيخ وجدي غنيم بجماعة الإخوان المسلمين، يحكمها البراجماتية البحتة، ويمكن لأي متابع فك خيوط العلاقة بين الطرفين بعد أزمة الجماعة مع مؤسسات القوة الأمنية في مصر والتي انتهت بعزل الإخوان عن الحكم
ويرى القيادي باليسار الإسلامي أن المواقف التي دافع عنها المرشد العام للجماعة بعد الثورة المصرية وعند صياغة الدستور المصري خلال فترة حكم الحركة تجعلنا ندرك عمق الخطاب السلفي في بناء الخطاب الإخواني وعمق البصمة السلفية عليه.
وهاجم الجورشي بشكل مبطن جماعة الإخوان الأم، مؤكدًا أنها بغض النظر عن مصير حركة الإخوان وتداعيات الأزمة الهيكلية والسياسية التي تتخبط فيها منذ أن أضاعت فرصتها التاريخية في مصر، إلا أن بعض رموزها وشيوخها ينظرون بشكل معادٍ للتجربة التونسية، ويعتقدون أن حركة النهضة قد انحرفت نهائيًا عن خطها الإسلامي، نظرًا لهيمنة المنزع البرجماتي لدى قيادتها.
مطالبًا قيادات النهضة الإسلامية التونسية بضرورة الاستمرار في مغامرتها السياسية والفكرية، لأنها لو التفتت إلى غيرها ستسقط في بئر عميقة، والمشكلة أنها لن تسقط وحدها وإنما ستتحمل أيضًا مسؤولية إجهاض الانتقال الديمقراطي التونسي كما فعل الإخوان في مصر على حد وصفه.
علاقة براجماتية تحكم الإخوان بـ”وجدي غنيم”
يمكن القول إن علاقة الشيخ وجدي غنيم بجماعة الإخوان المسلمين، يحكمها البراجماتية البحتة، ويمكن لأي متابع فك خيوط العلاقة بين الطرفين بعد أزمة الجماعة مع مؤسسات القوة الأمنية في مصر والتي انتهت بعزل الإخوان عن الحكم.
فالرجل المنبوذ من جماعته وخاصة بعد ثورة 25 يناير، عاد مرحبًا به بشدة، وفتحت له المنابر الإعلامية المدعومة من الإخوان كافة، يمارس من خلالها التحريض والتكفير والسب واللعن إلى الجميع، سواء كانوا دولاً أو أشخاصًا.
قبل سنوات كان وجدي غنيم أحد منغصات الحركة الإسلامية المعتدلة في مصر، وكان يرفض أيضًا بنفس المقاربة تحالف وتفاهمات الإخوان مع الليبراليين والعلمانيين المصريين في كل الفعاليات الانتخابية والسياسية التي تلت ثورة يناير
لم يترك غنيم معارضًا للإخوان إلا وداسه بحاد لسانه، وهو ما يخدم عمليًا على ما يبدو الطريقة الوحيدة التي تعتمدها الجماعة بديلاً مقنعًا للصف عن بحث وضعها السياسي والقانوني والفكري والإنساني، وبالتالي لا مجال لإعادة فهم الدلالات العامة وإنتاج الدراسات البحثية والفكرية التي تتضمن مسحًا شاملاً لمواقف الإخوان وقيادتها، ولو حتى على المستوى التنظيمي الذي يئن منذ 3 سنوات من خلافات كارثية قد تنتهي بالجماعة إلى الانزواء للأبد، طالما أن هناك من يستطيع إشعال المشاعر الغاضبة لعموم الصف بالشتائم والتكفير وهتك عرض الذي انتهوا بالإخوان إلى هذا الحال.
ولم تهتم جماعة الإخوان بتذكر تاريخ الخلافات بينها وبين الرجل والتي تؤكد أنه غير مأمون العواقب، فأزمة تونس وتكفير رئيسها ومجلس نوابها، وذم الكبير والصغير في القيادات الإسلامية التونسية، ليس أولى أزمات وجدي غنيم مع تيار ينتمي إليه.
قبل سنوات كان وجدي غنيم أحد منغصات الحركة الإسلامية المعتدلة في مصر، وكان يرفض أيضًا بنفس المقاربة تحالف وتفاهمات الإخوان مع الليبراليين والعلمانيين المصريين في كل الفعاليات الانتخابية والسياسية التي تلت ثورة يناير.
كما رفض بشدة فتوى الدكتور عبد الرحمن البر مفتي الجماعة السابق، عن جواز التحالف مع هؤلاء قياسًا على “حلف الفضول”، أحد أحلاف الجاهلية الأربع التي عقدتها قريش بين عدد من عشائر القبيلة في مكة، وتعاهدوا فيه على ألا يظلم أحد في مكة إلا وردوا له مظلمته، وشهد الاتفاق النبي محمد، وهو الأمر الذي أثار أزمة كبرى بين البر وغنيم في مايو 2012، ووصل الأمر لتبادل الاتهامات والألفاظ الموجعة واعترف بذلك الأخير في تسجيل لا يزال موجودًا على قناته بموقع يوتيوب حتى الآن.
وجدي غنيم: ردي على كلام د. محمود غزلان
وقبل أن يعود غنيم مغنمًا لشاشات الجماعة، كان يواجه عزلة كبرى من الإخوان وصلت إلى حد قطع الاتصالات كاملة ليس فقط على مستوى القيادات الكبرى بل حتى من مسؤول أسرته الإخوانية بالإسكندرية، الذي تهرب منه ورفض التواصل معه بحسب حديث غنيم نفسه، ولم تسأل عنه الجماعة خلال سنوات مطاردته خارج مصر بعدما غادرها مجبرًا، إثر 8 اعتقالات بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي وانتهت في أواخر التسعينيات.
وعندما اختار الهجرة مارس نفس الطريقة العنيفة في نظرته للدين والحياة، فأقدم على اعتقاله وطرده العديد من دول العالم التي حل عليها، ولم تفلح في إعادته للاعتدال أي محاولة للتفاهم معه حتى من الإسلاميين أنفسهم وفي مقدمتهم الشيخ مورو الذي سخر منه وأسماه بـ”الأراجوز” خلال الأزمة الأخيرة له مع تونس، وكان أحد ضحاياه بعدما حاول عقد جلسة خاصة معه لمناقشته فكريًا وإبصاره بحقيقة الأوضاع التونسية.
إلا أن غنيم سجل ما دار بينهما وأذاعه على جماهيره، وظهر في المقابلة متنمرًا مدافعًا عن صحيح الدين في مقابل آخر يدعو إلى الانفتاح والحداثة، الأمر الذي كانت له انعكاسات فادحة على مصداقية مورو، وساهم في زيادة القطيعة بين إخوان تونس ومصر.