توجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يوم الإثنين 21 من آب/أغسطس 2017، إلى العاصمة الأردنية عمّان، في إطار زيارة رسمية تأتي تلبيةً لدعوة من الملك عبد الله الثاني، لتناول آخر المستجدات الإقليمية.
في بداية تقييم هذه الزيارة التي تعتبر الأولى من نوعها بالنسبة لشخص الرئيس رجب طيب أردوغان، منذ توليه رئاسة الجمهورية، لا بد من الإشارة إلى أن الزيارة تأتي في إطار المسعى الأردني للاستفادة من الدور التركي المؤثر في القضية الفلسطينية، فالأردن بحاجة إلى مؤازرة فاعلة في أزمته الدبلوماسية الأخيرة مع “إسرائيل”، على إثر قتل أحد أفراد الأمن في السفارة الإسرائيلية لمواطنين أردنيين، ورفع “إسرائيل” مستوى انتهاكاتها ضد المسجد الأقصى الذي يقع تحت الوصاية الإدارية والدينية للأردن.
لربما يستفيد الأردن من الدبلوماسية التركية، بفعل الملفات الحيوية المتعددة التي تربط تركيا بالولايات المتحدة و”إسرائيل”، كملف الحل السياسي في سوريا، ومسألة تقديم تركيا الدعم اللوجستي لقوات التحالف المحاربة “لداعش”، وملف تصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر الأراضي والمياه الإقليمية التركية والقبرصية التركية، وغيرها من الملفات التي يمكن من خلالها تشكيل ضغط على الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية لحل الأزمة الدبلوماسية التي أثرت سلبًا في هيبة الأردن كدولة وحتى كملك، وذلك نتيجة اضطرار الأردن لتسليم رجل الأمن الإسرائيلي إلى “إسرائيل”، بعد تعرضه لضغط من الإدارة الأمريكية، فضلاً عن حاجته لاسترجاع إدارته الدينية للمسجد الأقصى كاملةً، بعد تعرض موظفيه، حتى الآن، للمنع من قبل “إسرائيل”.
وفي الدرجة الثانية من سلم أولويات الزيارة حجزت الأزمة السورية مقعدها، فبعد تراجع الدور السعودي في الأزمة السورية، بشكل ملموس، نتيجة عدم قدرة الرياض على الظفر بدور دبلوماسي مؤثر في عملية حلها، الأمر الذي دفع القيادة السعودية، وفقًا لبعض وكالات الأنباء المطلعة، إلى السعي لتسليم لواء المعارضة إلى القاهرة التي يعتبر نظامها على خصومة مع أنقرة، وهو ما دفع أنقرة للبحث عن دولة تلعب دور “حلقة الوصل” بينها وبين القاهرة، كي تحفظ لذاتها التأثير، ولو بشكل نسبي، في أجندات المعارضة السورية، وعلى ما يبدو، يمثل الأردن الذي يحظى بعلاقات جيدة مع النظام المصري، الخيار الأمثل للإدارة التركية.
فالأردن يرغب في حفظ أمنه القومي، بعد تراجع الدور الخليجي الملموس في الأزمة السورية وتنامي المخاطر الإرهابية نتيجة حصر “داعش” في مناطق تكاد تكون قريبة من حدوده، وتركيا ترغب في تحقيق ذات الهدف
لقد أظهرت، عدة عوامل طفت على السطح في الآونة الأخيرة أن أنقرة أضحت تكتفي بالحفاظ على مصالحها القومية بمعزل عن التبني الكامل لأجندات المعارضة التي شكلت نقطة انطلاق الثورة السورية، ومن أهم هذه العوامل تنامي الخطر الكردي على حدودها الجنوب شرقية، إلى جانب عدم قدرتها على الظفر، عبر المعارضة، بنتائج إيجابية لصالحها في المحافل الدولية أو في الميدان، وبالأخص بعد سيطرة “هيئة تحرير الشام” ميدانيًا على إدلب، وبالإضافة إلى تجاهل الولايات المتحدة والدول الأوروبية التعاون الفاعل مع المعارضة، والاتجاه نحو التلميح بقبول بقاء نظام الأسد، وختامًا ظهور توجه لدى المعارضة بالتواصل المباشر مع روسيا التي تملك الكعب العالي في المسار السياسي والعسكري للأزمة. وعلى ما يبدو، دفعت هذه العوامل أنقرة لليقين برجوح كفة الميزان لصالح الدول الأخرى، الأمر الذي دفعها للركون إلى التفاعل الدبلوماسي المباشر أكثر من سياسة “الوكالة” التي كانت تتم عبر المعارضة، وفي هذا السياق، يمكن القول إن السيناريو الذي تطرحه بعض وسائل الإعلام عن “إمكانية تحقيق تركيا والأردن تعاونًا مشتركًا عبر تولي مهام دعم المعارضة الفاعلة في المنطقة الشرقية، بعد قطع الولايات المتحدة الدعم عن غرفتي “الموم” و”الموك”، غير منطقي، ويمكن اختزال العوامل التي تجعله كذلك على النحو التالي:
ـ سلم الأولويات: فالأردن يرغب في حفظ أمنه القومي، بعد تراجع الدور الخليجي الملموس في الأزمة السورية وتنامي المخاطر الإرهابية نتيجة حصر “داعش” في مناطق تكاد تكون قريبة من حدوده، وتركيا ترغب في تحقيق ذات الهدف، بعد تراجع الدور الغربي الداعم لها، وتحوله لدور داعم للقوات الكردية التي تشكل خطرًا عليها.
ـ عدم وجود توافق بينهما وبين مراكز القوى: فمراكز القوى الفاعلة في سوريا هي الولايات المتحدة وروسيا، وكلتاهما تُجريان توافقات تخدم مصالحهما، متجاهلتين رغبات الدول الإقليمية، ووفقًا للمشهود، يبدو أن المنطقة الشرقية قد تخضع لسيطرة النظام داخليًا، وسيطرة القوات الأمريكية حدوديًا، وفي تجاهل القوات الأمريكية الرد على النظام بعد استهدافه لرتل “أسود الشرقية” بالقرب من حاجز “ظاظا”، وقطع أو تخفيف الولايات المتحدة الدعم عن الفصائل الفاعلة هناك، وجنوح الأردن للموافقة على الاتفاق الأمريكي الروسي بشأن جنوب سوريا، وغيرها، تظهر عدة دلائل على أن الولايات المتحدة الأمريكية غير مهتمة بخوض مغامرة المواجهة المباشرة مع “داعش”، وبالتالي تحقيق هيمنة كاملة على المنطقة الشرقية، والأردن يفضل الحلول الدبلوماسية على خوض معارك عسكرية، وهذا ما يجعل تركيا غير مستعدة للخوض في نقاش الموضوع.
ولكن على الرغم من تراجع دورها في التأثير في أجندات المعارضة، تبقى تركيا بحاجة إلى التأثير في أجندات المعارضة بالقدر الذي يضمن لها مصالحها القومية، وعلى الأرجح، هذا جزء مهم سعت لتحقيقه خلال زيارة الرئيس أردوغان للأردن.
وبالركون إلى تصريحات الرئيس التركي بشأن ضرورة رفع مستوى العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية، وضم الوفد التركي وزراء ذوي شأن في الجانب الاقتصادي وهيئات تجارية، نلحظ أن المسعى التركي الرامي إلى الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع الدول الخليجية، والدول المتأثرة من الأزمة الخليجية، بما يكفل عدم تعرض تلك العلاقات للصدع، حاضر وبقوة. فعقب اتجاه تركيا صوب تقديم الدعم الكبير لقطر، تم تفسير الأمر على أنه انحياز غير حيادي من تركيا لصالح قطر على حساب الدول الأخرى، مما دفع الخارجية التركية لاتخاذ خطوات فاعلة نحو التحرك الدبلوماسي الوقائي النشط، من خلال زيارة دول الخليج الأخرى وإبرام اتفاقيات جديدة معها، وفي ضوء ذلك، يستقى من هيكلية الوفد المرافق للرئيس أردوغان، أن تركيا استغلت دعوة الملك عبد الله في إطار المحور ذاته.
وفي ظل هذا الطرح، يتضح جليًا أن الدبلوماسية التركية استغلت هذه الزيارة في سياق مبدأ “فرصة التكاليف البديلة” الذي يُشير إلى أن تركيا سعت لاستغلال هذه الزيارة كفرصة تخفف عنها التكاليف البديلة التي كانت ستظهر للسطح في حين لم تنتهج سياسة توافق متوازنة مع دول الخليج “المحاصرة جزئيًا” لقطر، والدول غير الخليجية الأخرى الداعمة لقرارها، كالأردن مثلاً. وفي ضوء ذلك، تجدر الإشارة إلى وجود رغبة أردنية تقابل الرغبة التركية، بعدما طرأ بعض التدني على مؤشرات الدخل الاقتصادي الأردني، نتيجة فقدان السلع الأردنية السوق القطرية، وتدني الاستثمارات القطرية في الأردن، بعد مقاطعة دول الخليج لقطر وإغلاق المعابر الحدودية معها، واتجاه المملكة العربية السعودية نحو فتح معبر عرعر الحدود مع العراق، الأمر الذي قد يؤدي إلى رفع التبادل التجاري السعودي ـ العراقي، خاصة في مجال السلع الغذائية، على حساب السلع الأردنية، فضلاً عن فقدان ميناء العقبة الأردني، لكثير من البضائع العراقية التي كانت تُصدر من خلاله إلى الخارج، حيث سيكون ميناء جدة السعودي أقرب جغرافيًا وأقل تكلفةً اقتصاديًا، عوضًا عن اكتساب ميناء جدة أهمية أعلى مقارنة مع ميناء العقبة، عبر استخدامه كميناء للاستيراد أيضًا من قبل التجار العراقيين. وعلى ما يبدو، يحاول الأردن، من خلال رفع مستوى التعاون التجاري مع تركيا، وعرض مينائه كبوابة للبضائع التركية نحو الخليج، تخفيف حدة هذه الخسائر.
بالوصول إلى نقطة تحرير الموصل، يوضح توقيت الزيارة أن البلدين المجاورين للعراق، أي تركيا والأردن، يهدفان، على ما يبدو، إلى تنسيق مواقفهما من أجل لعب دور مؤثر يبلور السياسة العراقية الداخلية لصالحهما وفقًا للحد الأدنى
وفي دعوة الملك عبد الله للرئيس أردوغان، مباشرة بعد اجتماع القيادة التركية برئيس الأركان الإيراني محمد بقاري، في أنقرة، دلالة على أن الأردن دعا الرئيس أردوغان للزيارة، ربما، للاستفادة من التعاون الدبلوماسي الذي قد يتحقق بين تركيا وإيران، وربما في المستقبل مع النظام السوري ذاته، نظرًا لحاجتهما، أي تركيا وإيران، لذلك في الوقت الحالي، لتنسيق مواقفهما الرافضة لانفصال إقليم كردستان العراق واحتكار روسيا والولايات المتحدة لمسارات حل الأزمة السورية بمعزل عنهما. ويمكن للأردن الاستفادة من الدور التركي، إلى جانب الاتفاق الروسي الأمريكي، في إقناع إيران بإبعاد المليشيات الشيعية عن الحدود الأردنية.
وبالوصول إلى نقطة تحرير الموصل، يوضح توقيت الزيارة أن البلدين المجاورين للعراق، أي تركيا والأردن، يهدفان، على ما يبدو، إلى تنسيق مواقفهما من أجل لعب دور مؤثر يبلور السياسة العراقية الداخلية لصالحهما وفقًا للحد الأدنى، لا سيما بعد سنوح الفرصة لذلك عبر اتجاه بعض القادة الشيعة صوب تأسيس أحزاب مدنية.
ختامًا، تجمع الكثير من المصالح البينية المشتركة بين تركيا والأردن، وتربط علاقات دبلوماسية تاريخية وثقافية عميقة بين الدولتين تمتد لـ70 عامًا، وهذا ما يجعل تنسيقهما الحيوي أمرًا ضروريًا، ولكن، فيما تتمتع تركيا بقدرٍ جيد من الإرادة السياسية التي قد تُؤدي إلى وجود نوع من الاستقلالية في القرار التركي، وبالتالي مواكبة تركيا للطموح الأردني بشكل جيد، يفتقد الأردن لتلك الإرادة والاستقلالية في اتخاذ القرار، حيث يعتبر دولة أقرب ما تكون لوصف “تابعة” بشكل متشابك لعدة دول، الأمر الذي قد لا ينتج عنه تلبية للطموح التركي.