قبل أقل من عقد من الزمن، كانت الأحزاب الإسلامية قوة لا تقاوم في الشرق الأوسط. ومع سقوط الدكتاتوريين في الانتفاضات العربية سنة 2011، اكتسبت هذه الجماعات، ولا سيما الإخوان المسلمين وفروعها، نفوذا مكنهم من بسط سيطرتهم. ويبدو أن المسجد وصندوق الاقتراع قد حلا محل القصر، بينما تحولت الثكنات والشرطة السرية إلى مصدر للسلطة.
في حطام العالم العربي اليوم، يتصرف الكثيرون كما لو أن فكرة أن الإسلاميين يمكن أن يضطلعوا بدور ديمقراطي مفيد، قد تحطمت أيضا. والجدير بالذكر أن عناصر جماعة الإخوان المسلمين يتعرضون للقمع من جديد من قبل الأنظمة الرجعية، ويواجهون عدة تحديات من ناحية الجماعات التي تتبنى المنهج الجهادي، ناهيك عن أنهم يقابلون بالشك والريبة من طرف الناخبين الذين يشعرون بالخذلان.
يعتبر القمع الشامل لجميع الإسلاميين أسوأ استجابة ممكنة لذلك، لأنه لن يؤدي إلا إلى توليد مزيد من الاستياء وافتعال مزيد من الفوضى والمزيد من الإرهاب
طيلة سنوات، كان مصير العديد من جماعة الإخوان المسلمين إما السجون أو المنفى. كما يتعرض ممولهم الرئيسي، قطر، لنبذ دبلوماسي واقتصادي من قبل جيرانها العرب بدعم من الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب. عموما، تحث الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر الحكومات الغربية على تصنيف جماعة الإخوان المسلمين ضمن قائمة المنظمات الإرهابية.
من هذا المنطلق، عندما يرتكب الجهاديون جرائم قتل، كما حصل الأسبوع الماضي في إسبانيا، من الطبيعي أن يقع معاملة أولئك الذين يسعون إلى السلطة باسم الإسلام كأنهم خطر محدق. ولكن، يعتبر القمع الشامل لجميع الإسلاميين أسوأ استجابة ممكنة لذلك، لأنه لن يؤدي إلا إلى توليد مزيد من الاستياء وافتعال مزيد من الفوضى والمزيد من الإرهاب.
تسعة وتسعون وجها
تأخذ الجماعات الإسلامية أشكالا متعددة ومختلفة، بدءا من حركة النهضة التونسية، التي يطلق أعضاؤها على أنفسهم اسم “المسلمين الديمقراطيين”، وصولا إلى حركة حماس الفلسطينية، التي أرسلت الانتحاريين ليفجروا أنفسهم في “إسرائيل”. في الواقع، ارتكب جميع الذين قمعوهم ثلاثة أخطاء، فهم يزعمون أن الإسلاميين متشابهون، ويقولون أنهم من حيث المبدأ غير ديمقراطيين، ويعتقدون أن الحل رهين الأقوياء.
في هذا السياق، لنبدأ أولا مع مبدأ الدمج، يعتقد النقاد أن الإسلاميين السياسيين يختلفون قليلا عن الجهاديين، على غرار تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة، لأن كلا الصنفين من الجماعات الإسلامية يسعون إلى إعادة إنشاء الخلافة الإسلامية في ظل الشريعة ولا يختلفون إلا في التوقيت والوسائل، والأسوأ من ذلك أن الإسلام السياسي غالبا ما يكون البوابة التي تؤدي إلى الجهاد العنيف.
لسائل أن يسأل، ماذا عن الديمقراطية؟ في الواقع، ما يثير القلق هو أنه حتى الإسلاميين الذين ينبذون العنف يعاملون الانتخابات على أنها “تكتيك” لا غير
في الواقع، يتحمل الإخوان المسلمين جزءا من مسؤولية عدم وضوح الرؤية والتمييز بين الجماعات الأخرى، نظرا لأن قادتها عندما يتحدثون باللغة الإنجليزية عادة ما ينددون بضرورة عدم استعمال العنف، بينما يتحدثون باللغة العربية، وخاصة عندما يتطرقون للشأن الفلسطيني والسوري، يدعون للمقاومة بل وحتى الجهاد. وبالمثل، يبدو أن بعض أعمال العنف ضد الحكومة المصرية؛ هي أعمال ارتكبها متطرفون ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين. فضلا عن أن أبرز الجهاديين على المستوى العالمي كانوا من الإخوان المسلمين، على غرار زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري.
عموما، من غير المنطقي جمع كل هذه المجموعات وتصنيفها ضمن خانة واحدة. فعلى سبيل المثال، يستقي الجهاديون الذين يلجؤون للعنف، حججهم من مصادر كثيرة لتبرير أفعالهم المجردة، والأمر سيان بالنسبة للسلفية المتطرفة في المملكة العربية السعودية، التي تتنافس مع الإخوان المسلمين. كما يستنكر الجهاديون ما تقوم عليه مبادئ الإسلاميين الأكثر اعتدالا، نظرا لاهتمامهم بالعبادات والخدمات الاجتماعية والانتخابات.
علاوة على ذلك، يعتقد هؤلاء الجهاديون أن في القوانين التي صنعها البشر إهانة للقوانين الإلهية. وبالتالي، معاملة جميع الإسلاميين كجهاديين شبيه بالقول إن الديمقراطيين الاشتراكيين هم تماما مثل الألوية الحمراء الإيطالية لأنهم جميعا قرأوا أعمال كارل ماركس.
في هذا الإطار، لسائل أن يسأل، ماذا عن الديمقراطية؟ في الواقع، ما يثير القلق هو أنه حتى الإسلاميين الذين ينبذون العنف يعاملون الانتخابات على أنها “تكتيك” لا غير، رجل واحد، صوت واحد، مرة واحدة. على سبيل المثال، إن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي كان نموذجا يحتذى به عن الإسلاميين، متساهل مع الدين وله طموحات كبيرة فيما يتعلق بالإصلاحات الليبرالية.
أما في مصر، يبدو أن الرئيس الإسلامي محمد مرسي، الذي لم تدم فترة رئاسته طويلا، كان يحكم جماعة الإخوان وحده. وقد قام بتثبيت الإخوة في جميع أنحاء البيروقراطية ونصب نفسه على رأس السلطة القضائية. وبسبب إقصائه بقية الأطراف السياسية الأخرى ساهم في إثارة الاحتجاجات الجماهيرية.
لقد كان لدى حركة النهضة الحس السليم لتقاسم السلطة مع جماعات أكثر علمانية، بل اختارت التنازل عنها. ويوعز ذلك لإدراكها أن الانتقال الديمقراطي الهش يتطلب توافق الآراء
في المقابل، يفترض النقاد أن أردوغان ومرسي معيبان لأنهما إسلاميان، لكن هناك تفسير آخر. فقد اتبع هؤلاء نفس تكتيكات الرجال المصريين والأتراك الأقوياء، لاستباق جهود “دولة الأمن”، وللاستيلاء على السلطة مرة أخرى، ولكن بالنسبة لمرسي، فقد باءت جهوده بالفشل.
أما في تونس، فهناك مثال أكثر بعثا للتفاؤل والأمل، حيث انطلقت من هناك شرارة الربيع العربي. فقد تفادت تونس الوقوع في حالة من فوضى الحرب الأهلية كما حدث في ليبيا، وتجاوزت قبضة البوليس السري كما هو سائد في مصر والجزائر.
في الحقيقة، لقد كان لدى حركة النهضة الحس السليم لتقاسم السلطة مع جماعات أكثر علمانية، بل اختارت التنازل عنها. ويوعز ذلك لإدراكها أن الانتقال الديمقراطي الهش يتطلب توافق الآراء. أما في المغرب، فقد تخلى الملك عن بعض السلطة للبرلمان وسمح لرئيس وزراء إسلامي بقيادة تحالف واسع.
وفي شأن ذي صلة، يكمن الخطأ الثالث في الاعتقاد بأن الدول يمكن أن تعالج أوجه قصور الإسلام السياسي من خلال الاعتماد على الملوك المطلقين والرؤساء الذين نصبوا لمدى الحياة، علما بأن سجلهم كان رهيبا. ومن بين هذه الأمثلة نذكر حكم الشاه في إيران الذي أدى إلى اندلاع ثورة سنة 1979، مرورا بإرهاب صدام حسين في العراق، وصولا إلى الانقلاب الذي عكس الانتصارات الانتخابية للإسلاميين في الجزائر سنة 1992، وسحق الاحتجاجات من قبل بشار الأسد في سوريا سنة 2011.
لقد ارتكب السيسي، وهو الرئيس الحالي، أسوأ مذبحة في التاريخ المصري الحديث، التي أسفرت عن مقتل المئات من أنصار مرسي في القاهرة سنة 2013.
على هذا الأساس، يبدو جليا أن القمع لا يمكن أن ينتج في أحسن الأحوال إلا مجرد استقرار هش، بينما يؤدي في أسوأ الحالات إلى نشوب حربا أهلية. وعلى عكس المستبدين السابقين في بلدان مثل كوريا الجنوبية وتايوان، فشلت معظم دول الشرق الأوسط في تحقيق الازدهار الدائم.
لا السيسي ولا تنظيم الدولة
بعد أربع سنوات من الإطاحة بمرسي، من الصعب الادعاء بأنه كان أسوأ من الجنرال عبد الفتاح السيسي. لقد ارتكب السيسي، وهو الرئيس الحالي، أسوأ مذبحة في التاريخ المصري الحديث، التي أسفرت عن مقتل المئات من أنصار مرسي في القاهرة سنة 2013. وبالتالي، أمست البلاد أكثر قمعا مما كانت عليه في فترة حكم حسني مبارك، ومع ذلك مازالت تواجه التمرد الجهادي في سيناء. كما يبدو أن السيسي ليس لديه أدنى فكرة عن كيفية خلق فرص عمل للشباب العاطل عن العمل، الذين يزداد عددهم بشكل متواصل.
يجب أن تشمل المنافسة الإسلاميين، لأن الإسلام أمر محوري في مجتمع الشرق الأوسط
بناء على المعطيات الآنف ذكرها، يمكن القول إن الاضطهاد وسوء الحكم قد شكلا منذ البداية مشهد أزمة العالم العربي، ومن غير المرجح أن يتم إيجاد حل لها في القريب العاجل. ولكن، مما لا شك فيه لن يؤدي الاستبداد إلا إلى طريق مسدود. وفي خضم الخيارات السيئة، يتمثل السبيل الوحيد للخروج في الانفتاح التدريجي على الاقتصادات والسياسات العربية. مما يعني السماح للأيديولوجيات بالتنافس، طالما أنها ستتخلى عن العنف وتحترم القواعد الديمقراطية. كما يجب أن تشمل المنافسة الإسلاميين، لأن الإسلام أمر محوري في مجتمع الشرق الأوسط.
في هذا الصدد، لا يمكن اعتبار الإسلاميين السياسيين بمثابة المسيحيين الديمقراطيين في العالم العربي، وذلك لأنهم في العادة يتبنون مواقف غير ليبرالية في جل القضايا، بدءا من موقع الإله في السياسة إلى دور الذي تضطلع به المرأة. ومع ذلك، بإمكانهم أن يكونوا براغماتيين ولا يمكن تجاهلهم. وبدلا من محاولة سحقهم جميعا، الأمر الذي من شأنه أن يوحدهم ويوجههم نحو المزيد نحو التطرف، ينبغي أن يكون الهدف هو العمل مع المعتدلين منهم ومطالبة البغيضين بإصلاح أنفسهم، ومحاربة الأشد خطرا. وبهذه الطريقة قد يشكل الإسلاميون حاجزا يعيق الجهادية بدلا من أن يكونوا معبرا لها.
المجلة: الإيكونوميست