أحدث استهداف موقع عسكري أمريكي شمال شرق الأردن بطائرة مسيرة، ما أسفر عن مقتل 3 جنود أمريكيين وإصابة 34 آخرين، ارتباكًا كبيرًا في المشهد الإقليمي، كون العملية نقلة نوعية فريدة في معركة المواجهات بين الولايات المتحدة وخصومها في المنطقة، وهي المعركة التي ارتفعت درجة سخونتها مع بداية الحرب التي تشنها قوات الاحتلال ضد غزة منذ 8 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي بدعم سياسي وعسكري ولوجستي أمريكي.
حمّلت وزارة الدفاع الأمريكية “المليشيات المدعومة من إيران مسؤولية الهجمات على القوات الأمريكية” بحسب البيان الصادر عنها، الذي أكدت فيه الرد على تلك العملية لكن في الوقت والمكان الذي تختاره واشنطن، فيما أعلنت ممثلة إيران بالأمم المتحدة، أن لا علاقة لبلادها بهذا الهجوم، واصفة – في بيان لها – ما يحدث بأنه “انتقام متبادل بين القوات الأمريكية وقوات المقاومة في المنطقة” بحسب وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “إرنا”.
القيادة الوسطى الأمريكية:
– تم إجلاء 8 من جنودنا الجرحى من #الأردن للحصول على رعاية صحية متقدمة
– الهجوم وقع على قاعدة الدعم اللوجيستي عند البرج 22 من شبكة الدفاعات الأردنية
– هناك نحو 350 جنديا من المشاة والقوات الجوية في القاعدة يقومون بمهام دعم pic.twitter.com/t9gBXr2f5c
— قناة الجزيرة (@AJArabic) January 29, 2024
وقد تبنت “المقاومة الإسلامية في العراق” المدعومة من طهران، مسؤولية هذا الاستهداف إلى جانب 3 قواعد أمريكية أخرى، 2 منها في سوريا هما: قواعد الشدادي والركبان، والثالثة منشأة زفولون البحرية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مشددة على أنها ستواصل الهجوم على القواعد التي تتمركز فيها القوات الأمريكية، ردًا على الهجمات في غزة، وفق بيانها الصادر الأحد 28 يناير/كانون الثاني 2024.
يعد الهجوم على قاعدة أمريكية في المنطقة بشكل مباشر من جماعات وتنظيمات مسلحة وإسقاط عدد من القتلى في صفوف الأمريكيين، الأول من نوعه منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، بما يشير إلى تغير واضح في قواعد الاشتباك بالمنطقة، وتجاوزها للخطوط التقليدية المتعارف عليها منذ سنوات، وسط تحذيرات من تضخم الأزمة وتوسيع دائرة المواجهات.
“البرج 22”.. مأزق التوريط الأردني
وقعت العملية في أحد الأماكن الإستراتيجية أقصى الشمال الشرقي للأردن عند الحدود مع سوريا والعراق، ويعرف هذا المكان باسم “البرج 22” حيث يتمركز فيه عدد من الجنود الأمريكيين، وهو على مقربة من قاعدة “التنف” الواقعة في الجهة المقابلة داخل الحدود السورية، وتضم عددًا صغيرًا من الجنود الأمريكيين.
ويضطلع هذا المكان بتقديم الدعم للقوات المتمركزة في قاعدة “التنف” داخل سوريا، كذلك مكافحة الجماعات المسلحة المدعومة من إيران، فضلًا عن تقديم المساعدة في مراقبة ما تبقى من تنظيم الدولة “داعش” وحماية المصالح الأمريكية في تلك المنطقة.
ليس هناك تفاصيل عن حجم وعدد القوات الأمريكية الموجودة في “البرج 22” ولا مستوى تسليحها، إلا أن وكالة “أسوشيتد برس” كانت قد أشارت إلى وجود نحو 3000 جندي أمريكي يتمركزون في الأردن معظمهم في قاعدة الأزرق الجوية، بهدف تقديم المشورة والدعم، بجانب تقديم خدمات الدعم العسكري واللوجستي لقاعدة التنف بسوريا.
وتواجه عمان مأزقًا كبيرًا جراء تلك العملية، فبينما تؤكد واشنطن أن الضربة كانت داخل الأراضي الأردنية على الحدود مع سوريا، يصر الأردن على أنها كانت خارج حدوده، معتمدًا في ذلك على القرب بين البرج والتنف، وفق ما جاء على لسان المتحدث باسم الحكومة، مهند المبيضين، إذ إن الاعتراف بوقوع الحادث في الداخل الأردني يتطلب الرد الفوري، كون هذا الأمر يستهدف سيادة المملكة الوطنية ويهدد أمنها القومي، وهو ما يحاول الأردن النأي بنفسه عنه بالإشارة إلى وقوع الحادث خارج حدوده.
نفذته طائرة مسيّرة واستهدف قاعدة أمريكية على حدود الأردن وسوريا..
مقتل 3 جنود أمريكيين وإصابة 34 في هجوم هو الأكبر من نوعه منذ بدء العدوان على غزة.
كيف علّقت إيران على اتهام الولايات المتحدة لها بالمسؤولية؟ pic.twitter.com/cKlyRtDoTx
— AJ+ عربي (@ajplusarabi) January 29, 2024
تغير قواعد الاشتباك
لم تتعرض الولايات المتحدة ومصالحها في الشرق الأوسط خلال الآونة الأخيرة، تحديدًا منذ بداية الحرب على غزة، إلى هذا النوع من الاستهداف المباشر لمصالحها، إذ كانت المناوشات لا تتعدي كونها ضربات ردع دعائية في المقام الأول بينها وبين طهران وميلشياتها، لكن هذه المرة الوضع مختلف، فالعملية في تنفيذها وما أسفرت عنه من ضحايا في صفوف الأمريكان مغايرة تمامًا لما كانت عليه في السابق، الأمر الذي قد يعني أن كل القواعد والمصالح الأمريكية باتت أهدافًا إستراتيجية لمختلف الجماعات المسلحة.
هذه النقلة النوعية الكبيرة في خريطة المواجهات بين أمريكا وخصومها بالمنطقة تشير بشكل أو بآخر إلى تغير واضح في قواعد الاشتباك، وهو ما أكده المحلل السياسي عامر السبايلة، الذي ألمح إلى أن “استهداف الأردن يعني أن هناك جغرافيا جديدة في المواجهة، وهذا سيأخذنا نحو تصعيد جديد، بسبب وقوع قتلى من الجيش الأمريكي” بحسب تصريحاته لـ”الأناضول“.
جميع المصالح الأمريكية المستهدفة مؤخرًا في المنطقة كانت تقع داخل الحدود التي تنتمي إليها الجماعات المسلحة التي نفذت عمليات بحق تلك الأهداف، سواء في العراق أم غيره، أما عملية البرج بالأردن فهي الأولى من نوعها التي تستهدف فيها جماعة مسلحة هدفًا أمريكيًا خارج الحدود، ما يعني أن احتمال استهداف مصالح أخرى في بلدان مختلفة أمر وارد، وهو ما يقود إلى إمكانية توسيع دائرة الصراع الإقليمي.
ومنذ بداية الحرب على غزة حاولت الإدارة الأمريكية فرض طوق أمني ترهيبي لجميع الكيانات والقوى والجماعات المتشابكة بشكل أو بآخر مع أطراف الصراع في ملف غزة، خاصة إيران وحلفائها، عبر استقدام بارجاتها الحربية العملاقة لمياه البحر المتوسط والأحمر، للحيلولة دون أي تصعيد أو خروج عن النص، لكن يبدو أنها لم تنجح في ذلك، وهو ما أثبته الحوثيون بالأمس واليوم المقاومة الإسلامية في العراق.
سيناريوهات الرد الأمريكي
عملية بهذا الحجم وتلك السردية تتطلب الرد الأمريكي الفوري حفاظًا على سمعة الولايات المتحدة وصورتها الدولية، وردعًا لكل الجماعات الأخرى ودفعهم لإعادة التفكير قبل تكرار مثل تلك العمليات التي تستهدف المصالح الأمريكية، لكن تبقى طبيعة الرد وتوقيته ومكانه شأنًا داخليًا للإدارة الأمريكية بحسب بيان البنتاغون.
ويرى السنابلة أن الرد الأمريكي سيكون حازمًا وفي عدة مناطق، ليس من باب ضرورة الردع والدفاع عن الأمن القومي للبلاد وحسب، لكن من باب الدعاية الانتخابية كذلك في ظل احتدام التنافس بين الديمقراطيين والجمهوريين وتوظيف أي حدث في الداخل والخارج لخدمة الأهداف الانتخابية، منوهًا إلى أن ما حدث في البرج سيكون مادة جيدة للجمهوريين من أجل إظهار ضعف الديمقراطيين وإدارة بايدن، وهو ما يجعل من الرد عملية مؤكدة من وجهة نظره.
كان بايدن قد توعد – خلال بيان نشره البيت الأبيض على موقع الإلكتروني – بمحاسبة المسؤولين عن الهجوم على القاعدة الأمريكية لكن “في الوقت وبالطريقة التي نختارها”، محملًا “جماعات مسلحة تنشط في سوريا والعراق مدعومة إيرانيًا” المسؤولية، واصفًا الهجوم بأنه “حقير وغير عادل”.
فيما شدد رئيس القوات المسلحة بمجلس النواب الأمريكي مايك روجرز، على ضرورة أن يكون هناك رد فوري وحاسم ضد المتورطين في تلك العملية، منوهًا إلى أنه “حان الوقت للرئيس جو بايدن لمحاسبة إيران ووكلائها المتطرفين على مهاجمة قواتنا”، حسبما نقلت عنه شبكة “سي إن إن” الأمريكية.
#الرئيس_الأمريكي جو #بايدن يطلب دقيقة حداد على أرواح الجنود الثلاثة الذين لقوا مصرعهم إثر استهداف #قاعدة_أمريكية بمسيرة في #الأردن ، وتعهد بالرد.#آخر_الأحداث pic.twitter.com/lqrgYaCJDo
— akhar alahdathآخر الأحداث (@AkharAlahdath) January 29, 2024
ورغم محاولة واشنطن توظيف المشهد الملتهب في منطقة الشرق الأوسط لتحقيق أكبر قدر من المكاسب والعودة مجددًا للمنطقة بعد غياب دام عدة سنوات، فإن توسيع دائرة الصراع بسرديته الجديدة تلك ودخول لاعبين جدد مسألة لا تصب في صالحها بالمرة، هذا إذا ما وضع في الاعتبار المشهد الداخلي الأمريكي واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية وما تفرضه من تحديات ومقاربات خاصة، بجانب تجاوز الجماعات المسلحة المدعومة من إيران للخطوط الحمراء المعمول بها، وهو ما أكدته جماعة الحوثي في اليمن والمقاومة الإسلامية في العراق، وربما يتسع القوس ليشمل تنظيمات إقليمية أخرى في ظل حالة الفوضى التي تخيم على الساحة.
لكن في المقابل فإن واشنطن أمام اختبار حقيقي لسمعتها الدولية، وهو ما يرجح احتمالية أن يكون هناك رد قوي على حادثة البرج، قد يكون في العراق أو سوريا، وربما لبنان، وبنسبة أقل في الداخل الإيراني، لكن هذا يتوقف على مقاربات الإدارة الأمريكية ورؤيتها للمشهد بما يحقق الهدف من الرد دون توسيع دائرة المواجهات وإخراجها عن السيطرة.
القوات الأمريكية “في طريق الأذى”
لا يمكن قراءة تطورات المشهد الحاليّ بدرجات حرارته المرتفعة بمعزل عما يحدث في قطاع غزة، حتى إن لم يكن ذلك المؤشر الوحيد لكنه الأبرز في ظل الدعم غير المسبوق الذي تقدمه الولايات المتحدة لحليفها الإسرائيلي، لمساعدته في حرب الإبادة التي يشنها ضد نساء وأطفال غزة وأسفرت حتى الآن عن أكثر من 26 ألف شهيد ونزوح ما يقرب من مليوني فلسطيني.
جماعة “المقاومة الإسلامية العراقية”، في بيانها على صفحتها بمنصة “تليغرام”، قالت صراحة إنها تستهدف وبشكل متكرر القواعد التي تتمركز فيها القوات الأمريكية وقوات التحالف في منطقة الشرق الأوسط “ردًا على الهجمات في غزة”.
الطرح ذاته أكده نائب الرئيس التنفيذي لمعهد “كوينسي” للدراسات الأمريكي، تريتا بارسي، الذي حمّل في تغريدة على حسابه الشخصي على منصة “إكس”، الرئيس الأمريكي بايدن المسؤولية الأولى عن هذا التصعيد، موضحًا أنه برفضه الضغط على حكومة الاحتلال لوقف تلك الحرب إنما يضع القوات الأمريكية “في طريق الأذى”.
Some thoughts on the attacks on US troops by Iraqi militias earlier today and the risk of a broader escalation:
For more than three months, many of us have warned that in the absence of a ceasefire in Gaza, the risk of the US getting bogged down in yet another war in the Middle…
— Trita Parsi (@tparsi) January 28, 2024
وأوضح بارسي في تغريدته أن الجنود الأمريكيين الثلاث الذين قتلوا في البرج لم يُقتلوا دفاعًا عن مصالح بلادهم إنّما “دفاعًا عن رفض بايدن الضغط على إسرائيل من أجل وقف إطلاق النار”، منوهًا أنه – أي بايدن – “عرّض حياتهم للخطر للدفاع عن قدرة إسرائيل على مواصلة مذبحتها في غزة”.
ويطالب الأكاديمي الأمريكي بايدن بسحب قواته من العراق وسوريا والضغط على تل أبيب لوقف إطلاق النار، إذا ما أراد حماية القوات الأمريكية بشكل حقيقي وتجنب سقوط المزيد من الضحايا، لافتًا إلى أن المذبحة التي ينفذها جيش الاحتلال ضد القطاع “تغذي 4 جبهات تعرض الولايات المتحدة للخطر” في إشارة إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن.
كما يجب الوضع في الاعتبار ما تعرضت له طهران خلال الآونة الأخيرة من استهداف لكبار قادتها في العراق وسوريا ولبنان، وهو الأمر الذي توعدت بالرد عليه دون تحديد طبيعة ومكان الرد، ما قد يفتح الباب على العديد من الاحتمالات بشأن حادثة البرج، التي تأتي في المقام الأول في ضوء الصراع بين أمريكا وخصومها في المنطقة، إذ ربما تجد طهران في ذلك التوقيت الفرصة المناسبة للرد بهذا الشكل القوي، مستندة في ذلك إلى حرص واشنطن عدم التصعيد لاعتبارات عدة.
قراءات عدة لحادثة البرج، لكنها في النهاية تمثل نقطة مفصلية في مسار الصراع بالمنطقة، قد تعيد ترتيب المشهد وتغير قواعد اللعبة مرة أخرى، وإن كان ذلك ليس مشروطًا بانعكاسات مباشرة على المشهد في غزة، يتوقف هذا على رد الفعل الأمريكي الذي سيسعى بكل السبل لتحقيق التوازن بين الرد حفاظًا على سمعته ومقاربات تجنب توسع دائرة الصراع.