يحيي أتراك تراقيا الغربية، يوم 29 يناير/ كانون الثاني من كل عام، ذكرى المسيرات التي أطلقوها لمقاومة “الصهر الإثني” في اليونان عام 1988، ردًّا على السياسات اليونانية المتزايدة ضد الأتراك المسلمين، وحرمانهم من الحقوق التي ضمنتها اتفاقية لوزان.
المسلمون الأتراك في اليونان
كانت اليونان من أوائل الدول الأوروبية التي وصلها الإسلام، إذ يعود الوجود الإسلامي فيها لعام 654م، والذي توسّع خلال الفترة العثمانية، قبل أن يتراجع مع انهيار الإمبراطورية، ويصل عدد المسلمين الإجمالي في اليونان اليوم إلى حوالي 650 ألف نسمة، بحسب تصريحات لرئيس رابطة المسلمين في اليونان.
يقيم 150 ألفًا منهم في منطقة تراقيا الغربية، محافظات شمال شرق اليونان، وهم المسلمون الأتراك الذين استثنتهم اتفاقية التبادل السكاني بين اليونان وتركيا بعد معاهدة لوزان، إذ غادر مئات الآلاف من المسلمين اليونان باتجاه تركيا، بينما هاجر أكثر من مليون مسيحي باتجاه اليونان.
نصت معاهدة لوزان للسلام عام 1923 على منح المجتمع التركي في تراقيا الغربية وضع “الأقلية”، وتتضمن المواد من 37 إلى 44 من معاهدة لوزان على لوائح تتعلق بحقوق الأقليات غير المسلمة في تركيا، وتنص المادة 45 على أن هذه الحقوق التي تمنحها تركيا للأقليات غير المسلمة، تمنحها اليونان أيضًا للأقليات المسلمة الموجودة على أراضيها.
لكن المسلمين الأتراك يعانون من تمييز في عدة مستويات حتى يومنا هذا، ونتيجة لسياسات القمع ضدهم، انخفض معدل الأتراك في المنطقة من 65% من سكان تراقيا الغربية في عشرينيات القرن الماضي إلى 30%، كما انخفضت ملكيتهم للأراضي من حوالي 84% في عام 1923 إلى 25%.
يحافظ المسلمون في تراقيا الغربية على نسيجهم الاجتماعي وعاداتهم وثقافتهم، وتنتشر المساجد في أحيائهم، على خلاف وضع المسلمين في بقية أنحاء البلاد، كما يعيش حوالي 6 آلاف تركي في جزيرتَي رودس وكوس في بحر إيجه، لكن اليونان لا تعترف بهم كأقلية ويخضعون لسياسات الاستيعاب، لأن هاتين الجزيرتَين كانتا تحت النفوذ الإيطالي عند توقيع معاهدة لوزان.
السياسات اليونانية تجاه الأقلية التركية بعد انقلاب عام 1967
مع وصول المجلس العسكري إلى سدّة الحكم في اليونان عام 1967، وعقب قيام تركيا بعملية السلام في قبرص في السبعينيات، بدأ التضييق على الأتراك في تراقيا الغربية، واُعتبر استخدام صفة “الترك” جريمة، وفي الثمانينيات حُظرت الجمعيات التي تحمل صفة “تركية” في أسمائها، ومن بعدها أُلغي قانون انتخاب المفتين وبدأ تعيينهم بمرسوم رئاسي في التسعينيات.
إنكار الهوية العرقية
في العصر الذهبي للعلاقات بين تركيا واليونان، كانت اليونان تستخدم رسميًّا مصطلح “الأقلية التركية”، إذ استبدلت في الخمسينيات من القرن الماضي مصطلح “المسلمين” بـ”الأتراك”، و”المدارس الإسلامية” بـ”المدارس التركية”، لكن مع تدهور العلاقات بين البلدَين سعت اليونان إلى تجاهل الأقلية التركية كأقلية عرقية وتحويلها إلى أقلية دينية.
تجادل الإدارة اليونانية أن مصطلح “الأقلية التركية” غير مدرج في معاهدة لوزان، إلا أن الجانب التركي يرى أنه “رغم استخدام لفظ “مسلم” في مواد الاتفاقية التي تحمل عنوان “حماية الأقليات” في معاهدة لوزان للسلام، إلا أنه يفهم بوضوح من صفة “تركي” في أحكام أخرى من المعاهدة ومن البيانات الواردة في محاضر المؤتمر، أن الأقلية في تراقيا الغربية التي استثناها تبادل السكان كانت من الأتراك”.
بالإضافة إلى ذلك، “عرّفت الاتفاقية والبروتوكول الموقّع بين تركيا واليونان بشأن تبادل السكان الأتراك واليونانيين، وكذلك وثائق إيتابلي الممنوحة لأولئك الذين لم يخضعوا للتبادل، الباقين في تراقيا الغربية على أنهم “أتراك”، ويتم تعريف المقيمين في إسطنبول على أنهم “يونانيون””.
انطلاق مسيرات عام 1988
وصلت سياسات القمع ضد أتراك تراقيا ذروتها في الثمانينيات، وفي عام 1987 صدرت أوامر إغلاق اتحاد الشباب التركي في كوموتيني، واتحاد المعلمين الأتراك واتحاد زانثي التركي لأنهما كانا يحملان كلمة “ترك”، وكان هذا بمثابة إنكار كامل للوجود التركي في اليونان.
وكانت ردة فعل الأقلية على هذه القرارات هو الخروج بمسيرات حاشدة شارك فيها الآلاف، وأعلنوا رفضهم سياسات الاستيعاب وسلب حقوقهم في المواطنة، وأصبح يوم 29 يناير/ كانون الثاني 1988 هو يوم المقاومة الوطنية، وأكّد سكان تراقيا تمسُّكهم بحقهم في العيش على أراضيهم وحماية حقوقهم كاملة.
كان الدكتور الراحل صادق أحمد أحد أهم رموز هذا النضال، والذي بدأ بحملة للفت الانتباه إلى انتهاكات حقوق الأتراك عام 1985، وحُكم عليه بالسجن لمدة 30 شهرًا عام 1988، وبسبب مخاطبته أتراك تراقيا الغربية بكلمة “الأتراك”، حُكم عليه مجددًا بالسجن عام 1990.
وفي الذكرى السنوية الثانية ليوم النضال الوطني، قامت مجموعات يونانية متعصّبة بتنفيذ هجمات جماعية ضد الأتراك في كوموتيني وزانثي، استمرت يومَين بغطاء من الشرطة اليونانية، تعرض خلالها أكثر من 500 متجر ومكان عمل تابع للأتراك للنهب والتدمير، وكان كثير من الأتراك عرضة للضرب والاعتداء، بمن فيهم المفتي الراحل زانثي محمد أمين آغا، وعضو البرلمان المستقل آنذاك أحمد فايك أوغلو.
يرى كثير من مواطني تراقيا الغربية أن النضال الذي انطلق عام 1988 كان له أثر كبير على إيصال قصتهم وقضيتهم للعالم، وعلى الاعتراف بهم، وقال إبراهيم شريف، مفتي كومولجينة ورئيس المجلس الاستشاري للأقلية التركية في تراقيا الغربية: “الأقلية التركية في تراقيا الغربية استعادت حق المواطنة بفضل النضال الذي خاضته في 29 يناير/ كانون الثاني 1988، وروح الوحدة التي تمسّك بها أبناء الأقلية في الأيام التالية له، حيث بدأ الأتراك بالحصول على تراخيص والحق بشراء عقارات مرة أخرى”.
رغم ذلك، يعتقد أتراك تراقيا الغربية أن طريقهم لا يزال طويلًا، و مدارسهم تغلق لأدنى سبب، ويعانون من مشاكل عميقة متعلقة بإدارة المؤسسات الوقفية والدينية ودور الإفتاء، بحسب مفتي مدينة إسكجه.
مشاكل في التعليم
تعاني منطقة تراقيا الغربية من مشاكل كبيرة في مجال التعليم، وتعتبر من أكثر مناطق اليونان أمّية، بسبب انخفاض جودة التعليم وعدم قدرة كثير من الشباب على الحصول على تعليم عالٍ بسبب مشاكل اللغة، إذ يتعيّن عليهم تعلم اللغة التركية لأنها لغتهم الأمّ واليونانية لأنها لغتهم الرسمية، لكن لا يمكنهم تعلم كليهما بشكل كافٍ في مدارسهم، حيث لا يوجد عدد كافٍ من المعلمين.
تضمن الاتفاقيات حق الأقليات بالحصول على تعليم ثنائي اللغة، لكن مدارس الأقلية التركية تتعرض للإغلاق بشكل منهجي بحجّة نقص الطلاب منذ عام 2011، إذ انخفض عدد مدارس الأقليات في تراقيا الغربية إلى 90 مدرسة، بعد أن وصل عددها إلى 231 مدرسة للأقليات تعمل في جميع أنحاء تراقيا الغربية عام 1995.
هذا فضلًا عن عرقلة المساعي لفتح مدارس جديدة في الأماكن التي ترتفع فيها الكثافة السكانية للأتراك، ويرى الأهالي أن هدف هذه الخطوات هو دفعهم لإرسال أطفالهم إلى المدارس اليونانية، ضمن سياسة الاستيعاب التي تنتهجها الإدارة اليونانية، بينما يدّعي الجانب اليوناني أن هذا ليس “إغلاقًا” لكن “تعليقًا” بسبب نقص الطلاب.
في عام 1951، اتفقت كل من تركيا واليونان على تبادل المعلمين والاعتراف بالشهادات الصادرة من البلدَين، وعلى إثرها تأسّست مدرسة جلال بايار الثانوية في تراقيا الغربية، وكان طاقم التدريس من معلمين تلقوا تدريبهم في تركيا، وعاد الشباب الذين تخرجوا من هذه المدرسة إلى المنطقة كأطباء وأطباء أسنان وصيادلة ومحامين، وبفضل هذه المدرسة أصبح لدى الجالية التركية في تراقيا الغربية ممثلون يمكنهم التعبير عن أنفسهم عبر منصات مختلفة.
لكن آخر تنفيذ لهذه الاتفاقية كان عام 1970، كذلك الحال بالنسبة إلى مواطني تراقيا الغربية الذين تلقّوا تعليمهم في مدارس تدريب المعلمين في تركيا، إذ لم يُمنح أي معلم من الذين درسوا في تركيا تصريحًا للعمل في المدارس التركية المتوسطة في تراقيا الغربية منذ عام 1973.
مع مرور الوقت، تآكلت صلاحيات المجالس التنفيذية المكونة من أولياء أمور الطلاب، في إنشاء المدارس واختيار المعلمين الأتراك وتحديد المناهج الدراسية، لصالح الإدراة اليونانية التي تلعب دورًا حاسمًا في جميع القرارات المتعلقة في التعليم بهذه المدارس.
الحياة السياسية لأتراك تراقيا الغربية
مع تعديل قانون الانتخابات اليوناني في 24 أكتوبر/ تشرين الأول 1990، تعيّن على المرشحين المستقلين تجاوز عتبة الـ 3% كشرط للدخول إلى البرلمان، ما أدّى إلى حرمان الأقلية التركية في تراقيا الغربية فعليًّا من فرصة إرسال مرشحين مستقلين، لأن الحصول على 3% من الأصوات على مستوى البلد يتطلب 200 ألف صوت، وهو أكبر من العدد الكلي للأقلية.
وبالفعل تمكنت الأقلية التركية من انتخاب نائبَين من خلال الانضمام إلى حزب من عام 1927 إلى انتخابات عام 1989، وشاركوا في انتخابات عام 1989 بشكل مستقل لأول مرة، ونجحوا في انتخاب مرشحهم المستقل الوحيد (نائب واحد)، لكن تطبيق نظام العتبة الانتخابية بعد هذه الانتخابات، حرمهم الفرصة من الحصول على تمثيل برلماني.
ولم يتبقَّ أمام أتراك تراقيا الغربية سوى خيار واحد لإسماع أصواتهم في البرلمان، ويتمثل هذا الخيار في التوحُّد حول المرشحين الأتراك الذين ترشحهم الأحزاب اليونانية، ففي الانتخابات العامة في 21 مايو/ أيار الماضي، شهدت أصوات المرشحين الأتراك في تراقيا الغربية ارتفاعًا مقارنة بالانتخابات العامة التي جرت عام 2019، ودخل 4 أتراك إلى قبّة البرلمان اليوناني تحت مظلة حزبَين سياسيَّين يونانيَّين.
تأملت الأقلية التركية في تراقيا الغربية أن تنعكس الأجواء الإيجابية مؤخرًا بين تركيا واليونان على قدرتهم في تحصيل حقوقهم وتحسين ظروفهم الحقوقية والمعيشية، والتي تُوِّجت بزيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأثينا نهاية العام الفائت، على هامش مشاركته في الاجتماع الخامس لمجلس التعاون التركي اليوناني رفيع المستوى، التقى خلالها أردوغان بأعضاء المجلس الاستشاري للأقلية التركية في تراقيا الغربية.