لا يكاد يغيب اسم منطقة السيدة زينب بريف دمشق عن واجهة الأحداث الميدانية في سوريا مؤخرًا، حتى يتصدر المشهد من جديد مع كل قصف ينفّذه الاحتلال الإسرائيلي على أهداف داخل سوريا.
إذ شهدت المنطقة الواقعة جنوب العاصمة السورية خلال الـ 3 أشهر الأخيرة 7 هجمات جوية وصاروخية، استهدفت بشكل رئيسي مقرات عسكرية إيرانية، ونجم عنها مقتل أكثر من مستشار عسكري إيراني وعناصر، كان آخرها أمس الاثنين.
وبحسب وسائل إعلام إيرانية، قُتل 4 أشخاص -لم يُكشف عن هويتهم- وأُصيب آخرون، نتيجة استهداف صواريخ إسرائيلية مزرعة تابعة للحرس الثوري الإيراني في محيط السيدة زينب.
وقبل الهجوم الأخير، قتلت غارة إسرائيلية في أواخر ديسمبر/ كانون الأول الماضي أحد كبار قادة الحرس الثوري، العميد رضي موسوي، في منطقة السيدة زينب، وفي مطلع الشهر ذاته أعلن الحرس الثوري الإيراني مقتل اثنين من مقاتليه في سوريا بضربة إسرائيلية في المنطقة ذاتها.
وفي هجوم مماثل، أدّى قصف إسرائيلي صاروخي في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 إلى مقتل اثنين من المقاتلين الأجانب التابعين لإيران في محيط السيدة زينب.
وإذ يكشف هذا الاستهداف الذي يتكرر للسيدة زينب تفاقمًا للتوتر في المنطقة على خلفية الحرب على غزة، فإنه في الآن ذاته يسلِّط الضوء على أهمية هذه المنطقة بالنسبة إلى إيران.
السيدة زينب.. من سنّية إلى شيعية
إلى الجنوب من دمشق بنحو 15 كيلومترًا، تقع منطقة السيدة زينب التي يقفز على الفور نفوذ إيران في سوريا إلى الذهن بمجرد ذكرها، والتي تحولت من بلدة صغيرة في ثمانينيات القرن الماضي، تسكنها أغلبية سنّية من نازحي القنيطرة وبعض الفلسطينيين وسكان من درعا وغيرهم من الذين لا يمتلكون الأموال للإقامة في دمشق، إلى أحد أهم مناطق نفوذ إيران في سوريا.
كيف بدأت القصة؟
يعود مدير مؤسسة الذاكرة السورية ومؤلف “كتاب البعث الشيعي في سوريا”، عبد الرحمن الحاج، إلى العام 1979، حين “استولت” إيران على مسجد سنّي في البلدة يحتوي على مقام صغير يُعزى إلى السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.
يوضح لـ”نون بوست” أن إيران وضعت يدها على جزء من المسجد بمساعدة أجهزة أمن النظام السوري، ثم استولت على كامل المسجد وحولته إلى مقام شيعي، وتوصّلت بعد ذلك إلى تفاهُم مع الرئيس الراحل حافظ الأسد على توسعة المقام وإعماره، إلى جانب مرقد الصحابي عمار بن ياسر في محافظة الرقة.
على حدّ تأكيد الحاج، هدمت إيران المسجد القديم بمئذنته الأموية، وبنَتِ المقام على الطراز الفارسي “الفاخر”، ليتحول بعد ذلك إلى مزار للحجّاج الشيعة بدعم رسمي إيراني.
لكن التحول الأكبر في تاريخ السيدة زينب بدأ في مطلع تسعينيات القرن الماضي، تحديدًا بعد تدفق أعداد كبيرة من شيعة العراق على خلفية فشل انتفاضة الجنوب العراقي، ومن شيعة السعودية هربًا من المملكة، كما يقول الحاج.
مضيفًا: “في العام 1994 أقام الشيعة حوزة الإمام الخميني بموافقة حافظ الأسد، بهدف تعليم المذهب الشيعي للسوريين واللبنانيين، ومع مرور الوقت تحولت البلدة إلى بلدة شيعية، علمًا أن غالبية سكانها كانوا من السنّة حتى نهاية التسعينيات”.
وخلال العقد الأول من تسلُّم بشار الأسد الحكم بعد وفاة والده عام 2000، افتتحت إيران عشرات الحوزات بعد أن جرى إطلاق يدها في موضوع التبشير المذهبي، وكان لا بدَّ مع زيادة الوجود الإيراني والشيعي في سوريا من معقل له، والمعقل هو السيدة زينب.
يضيف الحاج أن منطقة السيدة زينب أصبحت رمزًا دينيًّا للمقاتلين الشيعة بعد اندلاع الثورة في سوريا، حيث تحولت البلدة إلى معقل ومركز عمليات للمقاتلين والميليشيات الشيعية التي قدمت إلى سوريا لمساندة النظام ضد شعبه.
بحسب الحاج، أدّى نشوب الحرب في سوريا إلى نزوح غالبية سكان البلدة الأصليين (السنّة)، وحلَّ مكانهم الشيعة من إيران والعراق ولبنان والخليج العربي وأفغانستان وباكستان، ويضيف: “معظم السكان اليوم هم من الشيعة”.
ما وراء تركيز الاحتلال عليها؟
وزاد الاحتلال من مراقبة تحركات إيران في للسيدة زينب مع استمرار العدوان في غزة. ويفسّر الحاج استهداف الاحتلال المتكرر للبلدة في الأسابيع الأخيرة، بتواجد كبار قادة إيران فيها، وهو ما يتفق معه مدير برنامج الدراسات الإيرانية في معهد الشرق الأوسط للدراسات السياسية نبيل العتوم، والكاتب المهتم بالشأن بالإيراني عمار جلو.
ويقول العتوم لـ”نون بوست”: “السيدة زينب من أهم المناطق السورية في دمشق (بالنسبة لطهران)، إذ يقيم فيها الحرس الثوري ووكلاء إيران خاصة القيادات، وهي ذات أهمية استراتيجية للحرس الثوري في سوريا”، مؤكدًا أن “المنطقة شهدت حفر أنفاق وخنادق داخل كتلة من الأبنية السكنية في المدينة”.
طبقًا للعتوم، تضمّ المنطقة التي يتم الحفر فيها مقرات ومستودعات سرّية للحرس الثوري، كما تضمّ مستودعات أسلحة وذخيرة وصواريخ، معتبرًا أن الحرس الثوري اختار المكان بسبب تداخله بين منازل المدنيين للتمويه والاختباء، خاصة مع وجود مئات آلاف من الزوار الشيعة سنويًّا.
يتابع أن هناك أكثر من هدف وراء عمليات الحفر، موضحًا: “الهدف الأول منها هو فتح خنادق ووصلها ببعضها، ليصبح بإمكان العناصر التنقل بين المقرات والمستودعات عبرها دون حاجتهم للخروج، أما الهدف الثاني هو تخزين الأسلحة المتطورة والصواريخ داخل هذه الأنفاق التي سيتم تدعيمها بالحديد المسلح ومواد أخرى تحميها من الانفجارات، ولتسهيل عمليات اللقاءات والاجتماعات وإبعاد الأنظار عن عمليات التخريب والاستهداف والاغتيال كهدف ثالث”.
بدوره، يقول جلو لـ”نون بوست”: من المعلوم أن منطقة السيدة زينب هي مكان تواجُد رأس مشروع إيران المدبّر، لأن قادة إيران يحرصون على التواجد بجانب المقام الديني أو زيارته، لحسابات متعلقة بالبُعد الديني المذهبي”.
يذكر أن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي زار منتصف عام 2023 مقام السيدة زينب، أثناء زيارته الأولى التي يجريها رئيس إيراني إلى سوريا منذ عام 2010، وأظهرت مقاطع مصورة رئيسي وهو يبكي أمام المقام.
في الغالب، بحسب جلو، يعتمد الاحتلال على الأجنحة المناوئة لإيران ضمن النظام السوري للحصول على معلومات عن تحركات قادة إيران في سوريا، ويختم بقوله: “لكن هذا لا ينفي وجود عملاء لـ”إسرائيل” في السيدة زينب وغيرها”.
زيادة في الضربات
مع تصاعد التوتر بين الاحتلال والولايات المتحدة من جهة وإيران من جهة أخرى على خلفية ما يجري في غزة، يرجّح خبراء أن تتصاعد وتيرة الضربات الإسرائيلية على منطقة السيدة زينب، تحديدًا لأن المنطقة تحولت إلى مركز لوجستي إيراني.
بناء على ما سبق، يتوقع الباحث في المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية “أفايب” مصطفى النعيمي، أن يتكرر استهداف المنطقة، على اعتبار أن الاحتلال يرى في التموضع الإيراني في سوريا عمومًا وفي الجنوب السوري على وجه الخصوص تهديدًا لأمنه القومي.
يضيف لـ”نون بوست” أن الاحتلال يستخدم استراتيجية “جزّ العشب” في استهداف فائض القوة الإيرانية في سوريا، ويقول: “الغارات الإسرائيلية في سوريا، وتحديدًا على السيدة زينب، هي جزء من مشروع طويل الأمد، الغاية منه منع تشكيل قوة عسكرية تهدد الأمن القومي الإسرائيلي”.
وخلاصة القول، إنّ منطقة السيدة زينب هي منطقة استراتيجية للمشروع الإيراني، تبدو كعاصمة لشيعة سوريا قرب العاصمة السورية دمشق (10 كم جنوبًا)، يتركّز فيها ثقل بشري موالي لإيران في معظمه (نتيجة السياحة الدينية التي اقتربت من مليوني زائر قبل 2011)، ويمرّ فيها الطرق السريع المؤدي إلى مطار دمشق الدولي، و”إسرائيل” تعرف أهمية المنطقة وخطورتها، وتعمل على ألّا تصبح ضاحية جنوبية بخطورة شقيقتها قرب بيروت.