يعرض التلفزيون الرسمي المصري، خلال الفترة من 24 يناير إلى 6 فبراير من العام الحاليّ، إعلانًا دعائيًا عن معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي تقام في الأثناء دورته الـ55، يحوي الإعلان العديد من الشعارات الرنانة مثل “المعرض الأقدم في الشرق الأوسط” و”المعرض الأكثر حضورًا في العالم”، لكن ما إن تطئ أقدامك أرض المعرض حتى تكتشف أن كل ذلك لم يكن إلا جعجعة بلا طحن على حدّ التعبير الشكسبيري البليغ.
وبينما يأتي المعرض في دورته الحاليّة تحت شعار “نصنع المعرفة.. نصون الكلمة” تجد أن الكثير من المعارف والكلمات قد صُودرت، ومُنعت من المشاركة في المعرض قبل أيام قليلة من انطلاقه دون إبداء أسباب من الجهة الرسمية، رغم أن الأسباب يعرفها المُهتم بالشأن الثقافي في مصر.
وبعد زيارتين إلى المعرض هذا العام ومتابعة الزخم والأحداث قبله وخلاله، كانت أولى الملاحظات المهمة التي يمكن للزائر والمُتابع أن يلحظها جلية أمامه، أن المعرض ورغم كونه شأنًا ثقافيًا مهمًا، فإنه يُنظم بداخل فقاعة معزولة عن الواقع الأليم والحرب التي تدور رحُاها على بعد أمتار من الحدود المصرية داخل قطاع غزة.
ساحة عراك ثقافي ضد “إسرائيل”
في كتابها “لكل المقهورين أجنحة” تحكي الكاتبة والناقدة الأدبية الراحلة رضوى عاشور عن لجنة “الدفاع عن الثقافة القومية” التي تأسست عام 1979 واستمر نشاطها أربعة عقود من هذا التاريخ، وأسسها جماعة المثقفين المصريين للرد على توقيع السادات على معاهدة السلام مع “إسرائيل”، وهي اللجنة التي كانت على صلات تنظيمية واسعة ببقية اللجان المناهضة للتطبيع في الوطن العربي آنذاك.
تبدو تلك الأحداث كأنها تاريخ موغل في القدم بعد موت السياسة وسحق الاحتجاج، لكنها مع ذلك تُلقي الضوء على أيام كان فيها “معرض القاهرة” يؤدي دوره الحقيقي كأكبر حدث ثقافي في الوطن العربي للاحتجاج على “إسرائيل”.
في عام 1981 اشتركت “إسرائيل” في معرض القاهرة الدولي للكتاب عن طريق أحد الوكلاء يُدعى “إدكو انترناشيونال” وقد قدمت اللجنة بيانًا مناهضًا شديد اللهجة اعتراضًا على تلك المشاركة أمرت فيه دور النشر والزائرين بالمقاطعة، وهو ما تحقق بالفعل حين شهدت أيام المعرض تظاهرات رُفعت فيها أعلام فلسطين وملصقات تحمل شعار المقاطعة، وحين رفع الناشر الإسرائيلي علمًا ضخمًا لـ”إسرائيل” داخل القاعة، احتج الزائرون وهبوا على العلم لتمزيقه هاتفين “فلسطين عربية، فلتسقط الصهيونية”.
وقد حدث ذلك كله تحت أنظار السيدة جيهان السادات، زوجة الرئيس المصري آنذاك، والسفير الإسرائيلي إلياهو بن إليسار، وقد أسفرت أيام الغضب تلك في مجملها عن اعتقال الصحفيين المصريين صلاح عيسى وحلمي شعراوي.
وفي عام 1985 وفي أعقاب اجتياح الكيان الصهيوني للبنان بسنوات، لم يكن المصريون قد نسوا المذابح التي ارتكبها الكيان في بيروت، وحين أعلنت الحكومة عن اشتراك “إسرائيل” في المعرض – ولم تكن قد سمحت لها بالاشتراك في العاميّن السابقين بسبب سخونة الوضع السياسي – تحول المعرض مرة أخرى إلى ساحة شعبية للتظاهرات بدأت من يوم 25 يناير/كانون الثاني 1985 وشهدت حرقًا للعلم الإسرائيلي والعديد من المؤتمرات على هامش المعرض، تناهض مشاركة “إسرائيل” وتحتج على معاهدة السلام المُقامة بينها وبين الحكومة المصرية.
وفي النهاية، استطاعت لجنة الدفاع عن الثقافة القومية بالتعاون مع تكتل الأحزاب الوطنية من إسلاميين ويساريين ومحافظين، قطع دابر الوجود الإسرائيلي في معرض الكتاب للأبد.
بعد مرور ما يقارب أربعة عقود من الزمن، يعود المعرض مرة أخرى بالتوازي مع العديد من المآسي التي ترتكبها “إسرائيل” بحق الشعب الفلسطيني، وبينما تتمشى في صالاته، تكاد لا تجد أحدًا يكترث لشيء، ولا تجد العلم الفلسطيني حاضرًا إلا في الجناح الخاص بـ”السلطة الفلسطينية” الصغير الضيق الذي تستحوذ صورة محمود عباس على جدرانه إلى جوار صورة أصغر للزعيم ياسر عرفات.
وفي فعاليات المعرض، لا تكاد تجد ندوة واحدة تُناقش بشكل مباشر الوضع الفلسطيني أو بشكل مستتر من خلال نقاش الأدب الفلسطيني أو أدب المقاومة أو أي حفاوة بشاعر أو كتاب من فلسطين، فالمعرض يُقام على شرف دولة النرويج وأبرز ضيوف الشرف هم أدباء من النرويج كذلك.
لكن الدولة ذات الحضور الشرفي تتحدد قبل موعد المعرض بسنة كاملة، ويمكن أن نعذر القائمين على المعرض لأنهم لم يتنبأوا بما حدث في فلسطين، لكن بينما يدعي النظام في مصر تضامنه الكامل مع فلسطين، ويؤكد الرئيس في تصريحاته على المساعدات التي يُدخلها إلى قطاع غزة بشكل مستمر، كان يُمكن أن يظهر ذلك في أبسط شيء رمزي فيما يتعلق بالهوية البصرية لدورة المعرض المقامة بالتزامن مع الحرب في الفلسطين، لكن هذا الأمر تم تجاهله لصالح هوية بصرية تغازل اليمين القومي المصري “الكيمتي”.
وبين عام 2010 الذي شهد آخر احتجاج لمثقفي مصر وقد كان آنذاك على حضور أحد ممثلي “إسرائيل” إلى ندوة في مكتبة الإسكندرية، حتى عام 2024، نجد أن النظام المصري قد احتكر السياسة وتمظهراتها حتى في الشأن الثقافي بشكل كامل في آخر عقد ونصف من تاريخ البلاد.
قائمة الممنوعات والجيوب الفارغة
يحوي معرض القاهرة واحدة من التناقضات الكثيرة التي تسم المشهد العام في مصر تحت حكم النظام الحاليّ، ففيه يمكنك الحصول على كتب معارضين مصريين منفيين كمحمد نعيم وخالد فهمي وشادي لويس وبلال فضل بسهولة، وأكثرها من دور نشر مصرية بالأساس لأن تلك الكتب لا تتعلق بالشأن السياسي الحاليّ في مصر.
وفي نفس الوقت، لا يمكنك أن تتحصل على كتب عن “السياسة في بر مصر” على حد تعبير العنوان الذي اختاره السياسي المصري عمرو حمزاوي لكتابه والذي نشره في دار رياض الريس (بيروت) وما زال الكتاب ممنوعًا من معرض الكتاب حتى اللحظة، رغم أن كاتبه بحد ذاته، دخل مصر وشارك في الحوار الوطني وانضم إلى جوقة المعارضة في كنف السلطة.
كما أن قائمة الممنوعات تمتد لتطال دور نشر بعينها، فقُبيل انطلاق المعرض بيوم واحد، علمت دار نشر “تنوير” المصرية بأنها ممنوعة من المشاركة دون إبداء أسباب، رغم أنها كانت قد دفعت إيجار جناحها وفرشت معروضاتها بالفعل، والمعروف عن دار تنوير أنها ذات توجه إسلامي، وقد مُنعت هي وبعض من الدور الأخرى ذات التوجه الإسلامي أيضًا من المشاركة.
واجهت دار “الكتب خان” نفس المنع قبل ساعات قليلة من انطلاق المعرض ودون إبداء أسباب أيضًا، لكن كانت هناك حملة كبيرة من التضامن مع الدار وكتابها، على عكس الدور الإسلامية، ما أدى في النهاية إلى مشاركتها بدايةً من اليوم الثاني خلال المعرض.
ويشهد المعرض للعام الثاني على التوالي غياب جناح “الشبكة العربية للأبحاث والنشر” التي كانت قد مُنعت في أثناء المشاركة بمعرض عام 2022 بتهمة التدليس والتزييف والسطو على دار أخرى، فقُبيل المعرض بأيام قليلة، كان صاحب الدار نواف القديمي قد أعلن أنه أغلق مكتبتيه في القاهرة والإسكندرية بسبب التضييق الأمني والتفتيش المتكرر للكتب.
ويشهد أيضًا معرض العام الجاري عودة دار “عصير الكتب” التي مُنعت من الاشتراك في المعرض لعاميّن على التوالي بسبب وشاية “ستالينية” من أحد الصحافيين المنشقين عن جماعة الإخوان المسلمين الذي اتهمها بأنها إخوانية متسترة، ودون أي سبب قانوني، منعت بعدها الدار من المشاركة عاميّن متتاليين.
وإن كانت “عصير الكتب” تم استتابتها وعودتها للمعرض في العام الجاري، فما زال المعرض يشهد غياب “دار تنمية” المصرية التي ذاق صاحبها ومؤسسها خالد لطفي السجن 5 سنوات بسبب بيعه كتاب “الملاك” عن قصة الجاسوس المزدوج أشرف مروان بتهمة نشر أخبار كاذبة. ورغم خروجه من السجن، ما زالت داره يُنكل بها وتُمنع من المشاركة في معرض القاهرة للعام الخامس على التوالي.
ومن الظواهر الأخرى التي يشهدها المعرض الحاليّ ضعف القدرة الشرائية، فبعد أن عانت الدورة السابقة ماديًا بسبب أزمة الدولار، تعاني الدورة الحالية بشكل أكبر بكثير وتهدد الناشرين بالفشل، فعلى مدار سنة كاملة تضاعفت أزمة الدولار 4 مرات، وبينما تسير في المعرض وترغب في شراء شيئًا فإنك لا تجد سعرًا ثابتًا للدولار، فبعض دور النشر تحدده بسعر متفاوت عن سعر السوق السوداء بين 50 جنيهًا إلى 70 جنيهًا، في الوقت الذي يتحدد سعره رسميًا بـ31 جنيهًا.
ونتيجة لذلك، السمة الغالبة على المعرض أن الزائر يتفرج ولا يشتري، وعلى حد قول أحد الباعة في جناح للدور العربية في صالة 3 أن “زائرًا من كل عشرين تقريبًا هو من يشتري”.
وبالنسبة لدور النشر المصرية فهي أيضًا تعاني من أزمة في البيع، فلقد مستهم أزمة الدولار التي تسببت في غلاء أسعار الورق والطباعة وخاماتها بصفة عامة والتي تضاعفت بنسبة 400% في غضون عاميّن، فأصبح سعر الكتاب المصري مماثلًا في كثير من الأحيان للكتاب الأجنبي المُسعر بالدولار، وبين هذا وذاك، تجد أن المعرض عاد مكانًا ترفيهيًا للخروج والأكل والشرب في ساحته الكبيرة بالخارج، أكثر منه حدثًا ثقافيًا لعرض الكتب وبيعها.
وتهدد تلك الأزمة معرض القاهرة بأن يصبح مماثلًا لحال الدولة بصفة عامة، عراقة وتاريخ بلا حاضر يُسر الناظرين.