ما فتئت قناة العربية تحرض على تونس وتؤلب الرأي العام المحلي والدولي على خصوم مموليها، فبعد الفضيحة التي لن تنسى لمراسل موقعها الإلكتروني بتونس في 6 من سبتمبر الماضي، الذي زعم أن أهالي الجنوب يدعون إلى الانفصال عن تونس، بثت القناة الممولة سعوديًا “تحقيقًا” زعمت فيه تورط دولة قطر وحركة النهضة في تسفير الشباب التونسي إلى بؤر التوتر خلال سنوات حكم “الترويكا”.
برنامج “مهمة خاصة” الذي بثته “العربية” ليل السبت الماضي، والذي اختارت لحلقته عنوان “قطر .. وشبكات تجنيد الشباب” لم يكن سوى تهريج جديد من قناة لطالما عرفها المشاهد العربي بصورتها الحقيقية في كل حدث كبير تمر به المنطقة.
بالدموع والوقفات الاحتجاجية، اختار مخرج “مهمة خاصة” بداية “تحقيقه” الذي يستحيل أن يكون تحقيقًا صحفيًا علميًا يستوفي الشروط التي اتفق أهل المهنة قاطبة على عدم تجاوزها، وهي الشروط التي تدرسها كل كليات الإعلام في العالم لطلابها الذين اختاروا دراسة الصحافة على أصولها، لينتقل بعدها في تمام الدقيقة الأولى إلى اتهام دولة قطر بتقديم “الرعاية السخية للإرهاب” في تونس والمنطقة كما تظهر شهادات سجلها فريق العمل مع عائلات الشباب المغرر بهم.
ولإضفاء نوع من التشويق والإثارة و”الشو”، اختار القائمون على عملية المونتاج تركيب مقطع فيديو يظهر مقاتلين من تنظيم الدولة الإسلامية ينصتون لكلمة أحد قيادييهم يحثهم على “نصرة الله” لأن في ذلك تثبيت لأقدامهم ومن ثم فيديو آخر يظهر تدريب مقاتلين في معسكر أبي عمر البغدادي.
يواصل برنامج “مهمة خاصة” استجواب أولياء بعض الشباب الملتحقين ببؤر التوتر، ومسؤولين رسميين وناشطين وصحفيين وخبراء، اتفقوا كلهم على اتهام قطر وحركة النهضة بدعم التحاق تونسيين ببؤر التوتر
في “تحقيقها” الذي بلغت مدته العشرين دقيقة، نقلت العربية عن هالة عمران النائبة بالبرلمان عن حركة نداء تونس ورئيسة لجنة التحقيق البرلمانية في شبكات التجنيد قولها: “هناك ما يقارب 6 آلاف شاب تونسي سافروا إلى خارج الحدود نحو بؤر التوتر قتل منهم 3 آلاف وبقي الآخرون موزعين بين السجون وأماكن القتال”، ثم بثت تصريحًا للسيد محمد السحباني والد أحد ضحايا شبكات التجنيد الذي اتهم ثلاثة أشخاص أصيلي منطقة سجنان التابعة لولاية بنزرت (شمال تونس) بالوقوف وراء تسفير ابنه إلى إحدى بؤر التوتر، ليسارع بعد ذلك معد “التحقيق” إلى اتهام حركة النهضة بالوقوف وراء توفير البيئة الملائمة وتسهيل سبل تورط الشباب التونسي في بعض أشد النزاعات دموية.
يواصل برنامج “مهمة خاصة” استجواب أولياء بعض الشباب الملتحقين ببؤر التوتر، ومسؤولين رسميين وناشطين وصحفيين وخبراء، اتفقوا كلهم على اتهام قطر وحركة النهضة بدعم التحاق تونسيين ببؤر التوتر، فتارة تزعم امرأة ملتاعة من فقدان ابنها أن عبد الفتاح مورو كان محامي لمتورطين في شبكات التسفير، وطورًا يزعم البعض تلقي جمعيات خيرية تمويلات بملايين الدولارات من جهات قطرية لتنفيذ أجندة إخوانية، حتى إنه وبفضل الأموال القطرية السخية، ودائمًا حسب قناة العربية، اشترى “شيخ فقير” سيارة وضيعة فلاحية.
يصرح مهدي بن غربية الوزير المكلف بالهيئات الدستورية والمجتمع المدني للبرنامج بأن الحكومات التونسية المتعاقبة جمدت نشاط أكثر من 100 جمعية كانت تحوم حولها شبهات بارتباطها بشبكات تسفير أو بالإرهاب، في حين تؤكد المعلومات المتطابقة التي حصل عليها كاتب المقال أن أغلب هذه الجمعيات التي تم إغلاقها لم تتورط في أي تمويلات مشبوهة وإنما أغلقت لأنها إسلامية لا غير.
في ختام “تحقيقها” اتهمت قناة العربية شركة “سيفاكس” للطيران التي تعود ملكيتها للنائب عن حركة النهضة محمد فريخة بنقل تونسيين إلى تركيا للالتحاق بساحات القتال في سوريا ونقلت عن منذر قفراشي ووليد جلاد تصريحات تدعم كلامهما.
تجاهلت قناة العربية التحقيقات التي تكشف تلقي جمعيات خيرية تونسية تمويلات سخية من السعودية إبان تولي حركة النهضة مقاليد الحكم، حيث كانت تلك التمويلات تستخدم لنشر الفكر السلفي في البلاد
لقد فشلت قناة العربية أيما فشل في إثبات صدق اتهاماتها بوقوف قطر وحركة النهضة وراء التحاق الشباب التونسي ببؤر التوتر، فالأشخاص المستجوبون والمعلومات المذكورة لا تعدو أن تكون حديث مقاهي يتسامر به الصديق مع صديقه في أثناء لعب الورق وتدخين النرجيلة في إحدى المقاهي المنتشرة على طول البلاد وعرضها.
صحفيًا، لم يكن برنامج “مهمة خاصة” تحقيقًا، بل كان تقريرًا إخباريًا عرضت فيه القناة تصريحات عامة لمسؤولين رسميين وناشطين لطالما رددوها في مناسبات سابقة، بل إن البرنامج لم يعرض ولا وثيقة أو فيديو مسربًا أو صورًا تظهر صدق اتهاماتها لأطراف معينة بالوقوف وراء تسفير الشباب التونسي إلى بؤر التوتر.
على صعيد آخر، تجاهلت قناة العربية التحقيقات التي تكشف تلقي جمعيات خيرية تونسية تمويلات سخية من السعودية إبان تولي حركة النهضة مقاليد الحكم، حيث كانت تلك التمويلات تستخدم لنشر الفكر السلفي في البلاد ومن منا ينسى قوافل الدعاة السعوديين الذين زاروا البلاد خلال الأعوام الثلاث الأولى من الثورة التونسية بإشراف مباشر من المخابرات السعودية.
ختامًا نقول، كان على معدي برنامج “مهمة خاصة” أن يجتهدوا قليلاً ويحترموا المشاهد التونسي القادر على التمييز بين “التحقيق” و”التلفيق” في وقت أصبح يشعر فيه بضيق كبير من المتدخلين في شؤونه وخاصة أولائك الذين “يحسبون أنهم يحسنون صنعًا” و”لكنهم يخربون بيوتهم بأيديهم”.